الإمبريالية وأزمة المناخ وتحرير فلسطين

تُظهِر فلسطين اليوم بوضوح تام قبحَ النظام الحالي وتُكثّف تناقضاته القاتلة. وهي تُظهِر أيضاً ميله إلى الانتقال نحو استخدام العنف الوحشي الخالص على نطاق واسع. ما يجري أيضاً هو إبادة بيئية أو ما وصفه بعضهم بالإبادة الكلّية، أي إبادة نسيج اجتماعي وبيئي برمّته.
2024-10-03

حمزة حموشان

باحث ومناضل جزائري مقيم في لندن، وهو منسق برنامج شمال أفريقيا في "المعهد العابر للقوميات" "TNI "


شارك
غسان غائب - العراق

حمزة حموشان*

ترجمة ثائر ديب

في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ COP 28 الذي عقد في دبي في كانون الأول/ ديسمبر 2023، أعلن الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو أنّ "الإبادة الجماعية والأعمال الوحشية التي تُشن ضد الشعب الفلسطيني هي ما ينتظر أولئك الذين يفرون من الجنوب بسبب أزمة المناخ ... ما نراه في غزة هو بروفة للمستقبل".

أعتقد أنّه محق. فالإبادة الجماعية في غزة يمكن أن تكون نذير أمور آتية أسوأ إن لم نتنظّم ونقاوم بقوة. ذلك أنَّ الإمبريالية وطبقاتها العالمية الحاكمة على استعداد للتضحية بملايين الأجساد السوداء والسمراء كما بالعمال البيض كي تواصل في مراكمة رأس المال وتكديس الثروة والحفاظ على سيطرتها.

إزاحة التكاليف نحو الطبيعة

لطالما كانت الرأسمالية نظام تكاليف لا تُسدَّد. تكاليف تُنقل إلى الخارج وتُلقى على غيرِ عاتقٍ بصورة منهجية منتظمة: أ- على عاتق النساء ومن يقومون بالرعاية في إعادة الإنتاج الاجتماعي غير المأجورة عموماً، ب- من المناطق الحضرية إلى المناطق الريفية، ج- من الشمال إلى الجنوب حيث تُخلَق مناطق ضحيّة، في دينامية ييسّرها كلّ من نزْع الصفة الإنسانية وصناعة الآخرية والعنصرية، د- نقل التكاليف خارجاً إلى الطبيعة ومعاملتها لقرون ككيان للسيطرة عليه ونهبه، إن لم يكن لتسليعه، إنما مع اعتباره أيضاً بالوعةً للنفايات. وهذا ما أدى إلى الأزمة البيئية والمناخية.

تختلف آثار أزمة المناخ العالمية التي نمرّ بها باختلاف الطبقة والجندر والعرق، كما باختلاف المناطق الحضرية والريفية، والمراكز الإمبريالية الشمالية والأطراف الجنوبية. كما تتمايز بتمايز المستعمِر والمستعمَر.

في الشهرين الأولين من الحرب في غزة، كانت انبعاثات إسرائيل أعلى من الانبعاثات السنوية لعشرين دولة على الأقلّ. وكان نحو النصف من هذه الانبعاثات بسبب نقل الولايات المتحدة الأسلحة إلى إسرائيل. ليست الولايات المتحدة فاعلاً نشطاً في الإبادة الجماعية فحسب، بل هي أيضاً مساهم كبير في الإبادة البيئية التي تجري في فلسطين.

سبق لألكسندر هيغ، وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريتشارد نيكسون، أن قال صراحةً: "إسرائيل هي أكبر حاملة طائرات أمريكية في العالم لا يمكن إغراقها، ولا يوجد فيها جندي أمريكي واحد، وتقع في منطقة حساسة بالنسبة إلى الأمن القومي الأمريكي".

يقطن الفلسطينيون والإسرائيليون الأرض ذاتها لكنَّ بينهما تبايناً هائلاً في الأثر والهشاشة لأن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي استولى على معظم الموارد ونهبها، وتحكّم بها، من الأرض إلى المياه إلى الطاقة، وطوّر، على ظهر الفلسطينيين وبدعم نشط من القوى الإمبريالية، التكنولوجيا التي ستساعد في تخفيف بعض آثار أزمة المناخ.

العدالة المناخية العالمية والتحرر الفلسطيني

قد يبدو في غير محلّه، بل من غير اللائق، أن نتكلّم على قضايا المناخ والبيئة في سياق الإبادة الجماعية الجارية في غزة، لكني أرى أنّ ثمة تقاطعات مهمة بين أزمة المناخ والنضال الفلسطيني من أجل التحرر. بل أرى أنَّ ما من عدالة مناخية عالمية من دون تحرير فلسطين، وأنَّ التحرر الفلسطيني هو أيضاً نضال لإنقاذ الأرض والإنسانية. وهذه ليست مجرد شعارات، وسوف أوضح ذلك في الفقرات الآتية.

