أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي ما أنقشه، ولا أنقل مما هو موجود من تصاميم متوارثة كما تفعل عادة "الحنّايات". ثم درستُ تصميم الأزياء. ثم ذهبتُ وجئت في الحياة، حتى تعبتُ. ثم قرّرتُ بين سنة وأخرى التمسك ببصيص الفنّ، حتى جاء قرار الحسم.
2024-11-14

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
"التحام"، عمل فني لعائشة بلحاج - المغرب

من قال إنّ التّفاصيل لا تُحيي أو تقتل؟ لأنّها فعلتْ أكثر بطاقتي، بعد أيام وليال من التّفاصيل الصّغيرة الفتّاكة، على الرغم من أنّ كل شيء كان يبدو بسيطاً حين وضعتُ يدي فيه. لعلّ لهاث التّفاصيل سبب في وصولي إلى حفل افتتاح معرضي* متأخّرة. ومن يتأخر عن حفله؟ وجدتُ الأصدقاء والمهتمّين قد ملأوا القاعة، وعَقدُ الفنانة الخفيّ قد انفرط بين أيديهم، متناثراً على الجدران.

كان أثر احتفاءُ الحضور بالأعمال والكلمات المتناثرة هنا وهناك كالسّحر، لتحلّ التفاصيل المبهجة مكان التفاصيل الفتّاكة. وهل الفن شيءٌ إلا سيرة التفاصيل. لفت انتباهي عددُ الأصدقاء الذين فوجئوا بما سمّوه "النُّضج الفني"، على الرغم من أنها تجربتي الأولى في العرض الفردي. ضحكتُ، لأني أعرف القصة من البداية، هي التي لتشعّبها، لا يمكنني أن أرويها بسهولة.

من أين أبدأ الحكاية يا شهرزاد؟

من أنّني كنت أخربش على دفاتري قبل أن أكتب على هوامشها؟ أو من أنّ غرامي بالرسم بدأ قبل الكتابة ورافقها يداً بيد؟ أو من قِصة طفولية لا أنساها لطرافتها وتعبيرها. كنت أقلّد رسوم الأميرات في سلسلة "المكتبة الخضراء"، بخصلات شعرهن الكثيفة، والملامح المنحوتة، سامح الله ناشري السلسلة على الندوب التي تركَتها الرسوم التي جعلتنا نرى وجوهنا الطفولية أقل أنوثة، لأننا لا نملك هذا الشعر، أو الأنف أو الشفاه. لم تصدّق زميلاتي في المدرسة أنني لم أضع الورقة فوق الرسمة، وأنقلها مباشرة من الكتاب. وكنتُ أحلف وأجرِّب أمامهن ما يُثبت براءتي من الغش... عدا ذلك كانت ذكرياتي عن طفولة الرّسم قليلة مع غياب التشجيع.

من لوحات المعرض: "ضجيج"

ركوبُ "كارّْ" الفن

"الكارْ" تعني المهنة عند بعض جغرافيات المنطقة العربية، وفي المغرب "الكار" اسم الباص. فكيف ركبتُ "كارَ" التّشكيل لاحقاً؟ بعد واقعةَ قسم اليمين على نزاهة رسمة الأميرات، بقيت أُخربش أحياناً. كنت غالباً أرسم لإخوتي مشاهد ولوحات تشارك في مسابقات الرسم للمدارس، وكان غشّاً مُبِيناً، لأنهم من يُفترض أن ينفذها، كما كانت كتابتي لملخّصات القصص والروايات المطلوبة منهم. لكننا لم نفز يوماً بشيء، مع أن ما أنجزته كان متقناً إلى درجة أنّني لم أصدق نفسي أنني من نفذه.

لعل هذا ما يميز الرسم عن بقية الفنون، فهو بشكل ما، أكثر انتصاراً لفكرة الموهبة من أيّ فن آخر. وحتماً أكثر بكثير من الكتابة. فكمية القراءات والتجارب التي على الكاتب المرور بها والسكن فيها، من أجل تحفيز قدرته على الكتابة مُرهقة ومتطلبة. فعلى الرغم من نزولي من "كار" الرّسم مبكراً لغياب بيئة مشجِّعة، إلّا أنني لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي ما أنقشه، ولا أنقل مما هو موجود من تصاميم متوارثة كما تفعل عادة "الحنّايات". ثم درستُ تصميم الأزياء. ثم ذهبتُ وجئت في الحياة، حتى تعبت. ثم قرّرتُ بين سنة وأخرى التمسك ببصيص الفنّ، حتى جاء قرار الحسم.

حين سألني الأصدقاء كيف حدثت اللّحظة، التي قلتُ فيها: "باستا". أي "يكفي" بالإسبانية، وهي اللغة الأجنبية الثانية في شمال المغرب. قلتُ: لا توجد "باستا" في الحياة غير "الباستا" الإيطالية. ولا تحْدثُ القرارات بين ليلة وضحاها. لكن القرار النهائي اتّخذ نفسه، حين أدركتُ أن العمر يمرّ ولا يحقق الرغبات من تلقاء نفسه، وهي لا تملك عصا سحرية لتفعل، وأنني سأموت بعد عمر طويل، وفي قلبي غصة الألوان، فعدتُ بحماس إلى مدينة الألوان.

من لوحات المعرض: "صيف"

وقررتُ الخروج بما أنجزته إلى الضوء، حين استوعبتُ أن "كارْ" الصّحافة متقلب، وأن عليّ العودة إلى قائمة "الكارات" التي أحب، فكان التشكيل هو الفائز في لعبة الخيارات، وهل من شيء يتفوق على العمل في ما نحب؟.

