كلنا مستهدفون، كلنا HVT

خوف الناس من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية قد تحوّل إلى خوف من بعضهم البعض. وصار هاجسهم ألا يكون الشخص الذي يقف إلى جانبهم، أو ذاك الذي يقود السيارة التي تسير أمامهم، أو ذاك الذي يقطن في الشقة التي تعلو شقتهم هو من المصنفين HVT.
ناجي العلي - فلسطين

أحمد طلال سلمان*

HVT!! هذا ما حددته وشرحته سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في لبنان، أمام مسؤولين في السلطة اللبنانية.

High Value Target ، ما ترجمته حرفياً "هدف ذو قيمة عالية"، وهو مصطلح عسكري ابتدعه الجيش الأميركي قبل أكثر من ثلاثة عقود، خلال حروبه المتتالية على بلادنا واحتلاله لها، بالإشارة إلى ما أو من يُعتبر أنه يشكّل "تهديداً للسلم العام" وفقاً لمعاييره السياسية والعسكرية.

ثم أضافت: لا تقلق يا "حضرة المسؤول"، فإن الغارة الإسرائيلية الأخيرة في قلب العاصمة بيروت (يومها) ليست في سياق توسيع ميدان الحرب في لبنان، إنما كانت لاستهداف محدد، طال أحد المصنفين "عالي الأهمية" (HVT) ، ولكن مكان وجوده كان خارج النطاق الجغرافي المحدد إسرائيلياً للمناطق "الحربية"، ليس إلا.

فاطمأن "حضرة المسؤول" إلى انحسار هذا الهجوم بمجرد أن نال قصف العدو من هدفه، وسيتوقف بعد ذلك عن الإغارة مجدداً على المناطق "الآمنة"، اللهم إلا إذا قام بتحديد هدف HVT آخر. هذه هي إذاً القيود المفروضة علينا من قبل إسرائيل وحلفائها وشركائها في الحرب علينا، لتكون القواعد الجديدة للاشتباك معنا، كما حددوها هم.

وبعد أن غادرت سعادة السفيرة مكتبه، راح "حضرة المسؤول" يفكر في عواقب تلك القيود، ومدى تأثيرها على الوطن والمواطنين وعلى مجريات الحرب.

فلاحظ أن البلد بمحافظاته كافة وعلى وسع جغرافيته، قد صار منقسماً على قسمين: القسم الأول، يتضمن "ضاحية بيروت الجنوبية"، وبلدات ومدن "الجنوب"، و"البقاع"، قد صنفه العدو منطقة "حربية"، لا حصانة فيها لأحد أو لمنزل أو لمستشفى أو لمدرسة أو لشجرة أو لطريق أو لمخزن، أي لا حصانة لكل ما يوجد على أرضها.

أما القسم الثاني، أي سائر البلاد، فهو ما صنفه العدو، بالتفاهم مع شركائه في الحرب علينا، كمناطق "آمنة"، تستمر الحياة فيها بشكل "شبه طبيعي"، اللهم إلا إذا تم تحديد هدف HVT ضمنها، فيستهدفه العدو بعملية "موضعية دقيقة"، ثم يعود الأمن ليستتب فيها من جديد، بعد رفع الأنقاض وانتشال جثث الشهداء ونقل الجرحى إلى المستشفيات... هكذا، وكأن شيئاً لم يكن.

فامتعض صاحب السيادة والسعادة والمعالي أمام عجزه كمسؤول في الدولة، واضطراره للقبول بشروط تُفرض عليه، ولكنه حمد ربه على استمرار وجود بعض الأمن والأمان، أقله ضمن المرافق الحيوية وفي قسم من المناطق المأهولة، مما يضمن استمرار الحد الأدنى من مقومات الحياة في البلد، يستفيد منها المقيمون في تلك المناطق، أو الوافدون إليها قسراً وبحثاً عن الأمان من نار العدو في حربه على الوطن.