أولاً، تُظهِر فلسطين اليوم بوضوح تام قبحَ النظام الحالي وتُكثّف تناقضاته القاتلة. وهي تُظهِر أيضاً ميله إلى الانتقال نحو استخدام العنف الوحشي الخالص على نطاق واسع. لقد سبق لغرامشي أن قال: "تتمثّل الأزمة على وجه الدقّة في حقيقة أنَّ القديم يحتضر والجديد لا يسعه أن يولد ... في هذه الفترة الفاصلة، يظهر حشد عظيم من شتّى الأعراض الوبيلة".

ثانياً، ليس ما يجري في غزة اليوم مجرد إبادة جماعية. ولست متأكداً من أن لدينا المصطلح الصحيح لوصف كل هذا الدمار والموت الذي يُلحق بالفلسطينيين. وعلى الرغم من هذه الملاحظة، فإن ما يجري أيضاً هو إبادة بيئية أو ما وصفه بعضهم بالإبادة الكلّية، أي إبادة نسيج اجتماعي وبيئي برمّته.

ثالثاً، تسلّط الحرب الإبادية الجماعية في غزة، شأنها شأن حروبٍ أخرى، الضوء على دور الحرب والمجمَّع الصناعي العسكري في تفاقم الأزمة البيئية والمناخية. فالجيش الأميركي بمفرده هو أكبر مصدر واحد للانبعاثات المؤسسية في العالم، أكبر من دول غربية بأكملها مثل الدنمارك والبرتغال. وفي الشهرين الأولين من الحرب في غزة، كانت انبعاثات إسرائيل أعلى من الانبعاثات السنوية لعشرين دولة على الأقلّ. وكان نحو النصف من هذه الانبعاثات بسبب نقل الولايات المتحدة الأسلحة إلى إسرائيل. ليست الولايات المتحدة فاعلاً نشطاً في الإبادة الجماعية فحسب، بل هي أيضاً مساهم كبير في الإبادة البيئية التي تجري في فلسطين.

رابعاً، وهذه هي دعواي الرئيسة (بناءً على أعمال آدم هنية وأندرياس مالم): لا يسعنا فصل النضال ضد الرأسمالية الأحفورية والإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة عن النضال من أجل تحرير فلسطين. ذلك أنَّ إسرائيل كمستعمَرة استيطانية أوروبية-أمريكية في الشرق الأوسط هي موقع متقدم للإمبريالية. لقد سبق لألكسندر هيغ، وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريتشارد نيكسون، أن قالها صراحةً: "إسرائيل هي أكبر حاملة طائرات أمريكية في العالم لا يمكن إغراقها، ولا يوجد فيها جندي أمريكي واحد وتقع في منطقة حساسة بالنسبة إلى الأمن القومي الأمريكي".

الشرق الأوسط والنظام الأحفوري العالمي

أهمية الشرق الأوسط في الاقتصاد الرأسمالي العالمي واضحة لا مجال للمغالاة فيها. فهذه المنطقة لا تقوم بدور رئيس في التوسّط بين شبكات عالمية جديدة للتجارة والخدمات اللوجستية والبنية التحتية والتمويل فحسب، بل هي أيضاً نقطة محورية رئيسة في نظام الوقود الأحفوري العالمي، وتقوم بدور كبير في الحفاظ على رأسمالية الوقود الأحفوري من خلال إمداداتها من النفط والغاز. بل إنَّ المنطقة تبقى المحور الأساس لأسواق الهيدروكربون العالمية، إذ بلغ إجمالي حصتها من إنتاج النفط العالمي نحو 35 في المئة في عام 2022. ولطالما سعت إسرائيل أيضاً، ولا تزال، إلى القيام بدور مركز للطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​​​(من خلال حقول الغاز المكتشفة حديثاً مثل تمار ولوياثان)، وهو طموح تعززه محاولات الاتحاد الأوروبي تنويع مصادر الطاقة بعيداً عن روسيا، في سياق الحرب في أوكرانيا. ولذلك لم تكن الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل عقبةً أمام منح تراخيص لشركات وقود أحفوري شتّى كي تستكشف مزيداً من الغاز في الأسابيع الأولى من حرب الإبادة الجماعية.

يقطن الفلسطينيون والإسرائيليون الأرض ذاتها، لكنَّ بينهما تبايناً هائلاً في الأثر والهشاشة، لأن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي استولى على معظم الموارد ونهبها، وتحكّم بها، من الأرض إلى المياه إلى الطاقة..

لم تكن الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل عقبةً أمام منح تراخيص لشركات وقود أحفوري شتّى كي تستكشف مزيداً من الغاز في الأسابيع الأولى من حرب الإبادة الجماعية.

