عاشت أُسر الصّحافيين: "توفيق بوعشرين"، و"سليمان الريسوني"، و"عمر الراضي" لحظات تاريخية أمام أبواب سجونهم، التي أُغلقت عليهم بسبب تناولهم المسكوت عنه. إذ نزل خبر العفو عنهم، مع زملاء لهم ومع ناشطين سياسيين، من حيث لا أحد يحتسب. وبعد سنوات صعبة من الحرمان من الحرية، ومن التعسف الشديد في المدة التي قضوها في السجن، مما فاق ما قد يتعرض له محكومون في جرائم حقيقية، خرج المعنيون بالعفو خلال ساعات من الإعلان عن الإفراج عنهم، وسط ذهول أهاليهم وأصدقائهم والرأي العام.
هذا التطور أحيا موجة تفاؤل بانفراج حقوقي يتطلع إليه المغاربة، لكسر سنوات التّضييقات الحقوقية، التي لم تستطع حتى موجات الإضراب عن الطعام المتتالية، التي خاضها الصحافيون، التخفيف من وطأتها.. خاصة إضرابات "سليمان الريسوني" عن الطعام، التي بلغ أطولها مدة 122 يوماً.
يا صاحبَيْ السّجن
الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة إلى درجة أنه من الصّعب محو الشكوك لدى عامة الناس. فلا أحد يتدخل في تهم اغتصاب، وهذه تهمة الثلاثة، بينما التهمة الحقيقية هي الصحافة.
لام الجميع "توفيق بوعشرين" على استعمال مهنته ومكتبه في علاقاته، واستغلال منصبه لاستدراج شابات طموحات، وهذا أمر يفعله كثيرون وينجون به، لكن ليس من اقتحم منطقة "اللعب مع الكبار"، وأثار حفيظة بعضهم. وكانت تلك النافذة التي دخلت منها العاصفة، التي اقتلعت الأخضر واليابس في حياته، وجلبت له تهم اغتصاب واستغلال جنسي. صرحت بعض النساء المفترض أنهن ضحاياه، بتعرضهنّ للضغط عليهن ليقدمن شكوى ضده. وهي التهم التي ترفضها جهات حقوقية، على الرغم من أنه ليس خالياً من الشبهات.
لعل نجاح محاصرة "بوعشرين" بتهم فادحة، شجّعت على نصب الفخاخ لاعتقال آخرين، على الرغم من أنها كادت أن تكون مهمة مستحيلة. ففي حالة "سليمان الريسوني": زعم شخص أن "الريسوني" حاول هتك عرضه منذ سنتين، بلا أدلة غير شهادة الضّحية المزعومة. مع العلم أن غياب الأدلة أسقط متابعات كثيرة في حالات اغتصاب حقيقية، لكنه هنا لم يمس بالدعوى.
ثم جاء الاعتقال الثاني، الذي تحولت فيه ليلة "عمر الراضي" مع صديقته التي استقبلته بالأحضان بعد ساعات من خروجه من السجن الاحتياطي، إلى كابوس صار فيه متهماً بالاغتصاب في اليوم التالي. هنا كان "عمر" ساذجاً وواثقاً من أن القانون سيحميه، بعد أن خرج من فترة سجن بتهمة حقيقية هي أداؤه لعمله الصحافي.
كان يمكن أن يكون حذراً وينجو من الفخ، ولكنه ما كان لينجو من تهم أخرى، فذنب الصحافة ثابت. طالما الباب مشرّع لمعاقبة الصّحافيين، والرأي العام في حالة ثبات، والحرص على فعالية أجهزة العدالة يحتاج إلى أكثر من مجموعة مؤسسات ومسمَّيات. هو سيناريو رديء وسوريالي، لكن مع ذلك تمَّ إخراجه، وإنتاجه وعرضه على المشاهدين بلا تردد.
صدر في حق "بوعشرين" حكماً بخمس عشرة سنة سجناً، قضى منها نصف المدة. بينما صدر في حق "الريسوني" حكماً بخمس سنوات سجن، قضى منها أربع سنوات. وحُكم على "عمر الراضي" بالسجن ستّ سنوات، قضى منها أربع سنوات.
بين الصحافة والسخافة
في العقد الأخير، مع فورة الصّحافة الإلكترونية، أُنشئت منابر عديدة لخدمة أجندات كبيرة. قُدّمت لهذه المنابر موارد كبيرة للقيام بمهماتها وبروزها في المشهد الإعلامي، وأقواها مهاجمة الأصوات المعارِضة بشتى التهم، غالبيتها: "المس بسلامة الوطن"، و"خدمة أجندة خارجية"، وهي تهمة رائجة بقوة. وطبعاً تُعتبر التهم الجنسية شديدة الدسم لهذه المواقع، فتتفنن في اختراع تفاصيل تسيء إلى الصحافيين الذين يكشفون عمّا يجب ألا يُكشف، من سيئات بعض الجهات النافذة والأصوات المعارضة. وبعضها يمارس حرباً مفتوحة ضد هذه الأصوات.