ثم تعمق في تحليله أكثر، فوجد أن في كلا هذين القسمين اللذين حددهما العدو صار استهداف المدنيين، وبينهم النساء والأطفال، واستهداف ممتلكاتهم وبيوتهم وأرزاقهم وآلياتهم المتنقلة أمراً كأنه "طبيعيٌّ ومقبولٌ"، يبرره استهداف ما حددته استخبارات هذا العدو على أنه هدف عسكري أو HVT ، فيسقط الشهداء والجرحى في بيوتهم، أو في البيوت التي انتقلوا إليها بحثاً عن الأمان، أو في السيارات التي يستقلونها للنجاة من نار العدو قاتل الأطفال. فاستغفر "حضرة المسؤول" ربه لما تذكّر أن دولته لم يكن من المسموح لها يوماً أن تتمتع بالقدرة على حماية مواطنيها المدنيين، في أيّة حرب سبق أن شنها العدو الإسرائيلي على أرض الوطن.

ثم لاحظ أن شعور المواطنين بالأمان والسلامة، قد صار مرتبطاً تلقائياً بمن هم أقاربهم أو جيرانهم أو أصدقاؤهم أو معارفهم، والذين قد يكون من بينهم (لا سمح الله) أحد أهدافHVT ، كما أن شعور المواطنين بالأمان مرتبط أيضاً بمذهبهم، وسجل نفوسهم، وديانتهم، ومناطق عيشهم، وأي نشاط يمارسونه، على أن يبقى محصوراً ضمن الشروط والقيود التي وضعها العدو وشركاؤه في الحرب علينا.

واستنتج بالتالي، أن خوف الناس من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية، قد تحول إلى خوف من بعضهم البعض. وصار هاجسهم ألا يكون الشخص الذي يقف إلى جنبهم، أو ذلك الذي يقود السيارة التي تسير أمامهم، أو ذاك الذي يقطن في الشقة التي تعلو شقتهم هو من المصنفين HVT؟

وخاف حينها "حضرة المسؤول" من تأجج الخوف وتحوله (لا سمح الله) إلى استشراء للفتنة بين المواطنين المسالمين، وفرصة أمام من يريدون "الاصطياد في الماء العكر وإشعال أتون الحرب الأهلية"، مجدداً، فاستغفر ربه مرة جديدة.

ثم انتبه إلى أن اختراق الأجواء وشبكات الاتصالات الهاتفية والإنترنت ومراقبة المدن والطرقات على امتداد 24 ساعة بالطائرات المسيرة لتسجيل حركة الناس وتفاصيل حياتهم بالصوت والصورة، واستهدافهم بالطائرات الحربية والبوارج والمدافع والمسيرات الهجومية، قد صار أمراً مبرَّراً بحجة وجود HVT في ما بينهم.

كما انتبه إلى أن إنذار المواطنين بمغادرة أرزاقهم وبيوتهم، حتى لا يكون الموت مصيرهم، قد صار أيضاً أمراً "عادياً وطبيعياً". فكيف تحمي الدولة مواطنيها ومصالحهم، وتصون سيادتها، وفقاً لقاعدة تسمح لعدو الوطن باستهداف كل من أو كل ما يجد فيه HVT كما يحلو له.

تأمل "حضرة المسؤول" ما جال في خاطره، وحلل أبعاده وتأثيراته ونتائجه.

مقالات ذات صلة

فمروحة الأهداف التي يصنفها العدو وشركاؤه في الحرب علينا ضمن فئة HVT هي واسعة جداً، تبدأ باغتيال الأمين العام لحزب الله، ولقياداته، وعناصره، أو أي قيادي أو عنصر في حزب آخر قد يتبنى العمل المقاوِم في وجه العدو الإسرائيلي، من أي دين أو طائفة أو جنسية كان، ولا تنتهي باغتيال مختار أو رئيس بلدية، أو بتدمير مستوصف، أو مقر جمعية أهلية، أو دكان، أو مبنى، أو شاحنة نقل، يعتبر هو أن لهم صلة ما، بشكل مباشر أو غير مباشر، ولو من قريب أو حتى من بعيد، بأي نشاط مقاوِم أو مرتبط بمقاومة إسرائيل وإذلالها لنا. وكيف أنْ ليس لدى العدو أية محرمات أو محظورات قانونية أو إنسانية عندما يستهدف HVT، وكيف أنه يستبيح المناطق المدنية المأهولة عند شنه الغارات الجوية والقصف من البوارج والغواصات لإطلاق الصواريخ والمسيرات التي تحمل أطناناً من المتفجرات، وصولاً إلى تفجير أجهزة اتصال بحامليها أياً كانوا، وأينما وجدوا، وأياً كان من يوجد حولهم أو يسكن في جوارهم.

