في يوم عيد الأضحى، وبينما يتجه الناس إلى المساجد، لأداء صلاة العيد فرحاً باليوم المبارَك، كان رئيس نقابة الأطباء المقيمين، "يحيى الطالب دحمان"، يواصل رفقة زملائه الاعتصام الذي بدأ قبل أسابيع في مبنى وزارة الصحة بالعاصمة "نواكشوط". وقد اجتمع الأطباء في باحة الوزارة، لأداء صلاة العيد والتذكير بقضيتهم، بعد أن عاشوا الأيام السابقة في أروقة الوزارة، يفترشون الأرض، ويلتحفون بستراتهم البيضاء، وقد تعرض بعضهم لحالات شديدة من الإعياء أثناء اعتصامهم. وكان الأطباء قد دخلوا في إضراب مفتوح عن الطعام، كرد فعل على ما يرونه "تجاهلاً من قبل الوزارة لمطالبهم، ومماطلة تهدف إلى كسب الوقت".
فما حكاية هذا الإضراب؟
يأتي هذا الإضراب كمرحلة ثانية بعد إضراب سبقه في أيلول/ سبتمبر، 2023. وقد بدأ الإضراب الجديد جزئياً في 22 نيسان/ أبريل 2024، وفي 13 أيار/ مايو دخل الأطباء في إضراب كامل، وبعد ذلك بأيام اعتصموا داخل مباني الوزارة.
يطالب الأطباء بالحقوق القاعدية للأطباء المقيمين. وبحسب الدكتور "دحمان"، لم يشرع الأطباء في الإضراب قبل أن يخطروا الوزارة بأنهم سيُضربون 45 يوماً في حال لم تحدث استجابة لمطالبهم، مؤكداً أنهم يرجون أن ينتهي الإضراب باتفاق مُلزِم للوزارة، يحصلون بموجبه على حقوقهم، موضحاً أنه "سوى ذلك ستتجه الأمور إلى التصعيد، وربما تكون النتيجة الإقالة أو الاستقالة من قطاع الصحة".
279 طبيباً كانوا يقدمون خدمات استشفائية، وانسحبوا بالإضراب في يوم واحد. ولكن ذلك، لم يجعل الوزارة تهتم لا بإيجاد بدائل منهم، ولا حتى بفتح حوار معهم من أجل إقناعهم بالعدول عن موقفهم. الوزارة لم تهتم، لأن المريض غير مهم، وبالتالي فالطبيب بدوره غير مهم. وبالنسبة إلى الطبيب المقيم بشكل خاص، فهو عمالة رخيصة بالنسبة إلى وزارة الصحة.
فطنت وزارة الصحة لأهمية الطبيب المقيم في المستشفى خلال فترة التخصص. في سنة 2017 كان لديها 65 طبيباً مقيماً، فراحت كل عام تزيد العدد! وفي سنة 2024 صاروا 130 طبيباً. فطنت الوزارة إلى أنهم عمال مهرة، ومتوفرون على مدى ساعات اليوم، وطوال أيام الأسبوع، وأجورهم زهيدة، وبلا حقوق. صارت تتعامل معهم بنظام الكفيل، تكتتبهم بالكمية وترميهم بالكمية، ولا تثبِّتهم بعد التخرج.
