حرية النساء في مخيمات النزوح تقع خارج أسوارها

بعضهن قضين عقداً ويزيد من الزمن، كبرن وتعلّمن في المخيمات، وأثّر ذلك على كيفية نظرتهن إلى العالم وإلى أنفسهن. وبعضهن الآخر نسينَّ كيف كنَّ قبل أن يتحولن إلى كائنات تكاد تتعفن في الخيم "النايلونية". بعضهن هرب من الموت إلى خيم يمكن أن تحترق في أية لحظة. ولكن، لمن يسردن قصصهن، تتساءل إحداهن، مَن يسمع؟ فأقول بابتسامة أليمة على وجهي الذي لطَّخه المخيم: أنا أسمع! أنا أسمع وأكتب. ولكنني أسأل بدوري: مَن يقرأ؟
2024-08-15

فؤاد الحسن

كاتب من العراق


شارك
نهال جمال - مصر

في متاهة القصص المؤلمة والمعاناة المستمرة، التي لا تجد آذاناً صاغية، هناك ما يتستر عليه المجتمع باعتبار مفهوم "العيب". هناك ما يُواجَه باللامبالاة من قِبل الرجال، والمنظمات المحلية، والمنظمات الحكومية، وتلك الإنسانية غير الحكومية: للنساء خصوصية، لا تؤخذ في الاعتبار ضمن شروط العيش في مخيمات النازحين، ومنها على سبيل المثال فترات الحيض التي يتعرضن لها شهرياً، والتي تؤثر على أدائهن اليومي، الجسدي والنفسي. قد يتمنين ساعة يجلسن فيها بمفردهن، أو يحلمنَ ببعض الهدوء الذي يستحيل نيله قبل خلود أفراد عائلاتهن إلى النوم. قد يبدو حلم الحصول على بعض الراحة والهدوء من ضجيج السكن مع أكثر من 6 أشخاص، في خيمٍ لا تتعدى مساحتها ستة أمتار طولاً وأربعة عرضاً، مستحيلاً في ظل وجود رجال، بشكل دائم في الخيم، لانعدام فرص العمل لديهم.

في السنوات العشر التي قضيتها في مخيم على تخوم الجبال، أقصى شمال العراق - وما زلت - شهدتُ نساءً يقفن في طوابير استلام السلال الغذائية، ويدفعن براميل النفط الأبيض، ويغيّرن الخيم المهترئة. لم يكنَّ يشكين من نقص الاهتمام، واضطررن لتجاهل صحتهن النفسية في سبيل النجاة. البرد شتاءً، والحر صيفاً، والجوع في كل الأوقات. كن مشغولات بالحزن على الموتى وإطعام الأحياء إلى درجة أنهن نسين كونهن نساء، نسين حاجاتهن، صرن لا يشكين، ولا يبدين ذلك الاهتمام الكبير بوصف أيامهن.

في كل قصة، هناك بطل وشرير وضحية ومنتصر، لكن في قصص هؤلاء النسوة، تمثِّل كل واحدة منهن الشخصيات الأربع. فهناك التي واجهت موت أخيها، وقص شعرها وإلباسها ثياب الحزن في عمر السابعة عشرة. وهناك التي هربت من إرهاب رئيس بلادها وقصْفه مدينتها إلى مخيمٍ تواجِه فيه انتحار صديقتها، وغياب مساحة التعبير عن آلام "دورتها الشهرية" حتى لأختها، بسبب وجود رجال في الخيمة. وهناك التي تهرب خارج أسوار المخيم للتنفس وإطلاق عصافير حريتها، حيث لا يعتقلها السياج الذي يحيط بالمكان. وغيرهن مئات الآلاف، اللواتي لا يشاركن قصصهن إمّا تجنباً لوسوم مخزية جاهزة، يُقلِّدهن بها المجتمع، وإما لإدراكهن عدم جدوى الكلام، في وقتٍ يتم بيعهن فيه، كأرقام على طاولتي الحرب والسياسة.

