هالني مشهد دمار سوق "النبطية". اندفعتُ مكسوراً أهيم في شوارع "دريسدن" بلا وجهة حتى أدركتني ساعة البكور. أمشي غريباً تحت مطر تشرين، لا مؤْنس لوحدتي أو خليل يرتق الثقب الذي أصاب روحي في المقتل.
من على جسر نهر "ألبي" وقفت أراقب المدينة. ينخر هديره في رأسي، وصدى سهرات نهاية الأسبوع وحماسة السكارى وضحكاتهم يتردد من حولي، فأحاول جاهداً كظم حزني.
أسافر عبر الزمن، أسأل أساطير الأوَّلين عن حيرة "أم موسى" وصبر "أيوب" وحزن "زينب" وحرائق "عمورية" ومراثي المدن والممالك. تعيدني إلى الواقع نفحة ريح جليدية تصفع وجهي، وهبّة برد تلسع أطرافي، فأدور حول نفسي مثل عقارب الوقت. لا وقت في هذه البلاد لغريب مثقل بالدمع والحزن مثلي ...
وكلّ الجِهاتِ جَنوب
10-10-2024
أتمسك بحافة الجسر، بحثاً عن ثبات جسدي، بعدما تلاشى ثباتي النفسي، أنظر عميقاً إلى مياه النهر، وأردد على وقع كركرتها "فُراقيات" حفظتها عن جدتي "يا غيمة الصبح بالله عليك لمشهد على روحي، وبلغي سلامي للأعز من روحي"، وأمسح دمعاً يهطل بسخاء على خديّ ومثله في قلبي.
يعبر الترام الجسر، أجزع من صوت التحامه بالسكة، يعيد هذا الصوت إلى ذهني، أصوات الغارات على النبطية عندما كنت طفلاً، ورائحة البارود التي تنشرها في الفضاء، وغبار الدمار الذي تخلّفه، وصورة بيتنا في حي السراي.
أترى ما زالت ورود شرفتنا خضراء؟ هل نجت مكتبتنا وصورنا ومقتنياتنا الخاصة العزيزة وذكرياتنا، من حقد الغارات التي استهدفت الحي من كل الجهات؟
إشعارات متتالية تصلني عبر شاشة الهاتف، غارة، أمر إخلاء، اغتيال، غارة أخرى، أعمال البحث مستمرة، زنار نار، حصيلة القتلى، غارة أخرى. أتلقاها صفعة تلو أخرى، وانكساراً عقب انكسار.. تعيدني ذاكرتي المتعبة إلى يوم فرحتي بظهور اسم النبطية على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية، خلال نشرة الطقس في المدن اللبنانية، فينسلخ قلبي من مكانه، يطير بعيداً يحلق مع الريح صوب حيِّنا في النبطية.
من غزة إلى لبنان.. قافلة شهداء
26-09-2024
أطفالاً يلهون في الأزقة الضيقة، هنا الحاجة "أمونة" تسقي أحواض الزريعة، وهذا "فراس" يمنعنا من اللعب في موقف "البنك السويسري" المجاني حمايةً لسيارات الناس، وهذه رائحة القهوة تعبق من بيت الحاج "أبو سعيد" قبل أن يضع الأباريق على عربته ويجرها في السوق بحثاً عن رزقه الحلال، ليستقر بها عند مدخل نزلة "الديماسي".
هل سنعود يوماً يا أمي؟
أشعل سيجارة أخرى، أجيد رثاء الأحبة الذين رحلوا، تحملني إليهم أشواقي وتقودني باتجاه درب "الكفعمي" في "جبشيت"، أمسح الحزن والغبار عن شاهد القبر وقلبي، أتلو "سورة ياسين" وأدعية من الصحيفة السجادية أحبها جدي، وأقرأ بعضاً من شعر "الصافي النجفي" و"الجواهري" و"مصطفى جمال الدين"...