صدر في حق "بوعشرين" حكماً بخمس عشرة سنة سجناً، قضى منها نصف المدة. وكانت "فدوى برناني" الموظفة ـ سابقاً ـ في جريدة "أخبار اليوم"، التي كان "توفيق بوعشرين" رئيس تحريرها، قد رفضت توجيه الاتهام بالاستغلال الجنسي ضده، بل رفعت قضية على جهاز الأمن، بسبب ما سمته "فبركة دعوى باسمها.
تحدث "عمر الراضي" عن ظروف سجنه في حفل استقباله، لكن "سليمان الريسوني" ذهب أبعد واتهم إدارة السجن بمصادرة كتاباته وأوراقه، ودخل في مواجهة مع صحافة التشهير في حوار صحافي موسع. تم حذف الحوار من "النت" بعد الصدى الذي خلّفه، وبعد أن ثبت للجهات المعنية أن بعض الصحافيين لا يفيد السجن في تعليمهم رذيلة الصمت الخائف.
على سبيل المثال، تواجه "فدوى برناني" الموظفة - سابقاً - في جريدة "أخبار اليوم"، التي كان "توفيق بوعشرين" رئيس تحريرها، والتي رفضت توجيه الاتهام بالاستغلال الجنسي ضده، بل رفعت قضية على جهاز الأمن، بسبب ما سمته "فبركة دعوى باسمها"، تواجه "فدوى" إذاً حملة تشهيرية ماسة بعرضِها، بعد كل ظهور إعلامي لها، تتضامن فيه مع صحافيين معتقلين، حتى وهي خارج البلاد.
فيما تعاني منابر مهنية محترمة من مضايقات مستمرة، حيث تتخلى كثير من الجهات والهيئات والشركات عن وضع إعلاناتها في هذه المواقع، وهي تقريباً مصدر التمويل الوحيد لها. فتتراجع إلى الخلف في سوق لا ترحم. كما أن بعض المواضيع صارت ممنوعة كلياً، ولم تعد المحظورات مقصورة على مجال المقدسات، وهي: المَلكية، والدين، والوطن، بل أُضيف إليها أهل النفوذ والمال.
هل أدت الأحكام دورها؟
بعد سجن هؤلاء الصحافيين، عرفت حرية التعبير حالة خرس واضحة، حيث أحجمت معظم الأصوات عن نقد المؤسسات والمسؤولين بدرجاتهم، خوفاً من تهم تُلحق بهم العار قبل أن تَزج بهم في السجن، خاصة للنساء. إذ لم تتعفف الجهات صاحبة فتوى الإخراج الهوليودي للتهم، عن المس بنساء، وأبرزهن الصحافية "هاجر الريسوني" ابنة أخ "سليمان"، التي سبقت عمها إلى السجن بتهمة أكثر سريالية، لم يتم إثباتها، هي الإجهاض. ولولا صدور عفو ملكي لصالحها، بعد نداءات دولية، لقضت في السجن وقتاً أكبر.
ما هو الأسوأ في هذه التجربة ليس السجن، بل التشهير الذي تعرضت له، وانتشار التقارير الطبية لجسدها وشؤونها الحميمة، التي حاولت معها الصحافة الصفراء إثبات حالة إجهاض تنفيها التقارير الطبية، لكن هذه المنابر تفتي في الطب، وتفسر التقارير على هواها. لحسن حظ "سعيدة العلمي" المرأة الوحيدة المعتقلة بسبب حرية التعبير، والمفرج عنها في هذه الموجة مع الصحافيين، أنها لم تلصق لها تهمة جنسية، وتم الاكتفاء بالتهمة الكلاسيكية، وهي المس بالوطن.
تحدث "عمر الراضي" عن ظروف سجنه في حفل استقباله، لكن "سليمان الريسوني" ذهب أبعد واتهم إدارة السجن بمصادرة كتاباته وأوراقه، ودخل في مواجهة مع صحافة التشهير في حوار صحافي موسع. تم حذف الحوار من "النت" بعد الصدى الذي خلّفه، وبعد أن ثبت للجهات المعنية أن بعض الصحافيين لا يفيد السجن في تعليمهم رذيلة الصمت الخائف.
تُعتبر التهم الجنسية شديدة الدسم للمواقع المنشأة لخدمة اجندات مشبوهة والممولة بسخاء، فتتفنن في اختراع تفاصيل تسيء إلى الصحافيين الذين يكشفون عمّا يجب ألا يُكشف، من سيئات بعض الجهات النافذة والأصوات المعارضة. وبعضها يمارس حرباً مفتوحة ضد هذه الأصوات.