بعضهن قضين عقداً ويزيد من الزمن، كبرن وتعلّمن في المخيمات، وأثّر ذلك عليهن، على كيفية نظرتهن إلى العالم وإلى أنفسهن. وبعضهن الآخر، نسينَّ كيف كنَّ قبل أن يتحولن إلى كائنات، تكاد تتعفن في الخيم "النايلونية". بعضهن هرب من الموت، على أيدي حماة وطنهن، إلى خيم يمكن أن تحترق في أية لحظة.

ولكن، لمن يسردن قصصهن، تتساءل إحداهن، مَن يسمع؟ فأقول بابتسامة أليمة على وجهي الذي لطَّخه المخيم: أنا أسمع! أنا أسمع وأكتب. ولكنني أسأل بدوري: مَن يقرأ؟

"ماريّا": قتلوني وأنجبتُ نفسي

في حوار معنا، تشارك "ماريّا" (اسم مستعار)، 21 عاماً، مواجهتها الموت والحياة في مخيم يقع أقصى شمال العراق، يُسمّى "جم مشكو"، تسكنه أغلبية "إيزيدية" وعوائل مسلمة، كلها في الأصل من مدينة "سنجار".

"بعد أن انتحر أخي، صارتِ الخيمة التي علّق نفسه بعمودها، تضيّق نَفس أمي، فانتقلنا إلى خيمة أخرى، وكأننا بتغيير خيمتنا، نهرب من الموت، ونتخلى عن تبعاته، لكننا لم نفعل. كان حاضراً في كل نفسٍ نتنفسه، وفي كل صباح نفتح فيه أجفاننا لاستقبال يومٍ جديد. بعد تلك الصدمة، ولكثرة ما ضربتُ الأرض بيديّ العاريتين، فقدتُ الوعي. لم أفقد قدرتي على الشعور، كان الألم حاضراً في داخلي.

لا أستطيع النوم في الظلام، موته حاضر، وهو غائب. وإنْ استغرقتُ في النوم، ويكون عادةً بعد سهر طويل وجسد منهَك، أرى كوابيس، فيها أشخاص كثر معلّقون من رقابهم، كما كان هو. كان أخي ينظر إلي بتعجب. في أحايين كثيرة أفكر في أننا لو كنا في مكان أفضل من المخيم، لما انتحر، ولما لجأ إلى الموت للنجاة. أعاتب نفسي كثيراً، لأنني في تلك الفترة كنت منهمكة في دراستي كمحاولة لتجاوز مرحلة "البكالوريا"، ولم أنظر إليه إلا في اللحظة الأخيرة. لا أزال أتذكر ابتسامته الخفيفة، ونظرته الأخيرة إليّ. وأتساءل: هل كان انتحاره بسبب إهمال من حوله له؟ أشعر أن يدي التي فكّت الحبل الذي كان ملفوفاً حول عنقه ملطخة بالدم، ويشعر كذلك أهلي. في كل مرة تنظر فيها أمي إليّ، تقول لي إنني السبب، من دون أن تقول لي إنني السبب.

عندما استيقظتُ، كانت الساعة تقارب الرابعة صباحاً، أمسك خالي بيدي وأخذني إلى الخيمة، التي كانت ملأى بمشاعر الفقدان، اللوم، البكاء، والأسئلة المتكررة. وضعتُ رأسي على كتفه، جدتي أمسكت بشعري وقصَّت جديلتي[1]. في تلك اللحظة، شعرتُ وكأنني مُتُّ أيضاً. أردتُ الاحتفاظ بالجديلة المقصوصة، لكنها اختفت!"

"لا أزال أتذكر انتحار صديقتي. في الصف 12، أو آخر مرحلة في الثانوية العامة، درستْ بشكل مكثف، وكان بيتهم كبيتنا. وكطلبة، مررنا بضغط نفسي هائل، ولكن تعاملنا مع هذا الضغط كان متفاوتاً. كنا جالسات حول بعضنا، سألتنا: "إن متُّ اليوم، فهل ستحزنّ علي؟" اعتبرنا سؤالها مزاحاً، أو نكتة. ولكن في اليوم الذي تلاه، وصل إلينا خبر موتها انتحاراً".