هذا في الأسباب. أما في النتيجة فعاد إلى ذهن "حضرة المسؤول" آخر إحصاء قُدِّم له رسمياً عن سقوط أكثر من 3,200 شهيدٍ، وأكثر من 14,000 جريحٍ من المواطنين والمواطنات حتى الساعة، وعن تدمير مستمر للمدن والقرى والبلدات على قاعدة الأرض المحروقة، ويصعب إحصاؤه قبل توقف الحرب.

وتذكر كيف أن العدو نفسه، وفي حربه على أهل غزة وسائر فلسطين، قد حوَّلهم جميعاً إلى أهداف HVT، وكيف أنه قتل منهم حتى اليوم أكثر من 52,000 شهيد، وأوقع من بينهم أكثر من 100,000 جريح بقصفه لهم ولمساكنهم ولخيمهم ومستشفياتهم، وكيف منع عنهم وعن أطفالهم الهواء والدواء والماء والغذاء وسائر ضرورات الحياة، في حدّها الأدنى.

ثم تملكه شعور بالإحباط مجدداً، عندما عاد إلى ذهنه عجز مؤسسات دولته عن تحمل مسؤوليتها في حماية الوطن والمواطنين، وقبولها ضمناً بالشروط التي حددها لها جيش العدو بغطاء أميركي وغربي لما هو مسموح وما هو ممنوع. وكيف صار الناطق باسم جيش العدو هو آمر السجن اللبناني الكبير، الذي يعاقِب ويحاسِب من يخرج على القواعد التي فرضها هو علينا، ويشمل ذلك المواطنين والمواطنات من المدنيين والعسكريين والأطباء والمسعفين، أو قبطان سفينة تنقل بضائع أو قبطان طائرة مدنية تنقل قلة من المغتربين العائدين إلى وطنهم، أو كثرة من المواطنين المغادرين له بحثاً عن الأمان، لعله يوجد بينهم HVT .

وبعدها تنهد "حضرة المسؤول" عندما تذكَّر أن في قرار مجلس الأمن رقم 1701 سبيلاً للخلاص ووقف الحرب، مع خشيته بأن يتضمن بعد إعادة إحيائه هذه المرة، وضمن خفايا آليات تطبيقه، وبضمانة من الجيش الوطني وقوات الأمم المتحدة، الشروط التي حددها العدو للاستهداف المباح والمفتوح لأي مشتبه به، أينما كان على الأراضي اللبنانية أو خارجها، مع من يوجد حوله ومعه من ذويه أو من المواطنين والمواطنات الآمنين، الذين شاء لهم القدر التواجد على مقربة منه.

ثم استنتج في قرارة نفسه أن الحقيقة وراء استهداف العدو لمن يصنفهم HVT ليست إلا محاولة منه لاغتيال شعورنا جميعاً، أو مجرد تفكيرنا بأن المقاومة والدفاع عن الوطن لنيل الحق في حياة كريمة هو السبيل الوحيد لننعم بها بعزة وسلام على أرضنا. وحضر أمامه حينها طيف لوجوه المقاتلين البواسل على أرض المعركة، وقد أضاءتها روحهم المعنوية العالية في مواجهة العدو، لحماية أهلهم منه، وتحصين غدهم من جبروته، فخاف أن تخرج تلك الصورة من رأسه، وتلتقطها الطائرة المسيرة التي تعنّ في سمائنا ليلاً نهاراً، ويتحول عندها هو أيضاً إلى هدفHVT . فتوقف "حضرة المسؤول" عن التفكير، وحمل سترته وغادر مكتبه،لينال قسطاً من الراحة، بعد أن أنهكه التعب مما يجول في باله من خواطر.

______________________

*المدير العام لشركة "السفير"
-https://shorturl.at/EZhQn 

مقالات من لبنان

مراثي المدن

أترى ما زالت ورود شرفتنا خضراء؟ هل نجت مكتبتنا وصورنا ومقتنياتنا الخاصة العزيزة وذكرياتنا، من حقد الغارات التي استهدفت الحي من كل الجهات؟ يخصني "رائف" بعناق طويل. حمل "رائف" غيتاره...

وكلّ الجِهاتِ جَنوب

2024-10-10

الآن وهنا، نذكِّر أنفسنا أن هذه معركة الجمال في وجه القباحة، من غزة إلى لبنان، وأن الاحتلال إنما يحيل جمال بلادنا دماراً لأنه يكره قبح ذاته ويعتقد أنه بذلك يسلب...