بثلث مساحة البلاد وما يقارب 80 في المئة من مخزونها النفطي، تشهد محافظة حضرموت منذ منتصف العام الجاري، 2024، أحداثًا دراماتيكية متسارعة، تتداخل فيها الأبعاد السياسية بالاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. ومع اقتراب نهاية تموز/ يوليو، أخذت الأوضاع منحى تصعيدياً من قبل "حلف قبائل حضرموت"، بالتزامن مع زيارة رئيس "مجلس القيادة الرئاسي"، "رشاد العليمي"، إلى المحافظة.
قادماً من الرياض، وصل "العليمي" إلى محافظة حضرموت، بطائرة سعودية في 27 تموز/ يوليو، وفي 31 من الشهر نفسه، أصدر "حلف قبائل حضرموت" بياناًتضمّن ستّ نقاط، إحداها هدّد فيها الحكومة بوضع يده "على الأرض والثروة" إن لم تستجب لمطالبه خلال 48 ساعة، وأخرى دعا فيها "المجتمع والقوى الوطنية" في حضرموت إلى مساندته. وبفعل حالة الغليان الشعبي في المحافظة جراء تدهور الخدمات الأساسية، وأبرزها الكهرباء، أعلنت عدة قبائل حضرمية عن مساندتها لتحرك رئيس "الحلف"، الذي يترأس أيضاً "مؤتمر حضرموت الجامع"، ويشغل منصب وكيل أول للمحافظة النفطية[1].
مطالب متداخلة
في بيانه المتزامِن مع زيارة الرئيس "العليمي"، حدد "حلف قبائل حضرموت" ثلاثة مطالب رئيسية، أوّلها أن يعترف رئيس "مجلس القيادة الرئاسي" "بحقّ حضرموت" في شراكة سياسية فاعلة، على مستوى السلطة العليا للدولة، وفي تقرير نوع التسوية الشاملة في البلاد. تبعاً لهذا المطلب، حدّد "الحلف" أن يكون "مؤتمر حضرموت الجامع" هو الكيان الممثِل لحضرموت في السلطة السياسية العليا. وفي مطلب آخر، نصّ البيان على تنفيذ الحكومة مطالب سابقة، كان "مؤتمر حضرموت الجامع" قد أعلن عنها في 13 تموز/ يوليو، وأمهل السلطة المحلية في المحافظة شهراً لتنفيذها. غير أن زيارة رئيس "مجلس القيادة الرئاسي" عجّلت من التصعيد بتقليص المهلة إلى 48 ساعة، انتهت في الثاني من آب/ أغسطس، أي قبل يومين من انتهاء الزيارة الرئاسية.
في اليوم المحدد لانتهاء المهلة، توجهت مجاميع قبلية مسلحة إلى هضبة حضرموت، بقيادة رئيس الحلف، "عمرو بن حَبْريش"، ويجمع هذه المرة، وبصورة متزامنة، بين التحرك باسم حلف القبائل باعتباره قوة ضغط، وباسم "مؤتمر حضرموت الجامع" باعتباره كياناً سياسياً. كما يتبنّى مطالب حقوقية ذات طابع خدمي اقتصادي لأهالي حضرموت، في الوقت الذي يطالب فيه بتمثيل سياسي أكبر لحضرموت في الدولة، قياساً بحجمها الفعلي في الجغرافيا السياسية والاقتصاد الوطني في آن. في ذلك اليوم، طوّقت المجاميع القبلية المسلحة حقول إنتاج النفط وسط ما وُصِف بالتوتّر الشديد مع قوات المنطقة العسكرية الأولى، التي تتولى حماية الحقول والشركات النفطية. سيطر المسلحون القبليون أيضاً على طرقات نقل النفط من خزانات الاستخراج إلى مواقع الاستهلاك المحلي، أو إلى ميناء التصدير قبل منعه من قبل "جماعة أنصار الله" (الحوثيين) تحت التهديد بقصف الميناء مجدداً. لا يزال مسلحو القبائل إلى اليوم - بعد شهر من "وضع اليد على الأرض والثروة"- يرابطون في مواقعهم، ويسمحون فقط بخروج النفط المخصص لتشغيل محطات توليد الكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، عندما قصفت "جماعة أنصار الله" ( الحوثيين) ميناء تصدير النفط في "حضرموت"، كان فيه أكثر من مليوني برميل من النفط الخام معدّ للتصدير، حسبما أعلنت عنه اللجنة الاقتصادية التابعة لحكومة "الجماعة" في صنعاء. في سياق متصل بهذه الكمية، يتمسك "حلف قبائل حضرموت" باعتبارها، إضافة إلى كميات النفط في خزّانات الشركات النفطية، حقاً لسكان حضرموت لا يمكن التنازل عنه، و"يجب أن تُسخّر كامل قيمته لشراء طاقة كهربائية لحضرموت". كما حذّر من "التصرف" بنفطها أو "تصديره أو تسويقه إلا بعد تثبيت مكانة حضرموت [سياسياً] وضمان حقوقها بما يرتضيه أهلها".