وعمّا تفعله "ماريّا" في فترة "الدورة الشهرية" وتأثيرها على نفسيتها، وانعدام الخصوصية، تقول: "أغضب بسرعة، أعرف أنّه ليس لأحدٍ ذنبٌ في ما أعانيه، ولكن ليس لي ذنب أيضًا. لم أستطع النوم بسبب الضجيج، الذي تتسبب فيه الحركة حولي، انتظرتُ حتّى نام الجميع كي أنعم برفاهية الهدوء. عانيت من صداع شديد، وفي النهاية، اخترت تناول دواء مهدئ صرت آخذه بشكل يومي. خرجتُ وحدي أتمشى، حتّى تجاوزت سور المخيم، حيث هناك جبال، وإمكانية تخيّل الحرية، تخيّلها فقط".

وتضيف: "انعدام قدرتي على الدراسة والتحضير للامتحانات النهائية، شكّل باستمرار عقدة نفسية أسهمت في مضاعفة سوء مزاجي. ليس لدي مساحة خاصة بأشيائي، أحتفظ بها كلها في قلبي، خارج المخيم".

مقالات ذات صلة

وتقول: "شعوري بأنه يلقى عليّ اللوم لانتحار أخي، وحبسي في هذا المخيم لأنني ولدتُ في مدينةٍ ما، بهوية دينية، وانعدام سبل النجاة، كلها أسهمت في قتل "ماريّا". ولكنني قررت إنجاب واحدة أخرى، إذ أزور الطبيب النفسي على نفقتي الخاصة، وأعتقد أنني صرت أقوى".

"خيال": لا أملك رفاهية الاستلقاء براحتي في الخيمة

"خيال" (اسم مستعار)، 26 سنة، 10 سنوات في مخيم "جم مشكو" للنازحين، حيث لا تزال نزيلة مع عائلتها.

تقول "خيال" إنه في السنة الأولى، وخاصة في الشهور الأولى من السكن في المخيم، لم يكن في حماماته ماء، فتضطر النساء لجلبه بالدلاء، حتى وإن كنّ متعبات، بل منهكات، وعالقات في ذكرى الحرب. عليهن جلب الماء من مسافات بعيدة، كي لا تتكرر واقعة موت "الإيزيديين" في جبل "سنجار" عطشاً اثناء هجوم تنظيم "داعش" في آب/ أغسطس 2014.

"في أحايين كثيرة أفكر في أننا لو كنا في مكان أفضل من المخيم، لما انتحر أخي، ولما لجأ إلى الموت للنجاة. أعاتب نفسي كثيراً، لأنني في تلك الفترة كنت منهمكة في دراستي كمحاولة لتجاوز مرحلة "البكالوريا"، ولم أنظر إليه إلا في اللحظة الأخيرة. لا أزال أتذكر ابتسامته الخفيفة، ونظرته الأخيرة إليّ. وأتساءل: هل كان انتحاره بسبب إهمال من حوله له؟".

"أمسك خالي بيدي وأخذني إلى الخيمة، التي كانت ملأى بمشاعر الفقدان، اللوم، البكاء، والأسئلة المتكررة. وضعتُ رأسي على كتفه، جدتي أمسكت بشعري وقصَّت جديلتي. في تلك اللحظة، شعرتُ وكأنني مُتُّ أيضاً. أردتُ الاحتفاظ بالجديلة المقصوصة، لكنها اختفت!".

كانت "خيال" في عمر المراهقة في ذلك الوقت، ولغياب أية وسائل ترفيهية، قررت اللجوء إلى تلفاز صغير أحضره أهلها. في أغلب الأحيان، تترك للصور المتحركة على الصندوق حرية السفر بها إلى عوالم أخرى، ولكنها عرفت عند سماعها صوت أحد افراد عائلتها الذين سكنوا في الخيمة نفسها، أنّها لا تزال عالقة في المخيم.