أجيد رثاء الأحبة، لكن كيف أرثي مدينتي؟
أحث الخطى، أترك الجسر باتجاه المدينة، أجهد جسدي لعل ألم المفاصل ولهاث أنفاسي يشغل قلبي عن ما حل به وبنا من مصائب، تسوقني الدروب إلى شرق المدينة، ينهمر المطر مجدداً، أنظر إلى انعكاس وجهي على شاشة الإعلانات والمطر ينصب على رأسي، أبدو كخرقة متسخة مبللة بالدموع والمطر.
أسأل صورتي في الشاشة، هل منحتهم الغارات فرصة لغسل جثمان "حسان" قبل دفنه؟ هل سرحوا شعر "آدم"؟ كيف حالك يا "بلال" بعد كل هذا اليتم؟ من سيرفع الركام من فوق أجساد قتلانا؟
آه يا فقدي كم من العمر سنحتاج لنواسي بعضنا بعضاً؟
يخصني "رائف" بعناق طويل. حمل رائف غيتاره يوماً ما وفرّ هارباّ من جحيم "حلب". غيتاره وحزنه ومحاولاته الفاشلة في تحضير الكبّة الحلبية، هي كل ما تبقّى له من مدينة تجري في عروقه ومن لكنة يتمسك بها وموسيقى تمدّه بالأمل.
أشعل سيجارة جديدة... أسأله، كيف نرثي مدننا يا صديقي؟ أُلقي عليه عبارات يردّدها الخضرجية وسائقو التاكسي في سوق النبطية، أبكي ويبكي معي روح "حلب" و"النبطية".
تسعفنا اللغة الألمانية في حزننا، فنقترض منها مصطلح "ruinenlust" أو رغبة الخراب، هو شعور المتعة المستمَدة من قضاء الوقت بين الأنقاض، ردة فعل عاطفية ضد الحداثة وعبادة الابتكار، إعلان متمرِّد على قيمة الماضي، شهادة على أنه عندما نرى مبنى يتداعى، يعني أننا في موقع ممتلئ بالمعنى.
يسألني وقد امتلأ صوته بالأسى، هل سأعود إلى "حلب" يوماً؟
ندور في حلقات، نعزي أنفسنا بالذاكرة، نعيد رواية قصصنا، نبتدع أزماناً مختلفة، نحلم حد الهذيان بمستقبل مشرق، ثم نعزي أنفسنا مجدداً بالذاكرة، ونعيد الكرة حتى انقطاع النفس، ونفترق.
نعود إلى مسلسل الأخبار المرعبة: حصار "جباليا"، محرقة "مستشفى شهداء الأقصى"، غارة على "بعلبك"، أعمال البحث عن ناجين مستمرة، جدار صوت، حصيلة القتلى، محو سوق "النبطية" التراثي، تجدد الغارات على الضاحية.
إلهي... أما لهذا الليل الطويل أن ينجلي؟
1948 جديدة.. هل نخرج من تحت المبضع الصهيوني؟
10-10-2024
أعود منهكاً إلى غرفتي، أنام على قلق بحال أهلي وأحبتي، أستحلف قلبي وعقلي الثبات لأكون سنداً لهم على قدر ما أستطيع، أكتب لأخفف حزني على حبيبتي "النبطية"... قلبي هناك بين أزقتها وعلى سطوحها، أوزع بعضاً منه على المقاهي والمكتبات والحسينية وساحة عاشورا وقرّاء الصحف على رصيف "مكتبة الطليعة"، وعلى الخضرجية والباعة والحلاقين و"سوق الاثنين" وساحة المنشية والأفران وسوق اللحم، وأقراص الفلافل وقدور الكنافة وأهازيج أصحاب البسطات وعراك "الشوفرية".
حبيبتي "النبطية"... يا حاضرتنا العاملية، يا مدينتنا الصغيرة وقريتنا الكبيرة، وسوقنا النابض مثل القلب... حزين أنا لحزنك!