مكانة حضرموت وتمثيلها
هذا التداخل بين المطالب السياسية والخدمية والاقتصادية، ناهيك عن البُعد الاجتماعي القبَلي للصراع، يزيد من تعقيد التنافس بين القوى المحلية في "حضرموت" على تمثيل المحافظة. لقد صار معلوماً حجم المكانة التي تكتسبها حضرموت بفعل مساحتها الكبيرة وثرواتها الطبيعية التي لا يشكل النفط سوى أبرزها. وفي سياق مطالبة كيانات سياسية واجتماعية متعددة في "حضرموت" بإشراكها في تمثيلها على مستوى السلطة العليا للدولة، يطالب حلف القبائل بتسمية "مؤتمر حضرموت الجامع" كياناً سياسياً ممثِّلاً لحضرموت، أسوة بكيانات أو "أطراف" أخرى. غير أن هذه الجزئية من المطلب تصطدم بعدة عوائق، لعل أبرزها وجود "المجلس الانتقالي الجنوبي"، الذي يسعى إلى استعادة دولة الجنوب السابقة على الوحدة مع الشمال، وتوحيد القوى السياسية والاجتماعية في الجنوب عموماً تحت مظلته. علاوة على ذلك، هناك أيضاً "مجلس حضرموت الوطني"، الذي دعمت السعودية إشهار تأسيسه من الرياض في 20 حزيران/ يونيو 2023، في ما بدا حينها رداً على تحركات سياسية وميدانية لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" هادفة إلى توسيع نفوذه في حضرموت.
في اليوم المحدد لانتهاء المهلة، توجهت مجاميع قبلية مسلحة إلى هضبة حضرموت، بقيادة رئيس الحلف، ويجمع هذه المرة، وبصورة متزامنة، بين التحرك باسم حلف القبائل باعتباره قوة ضغط، وباسم "مؤتمر حضرموت الجامع" باعتباره كياناً سياسياً. كما يتبنّى مطالب حقوقية ذات طابع خدمي اقتصادي لأهالي حضرموت، في الوقت الذي يطالب فيه بتمثيل سياسي أكبر لحضرموت في الدولة.
على المستوى الوطني، تزداد حدة التنافس بين كلّ من: "المجلس الانتقالي الجنوبي" و"حزب الإصلاح" ذي القيادة الشمالية، باعتبارهما قوتين رئيسيتين في "حضرموت"، عسكرياً وسياسياً. وفي خلفية هذه السيطرة الميدانية لكلتا القوتين، تجدر الإشارة أولاً إلى أن هناك تصنيفاً جغرافيّاً لحضرموت خارج التقسيم الإداري الرسمي، وهو تصنيف تنقسم بموجبه المحافظة على جزأين رئيسيين: "حضرموت" الساحل، و"حضرموت" الوادي والصحراء. تبعاً لهذا التصنيف، وضمن عملية "إعادة هيكلة الجيش" أثناء "المرحلة الانتقالية" التي أعقبت ثورة شباط/ فبراير 2011، أنشأت الدولة منطقتين عسكريتين في "حضرموت"، من إجمالي سبع مناطق عسكرية في عموم اليمن. المنطقة الأولى في الوادي والصحراء (شمال المحافظة)، ويديرها قائد منحدِر من الشمال أيضاً، والثانية في الساحل (جنوباً) ويديرها قائد من الجنوب.