سكنتُ في خيمة مع 7 أشخاص، قالت إنهم لو كانوا 9 لحصلوا على خيمتين.

قالت إنّها بالرغم من آلام وتبعات "الدورة الشهرية"، التي يرافقها إرهاق وتعب يكاد يكون مستمراً، وبعد عودتها من العمل، لم تستطع الاستلقاء براحتها في ساعات وجود أبيها وإخوتها في الخيمة، وهو ما كان قائماً أغلب الوقت. بلغ الألم مستوىً تمنت فيه ساعةً تنام فيها وألاّ يوقظوها للقيام بعمل ما. أن تبكي كما تريد، وأن تستلقي كما تريد. تقول إنّ معنى الحرية لها كان قدرتها على الاستلقاء بطريقة مريحة، لكن أسوار المخيم تعتقل الحرية ومعناها. "كنت بحاجة إلى موضع أستريح فيه من ضغط العمل قبل ولوج الخيمة ولقائهم، كنت أريد أن أصمت وأن أستلقي براحتي، كما أريد، ولكنهم كانوا هناك، كنا هناك".

ذكرت أنها شخصياً لم تشهد مبادرة من جهة حكومية أو غير حكومية، لتخصيص اهتمام بالنساء وحاجاتهن. وحتى لو وجدتْ، فلم تكن مرئية أو منتشرة.

"تمنيت لو أن الرجال، في عائلتي على الأقل، بادروا بفتح الموضوع لجعله أسهل، أو ثقّفوا أنفسهم قليلاً. لو طلبوا مني القيام بعمل أو طبخ وجبة، وقلت إنني لا أستطيع، أن يسألوا لماذا؟ حتى أشرح لهم معاناتي في ذلك اليوم". "وكيف أثّر انعدام الخصوصية على صحتي النفسية؟ عدم الاستقرار الذي يمنعني من التخطيط لمستقبلي يطرد إمكانية وجود أهداف أو أحلام. مُنِعت حتّى من تخيل المستقبل. أعيش بطريقة عشوائية، أذهب مع الحشد إلى اللامكان.

حين أفكر في اليوم، وما حدث فيه، فليس فيه شيء ذو أهمية. وحين أفكر في الغد، لا أجد له بلوغاً، ليس لصباح الغد وجود، وهناك سياج حول المخيم، يحيط به، ويسجنني، مانعاً إياي من رؤية ما سأكون".

تقول "خولة سيدو" وهي خريجة "قسم النسائية والتوليد"، وتعمل قابلة ومع المنظمات الإنسانية، في حديثها معنا: "لا يتوقف الأمر عند التعدي على خصوصية النساء، وهو ما يجب على كل أفراد المجتمع التثقف بشأنه واعتبار التحاور بشأنه وتبني نشره مسؤولية جماعية، بل يتم إجبار النساء على العلاقة الجنسية خلال الدورة الشهرية، وحتّى بعد الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل وحتى الشهر السادس، التي لا يصح القيام بها خشية النزف ولوجود إمكانية كبيرة لحدوث إجهاض، أو انتقال التهاب ما من الرجل إلى المرأة".

وتعتقد "سيدو" أن النساء عليهن التحرر من القيود التي أسقطها المجتمع عليهن، وأن يمارسن حريتهن كما يردن من دون تفسيرها أو تبريرها. فبعضهن من تضطر للقيام بالأعمال المنزلية، بغض النظر عن حالتهن النفسية أو الجسدية، وخدمة أزواجهن وتلبية رغباتهم الجنسية.

قالت إنّها بالرغم من آلام وتبعات "الدورة الشهرية"، التي يرافقها إرهاق وتعب يكاد يكون مستمراً، وبعد عودتها من العمل، لم تستطع الاستلقاء براحتها في ساعات وجود أبيها وإخوتها في الخيمة، وهو ما كان قائماً أغلب الوقت. تمنت ساعةً تنام فيها وألاّ يوقظوها للقيام بعمل ما. أن تبكي كما تريد، وأن تستلقي كما تريد. تقول إنّ معنى الحرية لها كان قدرتها على الاستلقاء بطريقة مريحة.