ثمة ركيزتان أساسيتان تشكّلان اليوم صرح الهيمنة الأميركية في المنطقة: إسرائيل والملَكيات الخليجية الغنية بالنفط. وتقوم إسرائيل، بوصفها الحليف الأول في المنطقة، بدور أساسي في الحفاظ على سيطرة الإمبراطورية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة (وخارجها)، فضلاً عن تحكّمها بمواردها الهائلة من الوقود الأحفوري، لا سيما في الخليج والعراق. وهذا هو الإطار الذي نحتاج لأن نفهم في داخله جهود الولايات المتحدة وحلفائها الرامية إلى دمج إسرائيل سياسياً واقتصادياً في المنطقة من موقع المسيطِر: التكنولوجيا الرائدة، والأسلحة، ومواد المراقبة، وكذلك تحلية المياه، وإنتاج الغذاء عبر الأعمال الزراعية، والطاقة، وما إلى ذلك.

تعود صفقات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية إلى اتفاقيات كامب ديفيد في عام 1978 بين إسرائيل ومصر، وإلى معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل في عام 1994. وكان ثمة موجة ثانية من التطبيع، هي اتفاقيات أبراهام، بتوسّط ترامب، في عام 2020 مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب.

قبل هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان من المتوقّع أن توقِّع المملكة العربية السعودية وإسرائيل، برعاية الولايات المتحدة، صفقة مماثلة ترسّخ المخططات الإمبريالية الأميركية للمنطقة. وكان من شأن هذه الصفقة أن تصفّي القضية الفلسطينية مرّة وإلى الأبد. لكنَّ حماس، وهي جزء لا يتجزأ من المقاومة الفلسطينية، عطلت هذه الخطط من خلال هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

ثمة ركيزتان أساسيتان تشكّلان اليوم صرح الهيمنة الأميركية في المنطقة: إسرائيل والملَكيات الخليجية الغنية بالنفط. وتقوم إسرائيل، بوصفها الحليف الأول في المنطقة، بدور أساسي في الحفاظ على سيطرة الإمبراطورية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة (وخارجها)، فضلاً عن تحكّمها بمواردها الهائلة من الوقود الأحفوري، لا سيما في الخليج والعراق.

فلسطين هي جبهة عالمية ضد الاستعمار والإمبريالية والرأسمالية الأحفورية والتفوق الأبيض. ويقع على عاتقنا جميعاً، من نشطاء العدالة المناخية، إلى المنظمات المناهضة للعنصرية، والمحرضين المناهضين للإمبريالية، أن ندعم الفلسطينيين بقوة في نضالهم التحرري وأن ندافع عن حقهم الذي لا يمكن إنكاره في المقاومة بأي وسيلة ضرورية!

هكذا، لا يكون النضال لتحرير فلسطين مجرد قضية أخلاقية وحقوقية، بل هو في الأساس نضال ضد الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة والرأسمالية الأحفورية العالمية. وما من عدالة مناخية من دون تفكيك مستعمرة إسرائيل الاستيطانية الصهيونية العنصرية العميقة، ومن دون الإطاحة بالأنظمة العربية الرجعية، لا سيما ممالك الخليج.

مقالات ذات صلة

فلسطين هي جبهة عالمية ضد الاستعمار والإمبريالية والرأسمالية الأحفورية والتفوق الأبيض. ويقع على عاتقنا جميعاً، من نشطاء العدالة المناخية، إلى المنظمات المناهضة للعنصرية، والمحرضين المناهضين للإمبريالية، أن ندعم الفلسطينيين بقوة في نضالهم التحرري وأن ندافع عن حقهم الذي لا يمكن إنكاره في المقاومة بأي وسيلة ضرورية!

صحيحٌ أنَّ المهمة التي أمامنا صعبة للغاية، لكنّه يتعيّن علينا، كما حثّنا فانون، أن نكتشف رسالتنا وسط العتمة، ونحققها، ولا نخونها.

______________________

-هذه نسخة معدَّلة قليلاً من خطاب ألقاه حمزة حموشان في ندوة في "مهرجان تحرير حياة السود أمر مهم"، أقيمت في 13 تموز/ يوليو 2024 في لندن
-حمزة حموشان هو منسق برنامج شمال أفريقيا في المعهد العابر للقوميات

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

إعادة تكوين العقل الغزّي

أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم في...

للكاتب نفسه

عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا الاضطهاد والتحرّر

لا يمكننا التكلم عن فانون دون التطرق لتحليله للعنف وسايكولوجيا الاضطهاد، خصوصاً خلال الحقبة الحالية التي يطبعها الدمار والموت. ماذا كان فانون ليقول عن الإبادة الاستعمارية و"سيل القتل" اللذين يحدثان...