لحسن حظ "سعيدة العلمي" المرأة الوحيدة المعتقَلة بسبب حرية التعبير، والمفرج عنها في هذه الموجة مع الصحافيين، أنها لم تُلصق لها تهمة جنسية، وتمّ الاكتفاء بالتهمة الكلاسيكية، وهي المس بالوطن. بينما سبقت الصحافية "هاجر الريسوني"، ابنة أخ "سليمان"، عمها إلى السجن بتهمة أكثر سريالية، ولم يتم إثباتها، هي الإجهاض. ولولا صدور عفو ملكي لصالحها، بعد نداءات دولية، لقضت في السجن وقتاً أكبر.
بينما التزم "بوعشرين" الصمت في الأسابيع الأولى، وهو ما يُتوقع من "اللّاعب مع الكبار"، والذي تعرض لعملية تشهير، وإن كان فيها بعض الحقائق. وعندما استعاد نشاطه على وسائل التواصل، لم يشر إلى تجربة السجن أو أسبابها. أما "سليمان" و"عمر"، فهما صحفيان، أدى بهما عملهما إلى السجن، وصارا رمزين من رموز النضال من أجل الحريات، وسيكون لسجنهما أثر كبير على مستقبلهما، إن أحسنا تدبيره، وإن لم يتم إحباطهما في الفترة المقبلة، ومحاصرتهما في أيّة مشاريع مقبلة، وربما دفعهما إلى الهجرة... مع العلم أن الآثار النفسية والصحية لتجربة السجن ستطاردهما بلا شك طيلة حياتيهما.
هل نُقبل على لحظة انفراج أو أنها مجرد ومضة برق؟
تقول الأصوات المتفائلة إنه انفراج حقوقي، خاصة أن المغرب ترأس هذه السنة "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة. ولكن في سجونها معتقلو رأي، مثل قادة حراك "الحسيمة". والسياق الحقوقي والحرّياتي ضيق للغاية، مما يجعل هذا الحدث مفارقة ساخرة. بالإضافة إلى أن رئاسة "مجلس حقوق الإنسان" تولتها السعودية، في عز الخروقات الحقوقية التي مارستها في العقد الماضي، وبالتالي فلا تأثير لهذه الفترة على التوجه الحقوقي. كما أن جهات دولية كثيرة دعت سابقاً إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والصحافيين، وأهمها "البرلمان الأوروبي"، الذي وجه نداء للإفراج عام 2023، ولم تستجب السلطات المغربية. مما يسقط أسطورة الضغط الخارجي لتحسين الوضع الحقوقي.
تعاني منابر مهنية محترمة من مضايقات مستمرة، حيث تتخلى كثير من الجهات والهيئات والشركات عن وضع إعلاناتها في هذه المواقع، وهي تقريباً مصدر التمويل الوحيد لها. فتتراجع إلى الخلف في سوق لا ترحم. كما أن بعض المواضيع صارت ممنوعة كلياً، ولم تعد المحظورات مقصورة على مجال المقدسات، وهي: المَلكية، والدين، والوطن، بل أُضيف إليها أهل النفوذ والمال.
وكذلك لا يُعتقد بأن مسألة تنظيم المغرب لـ"كأس العالم"، ستغير من الوضع الحقوقي، نظراً إلى أننا نقف على بعد خمس سنوات من الموعد. وهو وقت طويل قد يُعتقل فيه آخرون وأخريات، والإجراءات التي ستسبقه ستنتظر السنتين الأخيرتين قبل الموعد. ربما في أحسن الأحوال سيتم الإفراج عن قادة حراك "الحسيمة"، أقوى الاحتجاجات في الثلاثين سنة الأخيرة، مع استثناء "حركة 20 فبراير"، التي واكبت سياقاً إقليميّاً عرف ربيعاً عربياً قصيراً، عادت بعده الأنظمة السلطوية لتعيش في ثبات ونبات.
المغرب في مملكة الريع
11-07-2019
كذلك، فالعفو لم يمنح المعتقلين هامشاً كبيراً من الحرية، إذا يأتي هذا الإفراج سنة قبل إنهاء "الريسوني" لمدة حكمه، وسنتين قبل نهاية حكم "الراضي"، وبعد أن قضى "بوعشرين" نصف المدة التي حكم عليه بها، وهي ست سنوات، وهي مدة كافية لمعاقبتهم بحسب مؤلفي السيناريوهات، وبعد أن غادر المتابعون في حالة سراح البلاد للإقامة في منافي اختيارية. بل يأتي هذا لإظهار قدرة الدولة على الأمر والنّهي، وأن القانون قد يكون أحياناً مسألة مزاج سياسي.