"تمنيت لو أن الرجال، في عائلتي على الأقل، بادروا بفتح الموضوع لجعله أسهل، أو ثقّفوا أنفسهم قليلاً. لو طلبوا مني القيام بعمل أو طبخ وجبة، وقلت إنني لا أستطيع، أن يسألوا لماذا؟ حتى أشرح لهم معاناتي في ذلك اليوم". " انعدام الخصوصية أثّر على صحتي النفسية. يمنعني من التخطيط لمستقبلي. يطرد إمكانية وجود أهداف أو أحلام. تخيّل المستقبل. أعيش بطريقة عشوائية".

وقد عملت "سيدو" في 2021 مع منظمة "JRS" ودرّبت 200 امرأة ورجل حول التغيرات الهرمونية، وضرورة الحذر في التعامل مع المرأة وتغيرات جسدها. ولكنها تمنت أن يصبح المتدرِّبون مُدَرِّبين لآخرين غيرهم، وأن ينشروا المعلومة، ولكن الواقع يظهر العكس.

على الجانب الآخر من المأساة العراقية، هناك تلك السوريّة. والوضع أكثر سوءاً في المخيمات التي يقطنها سوريون هاربون من الحرب بين سوريّا والمتسلّط على حكمها.

أجريتُ حواراً مع امرأة سوريّة، لاجئة في مخيم "دوميز" الأول في محافظة "دهوك"، في "كردستان العراق"، الذي تم تشييده بعد الحرب الأهلية في سوريا عام 2011.

"ليلى": هرِبنا من "بشار"

تقول "ليلى" (اسم مستعار)، 21 عاماً: "بعد أن هربنا من مدينة "دوما" في ريف "دمشق" بساعة واحدة، تم قصفها. هربنا من "بشار" بحثاً عن الأمان، ولكن المخيم ليس أقل وحشية. في السنوات الأولى لم يكن هناك ماء للشرب، واضطررنا إما لشرائه وإمّا لإحضاره من أماكن بعيدة. وبالنسبة إلى عوائل مهجَّرة ولاجئة، كان صعباً علينا حتّى التفكير في أمر آخر غير النجاة. ننجو اليوم، ولا نعرف شيئاً عن الغد. لأن النار يمكن أن تنشب في أية لحظة، وتمحي قواطع كاملة من المخيم، إمّا بسبب حرارة الصيف أو المس الكهربائي، أو بسبب مدفأة في خيمة ما شتاءً. كنا نخاف أن نتدفأ شتاء. كنا سبع بنات وشابين، مع ابنَيْ خالي، اللذين لم يحصلا على خيمة لوحدهما، كونهما "بلا عائلة". في تلك الفترة، صببتُ جام تركيزي على الدراسة، حسبتُ أنها الملجأ الوحيد، والطريقة الوحيدة لتجاوز سور المخيم. ولكن، ها أنا هنا، بعد 12 سنة، وبعد أن تخرجت من "معهد التمريض". لا يزال المخيم قائماً، ولا أزال أعيش كما في اليوم الأول الذي سكنّاه. كانت أمنيتي التي لم تجد لها طريقاً للتحقق، هي الحصول على بعض الهدوء. وأثَّر ذلك على مستواي الدراسي. كنا – أنا وصديقاتي - ننتظر أن تفرغ خيمة إحدانا لنجتمع هناك وندرس. وفي فترة "الدورة الشهرية"، كنت أنتظر خروج الرجال من الخيمة، كي تتاح لي فرصة الاهتمام بجسدي أو التحدث من دون قيود مع واحدة من أخواتي. أردت التحرر من شبكات سقطت عليّ من السماء، كما سقطت القنابل على مدينتي".