لماذا الفنّ "كَارْ"؟ لأنّه لا يحتاج إلى موهبة فقط، عندما تُقرر أخذه جدياً، بل إلى إمكانات مادية مهمّة للصّرف عليه، ولا يمكن الإقدام على المغامرة، طالما لا تسعى إلى التحقق فيها، وإمكانية صنع مسار احترافي قد يستغرق سنوات لا سقف لها.

أين يمكن للضوء أن يضيء أكثر؟

أين يمكن للضّوء أن يُضيء أكثر؟ وكيف لا يلتهم الظّل واللّوحات والجمهور؟ كنتُ أضع كل لوحة في مكانها، في اليومين السابقين للمعرض، وأتساءل عن موطنها الحقيقي في القاعة، كما يتساءلُ المرء عن مكانه في الحياة... لعلّ الزاوية اليمنى أنسب، أو لعلها ستبرز أكثر على الجدار الأسود... احتمالات لا نهاية لها، ولا حلّ لها غير التجريب.

كنت محظوظة بالمسؤولة عن المعرض، الفنانة "فاطمة العسري"، التي أنقذتني من الحيرة، وتكلّفت بإعادة هندسة ترتيب اللّوحات، كما يُعيد أحدنا ترتيب نصوص ديوان شعري، ليخلق لقاءاتٍ جديدة مع القارئ، قد تُغيّر نظرته إلى الكتاب. النّصوص هي هي، ولكن ترتيب مواعيد القراءة يتغيّر. وكنتُ أكثر من راضية.

الصورة أو الكلمة؟

حين يلتقي الناس حول الكتب والكلمات، يبدو المشهد جديداً على تواصل الكاتب مع متلقّي ما يُنتجه، فتولد مسافة لا شعورية بينه والناس، الذين يرونه شديد التعقيد، ولا يمكن خوض محادثة بسيطة معه. فكان جديداً علي التّواصل مع فئات متعددة من الناس الذين تفاعلوا مع اللّوحات، على الرغم من أنّها، من باب الإنصاف، أعمال غير سهلة التلقّي، ولا تُدغدغ مشاعر النّاظر إليها، بل تتطلّب منه جهداً لفكّ الطبقات، ورؤية ما خلف كل طبقة تغطّيها طبقةٌ أخرى شفافة.

من لوحات المعرض: "لقاء"

ولأنني أؤمن بأنّ الشيء الذي بلا عمقٍ فارغ، ولأنّني لم أحبّ إنتاج أعمال تعتمد على الأبعاد الثلاثية، لأنها حرفية جداً ولا تخلق بل تنقُل، صنعتُ طبقات كثيرة من اللّوحات، بعضها فوق بعض. وكان على المتلقّي الاقتراب منها لرؤية التفاصيل تحت التفاصيل، ولم يخب أملي.

ومع أن كثيراً من الجمهور العادي لا يحبّذ الفن التّجريدي، لأنه يفضل أن ترسم له بناية جميلة، أو مشهداً طبيعياً، أو مجموعة من الناس، على لوحات مجرّدة من منطق الواقع. مع ذلك، التجريد في المغرب له جمهور، بل هو الأكثر انتشاراً. لكن من جهة أخرى، هناك فرق بين تجريد يُريق دم الألوان القويّة، وتناقضاتها، ويقدّم لقطات تجريدية ناعمة أو صاخبة، غير أن امتزاجها سلس وواضح وهو النوع الرائج، على الآخر الذي أعتمده، وهو التّجريد التعبيري الذي يعتمد على التركيب، وعلى استعمال المواد، والمختلف في إيحاءاته مقارنة بالأول، الذي لا يقول أكثر مما يُظهره، أي خلقه لأشكال مبتكرة، من ألوان وأبعاد وخطوط.

ذاكرة الضّوء

ليس للضّوء ذاكرة، أو هذا ما نظنّه. فهو يمرّ على الجميع بلا استثناء، لأن ذاكرته مشغولة بالرقص مع الظّلال ومصادره. وهو مختلف إن جاء من مصدر طبيعي كالشّمس أو القمر، عنه حين ينبع من مصباح، أو شمعة أو قنديل. فيضيء الأشياء أحياناً ويعتِّمها أحياناً، بحسب زاوية الانطلاق... في كل الأحوال، لا يملك وقتاً للنسيان أو التذكر. وكم نَغبطه على اتّساعه وسعة صدره، ومساواته بين الأشرار والأخيار، والأماكن والحواس. يا ليت أحدنا أو إحدانا كان ضوءاً أو شجرة.

الفنانة في يوم افتتاح معرضها

الشّجرة هي أهمّ الكائنات في حياتي، فمعها وحدها أتّحدُ، وأجِدُ في صبرها وصمودها وسعة خاطرها مع الفصول، قدوةً ونقيضاً أسعى إلى أن أكونه. وفي المجموعة المعروضة التي يبلغ عددها تسعة وثلاثين عملاً، تحضرُ الشّجرة، فوقَ أو تحتَ الطبقات، صامدةً وحيّة وخضراء وارفة، على الرغم من الظلال والطبقات الشفافة، التي تضم الخريف والضوء والريح... فهي رفيقة الضّوء البرّي، يتناوبان الأدوار ليلاً ونهاراً.

______________________

* افتتح معرض عائشة بلحاج الذي يقدِّم 39 لوحة تشكيلية، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، في غاليري محمد السرغيني في تطوان، ويستمر إلى غاية 21 من الشهر نفسه. وعائشة، على كونها شاعرة وكاتبة وصحافية، فهي فنانة تشكيلية.

مقالات من المغرب

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...