حضرموت: إقليم الثروة والمؤشر على الخطر
21-05-2014
اليمن: خمسون عاماً بين تدخّلين إقليميَّين
04-10-2016
يشمل مسرح عمليات المنطقة الأولى قرابة 159 ألف كيلو متراً مربعاً من إجمالي مساحة حضرموت البالغة ,023 كيلو متراً، في حين يشمل مسرح عمليات المنطقة الثانية أقل من 20 ألف كم2، إضافة إلى محافظة "المهرة" (67,297 كم2) وأرخبيل "سقطرى" (3,650 كم2). عندما أخذت الحرب انعطافتها الكبرى في آذار/ مارس 2015 بالتدخّل العسكري للسعودية والإمارات ضدّ جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، انسحبت الانقسامات السياسية على قيادتَي المنطقتين العسكريتين. وعلى الرغم من أن كلتيهما دانتا بالولاء لسلطة الرئيس "عبد ربه منصور هادي" المعترف بها دولياً، فقد احتفظ "حزب الإصلاح" بدور القناة التي يمر عبرها ولاء المنطقة الأولى للحكومة، ومن ورائها الى السعودية. أما المنطقة الثانية فقد شهدت، بالتزامن مع انطلاق "عاصفة الحزم"، ما يشبه الفراغ في منصب القائد لمدة سنة كاملة، على الرغم من تعيين قائد جديد لها من قبل الرئيس "هادي" في منتصف هذه المدة[2]. بعد ذلك، تمّ تعيين اللواء "فرج البحسني"، الذي سيصبح أحد أكثر الشخصيات الحضرمية تأثيراً في المحافظة، حيث تولى هذا المنصب العسكري طيلة ست سنوات، وجمع بينه ومنصب محافظ "حضرموت" منذ 2017 إلى أن تم تعيين بديلَين منه بعد ثلاثة أشهر من تعيينه عضواً في "مجلس القيادة الرئاسي".
تشعّبات ميزان القوة
دعمت "الإمارات العربية المتحدة" قوات المنطقة الثانية منذ بداية العمليات العسكرية لـ"التحالف العربي" في اليمن، بما في ذلك إنشاء تشكيل عسكري جديد ضمن قواتها باسم "النخبة الحضرمية"، وكانت أولى مهامه القتالية الاشتراك في تحرير مدينة "المكلا" من تنظيم "القاعدة" في نيسان/ أبريل 2016. ولأن الإمارات هي الداعم الرئيسي لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي"، يخوض الأخير غمار التنافس على النفوذ السياسي والشعبي في "حضرموت" مسنوداً بقوات المنطقة العسكرية الثانية، وبقاعدة شعبية من قوىً اجتماعية وقبلية تؤيد مساعيه إلى فكّ الارتباط بالوحدة مع الشمال وإنشاء دولة فيدرالية على كامل مساحة الدولة الجنوبية السابقة. وإلى ذلك، قام "عيدروس الزُّبيدي" رئيس "المجلس الانتقالي الجنوبي" بتعيين زميله في "مجلس القيادة الرئاسي" "فرج البحسني"، نائباً له.
لا يزال مسلحو القبائل إلى اليوم - بعد شهر من "وضع اليد على الأرض والثروة"- يرابطون في مواقعهم، ويسمحون فقط بخروج النفط المخصص لتشغيل محطات توليد الكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية.
يطالب حلف القبائل بتسمية "مؤتمر حضرموت الجامع" كياناً سياسياً ممثِّلاً لحضرموت، أسوة بكيانات أو "أطراف" أخرى. غير أن هذه الجزئية من المطلب تصطدم بعدة عوائق، لعل أبرزها وجود "المجلس الانتقالي الجنوبي"، الذي يسعى إلى استعادة دولة الجنوب السابقة على الوحدة مع الشمال، وتوحيد القوى السياسية والاجتماعية في الجنوب عموماً تحت مظلته.
في سياق هذا النفوذ العسكري والسياسي الموزَّع بين القوى المحلية، تبدو تعرّجات خارطة النفوذ الإقليمي في "حضرموت" أكثر وضوحاً: تضع "السعودية" يدها على القسم الشمالي من المحافظة النفطية (الوادي والصحراء)، وهو القسم الذي تسيطر عليه - منذ ما قبل الحرب - قوى سياسية وعسكرية منحدرة من شمال اليمن ("حزب الإصلاح")، وفيه تقع آبار النفط وشريط حدودي شبه خالٍ من السكان مع السعودية بطول 700 كيلو متراً. بالمقابل، تضع "الإمارات" يدها على القسم الجنوبي (الساحل)، وهو ما يتطابق مع السياسة الإماراتية بتعزيز نفوذها على الموانئ البحرية في كل من: "اليمن"، "إريتريا"، و"الصومال". وفقاً لخارطة النفوذ الإقليمية هذه، يمكن تتبّع مثيلتها الدولية في علاقات "السعودية" و"الإمارات" مع الدول المنخرطة في الصراع الدولي.