"ترك عندي هذا الوضع نفوراً من الجميع. مثلاً حين كنت أدرس في المعهد، أجمل أوقاتي قضيتها وحدي على مصطبة في حديقة الجامعة. لا أعرف كيف أتلذذ بالوحدة، ولكنني أفعل! انعدمتْ علاقاتي الاجتماعية بسبب الخوف من الخروج، تبعاً لحالات خطف حصلت في المخيم. فكنت أخاف الاختلاط". وحين سألتها عن مبادرة جهة حكومية أو غير حكومية لتنظيم فعاليات، كمحاولة للتخفيف من آلام النساء، نشاطات رياضية أو فنية أو ترفيهية، من أي نوع كانت، كما هو مفترض أن يكون في مخيمات اللاجئين، أجابت: "لا، ولكن ما فعله الأهالي، أنه بعد حصولهم على فرصة لتحويل الخيم "النايلونية" إلى غرف، صار الأمل أسهل على النساء. العمل هو كالآتي: يستطيع نزلاء المخيم تحويل خيمهم إلى غرف من الطابوق. وهناك خياران: إما أن يبنوا الغرفة بمساحة محددة وتصميم معين، بدعم من منظمات إنسانية، وغرفة بالنسبة لسبعة أشخاص مساحتها قليلة جدًا. وكان سقف الغرفة سقفاً مستعاراً، بلاستيكياً، معرضاً للطيران أو الاحتراق. وإمّا أن تقرر العائلة بناء غرفتين أو أكثر بدلاً من الخيمة. ولكن عند القيام بذلك، ترفض المنظمات تقديم الدعم، فيضطر النزلاء لدفع تكاليف البناء بأنفسهم".

"لا أزال أتذكر انتحار صديقتي. في الصف 12، أو آخر مرحلة في الثانوية العامة، درستْ بشكل مكثف، وكان بيتهم كبيتنا. وكطلبة، مررنا بضغط نفسي هائل، ولكن تعاملنا مع هذا الضغط كان متفاوتاً. كنا جالسات حول بعضنا، سألتنا: "إن متُّ اليوم، فهل ستحزنّ علي؟" اعتبرنا سؤالها مزاحاً، أو نكتة. ولكن في اليوم الذي تلاه، وصل إلينا خبر موتها انتحاراً".

هربنا من "بشار" بحثاً عن الأمان، ولكن المخيم ليس أقل وحشية. في السنوات الأولى لم يكن هناك ماء للشرب، واضطررنا إما لشرائه وإمّا لإحضاره من أماكن بعيدة. وبالنسبة إلى عوائل مهجَّرة ولاجئة، كان صعباً علينا حتّى التفكير في أمر آخر غير النجاة. ننجو اليوم، ولا نعرف شيئاً عن الغد.

"في تلك الفترة، صببتُ جام تركيزي على الدراسة، حسبتُ أنها الملجأ الوحيد، والطريقة الوحيدة لتجاوز سور المخيم. ولكن، ها أنا هنا، بعد 12 سنة، وبعد أن تخرجت من معهد التمريض. لا يزال المخيم قائماً، ولا أزال أعيش كما في اليوم الأول الذي سكنّاه".

"يحيط بالمخيم سياج، خلفه هياكل بنايات غير مكتملة. قصدتها صديقتي تعدو وأبوها يلحقها محاولاً استعادتها. رمت بنفسها من الطابق الرابع".

"هذا الحدث كان كفيلاً بزرع خوف في داخلنا، والشك في احتمال انتحار إحدى صديقاتنا في أية لحظة. وأرعبني بشكل خاص، لأنه أسهم في ظهور أكبر لشبح الانتحار في خيالاتي. ماذا سيحصل لو مُتُّ اليوم، هل سيحزن عليّ أحد؟ هل سيحدث ذلك تغييراً في العالم؟".

______________________

  1. - قص شعر النساء والفتيات، أو انتزاعه، تقليد متّبع، تعبيراً عن الحزن على الميت.

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

الموت امرأة من شنكَال

فؤاد الحسن 2024-06-03

أعلنت جائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن اللوائح القصيرة المرشحة للفوز . وفي فئة مقالات الرأي، أعلنت عن أسماء المرشحين الثلاثة وهم عبد الرحمن الجندي من مصر، ومصطفى الأعصر من...