شرارة وفتيل مبتلّ
في ظل تعدّد القوى المتنافسة على النفوذ في "حضرموت"، غادر الشيخ القبلي "عمرو بن حَبْريش" مكتبه الحكومي في قيادة المحافظة، واتجه إلى مسقط رأسه في الوادي والصحراء (هضبة "حضرموت")، حيث توجد حقول إنتاج النفط. من هناك، أطلق تلك المطالب المتداخلة، التي لم يعترض عليها أحد من القوى المتنافسة، لسببين على الأقل: الأول أن جميع القوى تخطب ودّ "حضرموت" وسكانها، والثاني أن تصعيد "بن حبريش" جاء استباقاً لنجاح الوساطة الأممية والضغط السعودي على "مجلس القيادة الرئاسي" من أجل التراجع عن قرارات البنك المركزي والخطوط الجوية في عدن، التي ضيّقت الخناق على العمليات المصرفية لجماعة "أنصار الله" (الحوثيين). وبعد تهديد زعيم الجماعة بضرب منشآت مصرفية سعودية، وإعلان المبعوث الأممي إلى اليمن في 23 تموز/ يوليو عن توصّل "مجلس القيادة الرئاسي" وقيادة "الجماعة" إلى اتفاق لخفض التصعيد في القطاع المصرفي والخطوط الجوية، جاءت زيارة الرئيس "العليمي" إلى "حضرموت"، لتثير مخاوف القوى السياسية والقبَلية فيها وفي الجنوب بصورة عامة، من أن هدفها هو استئناف تصدير النفط، ومنح سلطة صنعاء حصة من عائداته.
تضع "السعودية" يدها على القسم الشمالي من المحافظة النفطية (الوادي والصحراء)، وهو القسم الذي تسيطر عليه قوى سياسية وعسكرية منحدرة من شمال اليمن ("حزب الإصلاح")، وفيه تقع آبار النفط وشريط حدودي مع السعودية بطول 700 كيلو متراً. بالمقابل، تضع "الإمارات" يدها على القسم الجنوبي (الساحل)، وهو ما يتطابق مع السياسة الإماراتية بتعزيز نفوذها على الموانئ البحرية في كل من: "اليمن"، "إريتريا"، و"الصومال".
منذ بداية الحرب في اليمن، ظلّت "حضرموت" بعيدة عن جبهاتها المشتعلة. وعلى الرغم من غناها بثروات أخرى، لا ترى القوى المتنافِسة فيها وعليها ثروة أخرى غير النفط، وهو ما يجعلها أشبه بفتيل مبتلّ بهذه المادة، التي لطالما أشعلتها شرارات عمياء متناهية الصغر.
بفعل الوعي المدني العالي لسكانها بقيمة السلم، نجت "حضرموت" من شرارات صراع سابقة طيلة الثلاثين سنة الماضية على الأقل، ولعلها تنجو هذه المرة أيضاً من مخاطر الاشتعال. لكن انعتاقها من حالة الغبن المزمن، هو ما لا يمكن التنبؤ به على المدى المنظور.
- تم تعيين "عمرو بن حبريش"، في هذا المنصب، بقرار جمهوري، صدر في 26 نيسان/ أبريل 2016، بعد يومين فقط من إعلان "التحالف العربي" والحكومة المعترف بها دولياً عن تحرير مدينة "المكلا" من قبضة تنظيم "القاعدة"، الذي سيطر على المدينة مطلع نيسان/ أبريل 2015. ↑
- تم تعيين اللواء "عبدالرحيم أحمد سالم عتيق" قائداً للمنطقة العسكرية الثانية في "حضرموت" في تموز/ يوليو 2015، لكن الرئيس "عبد ربه منصور هادي" لم يلبث أن استبدله بعد ثمانية أشهر فقط، باللواء "فرج سالمين البَحسني". ↑