وبحسب الأطباء، فهم لم يجدوا آذاناً صاغية لنقاش مطالبهم المرفوعة وحقوقهم المهدرة، وهي تتمثل في "جودة التكوين، وتوفير الشهادات الجامعية التي يمكن للطبيب المقيم أن يقوم بالعديد منها أثناء التكوين، حيث يمكنه خلال التخصص الواحد أن يعمل على التحصيل العلمي الشهادات الجامعية، لأن هذه الشهادات عبارة عن دراسات معمقة داخل دراسات، وهذا غير موجود في موريتانيا. وهناك أيضاً الظروف المادية للطبيب المقيم وهي غير جيدة، حيث يحصل على 12 ألف أوقية، أي ما يناهز 300 دولار، كمنحة غير قابلة للزيادة، ولا يترتب على تلك المنحة أي إصلاح في سلم الرواتب إذا قامت الحكومة به، حيث لا يستفيد من رفع الرواتب. وهذه المنحة، لا تكفي لشخص بهذه المؤهلات، ولديه التزامات عائلية واجتماعية". ويضيف قائلاً: "هناك أسباب أخرى أيضاً، وهنا أتحدث عما كان في إضراب أيلول/ سبتمبر 2023، وهو الأول، حيث يسجل الأطباء المقيمون أنفسهم بحسب حاجة الوزارة، وبعد ذلك يرمون في الشارع، في حين تعتمد المنظومة الصحية عليهم. وهم الآن، وبالتالي، يدافعون عن مستقبلهم الوظيفي وعن الولوج إلى الوظيفة العمومية، كمطلب أساسي، والقانون في صفهم. ولكن هناك تعنتاً من الإداريين، وقد حصل اتفاق في أيلول/ سبتمبر السالف ذاك، لم تلتزم به الوزارة، بل صعّدت ضدنا، حيث كان لدينا تأمين صحي ومنعتنا منه، وحرمت زملاءنا في السنة الأولى من التخصص من مِنَحهم لمدة شهرين، وفعلت ذلك أيضاً مع زملائنا المقيمين في تونس، ولمدة سبعة اشهر، حيث أن هؤلاء نجحوا في مسابقة الاختصاص في موريتانيا، لكنهم يواصلون تكوينهم في "صفاقس"، بسبب أن هناك تخصصات لا يزال الذين يختارونها يتكونون في الخارج وليس في البلد. وحين لم نجد أي تجاوب من طرف الوزارة، شرعنا في هذا الإضراب الجديد".
عمالة رخيصة ولا مستقبل وظيفي لها
يرى الأطباء في مرحلة التخصص، أنه يتم استغلالهم من قبل الوزارة. فالطبيب المقيم هو طبيب أنهى الطب العام ونجح في مسابقة وطنية للإقامة الطبية، التي تسمح له بدخول سلك الاختصاص، وفي فترة دراسة الاختصاص، يطلق عليه لقب "طبيب مقيم"، لأنه يقيم في المستشفيات طوال اليوم، وعلى مدار أيام الأسبوع. وبحسب الأطباء، فهو من تلقى على كاهله معالجة الحالة الصحية للمريض، بلا مقابل علمي ولا مادي. والطبيب الموريتاني بشكل عام يعاني تخبط الإدارة، لأن لا سياسة صحية عمومية واضحة لها، ولا تقدِّم المريض كأولوية، وبهذا يعاني الطبيب باعتباره "مقدِّم خدمة"، وتقدير الخادم على حسب تقدير المخدوم. ويضرب الدكتور "دحمان" مثالاً على عدم اكتراث الوزارة بالمرضى ولا الأطباء، فيقول: "279 طبيباً كانوا يقدمون خدمات استشفائية، وانسحبوا بالإضراب في يوم واحد. ولكن ذلك، لم يجعل الوزارة تهتم لا بإيجاد بدائل منهم، ولا حتى بفتح حوار معهم من أجل إقناعهم بالعدول عن موقفهم.
نجد في مخيمات اللاجئين في غزة حالياً، حين يأتيهم طبيب متخصص، أنه يمكنه علاج المرضى في الخيام، أو إجراء العمليات في الأكواخ، لأنه يمتلك الكفاءة، وعبر تجهيزات بسيطة يمكنه فعل الإعجاز. في حين أن الخطأ الكبير المرتكب في موريتانيا هو أن الوزارة تضع الخطط للإسمنت فقط ولبناء القاعات الخ... وليس على المصادر البشرية المؤهلة.
يريد الأطباء المقيمون أن يصاغ لهم إطارٌ قانونيٌّ واضحٌ، يكفل لهم حقوقهم، ويحدد لهم واجباتهم. ومن أهم الحقوق المطالَب بها هي المستقبل الوظيفي الواضح، والحقوق المادية والمعنوية أثناء التكوين".
الوزارة لم تهتم، وهو ما يؤكد أن المريض غير مهم، وبالتالي فالطبيب بدوره غير مهم. وبالنسبة إلى الطبيب المقيم بشكل خاص، فهو عمالة رخيصة بالنسبة إلى وزارة الصحة. وهي فطنت لأهميته سنة 2017 حين كان لديها 65 طبيباً مقيماً، فراحت كل عام تزيد العدد! فمثلاً في سنة 2023 قبلت 110 أطباء مقيمين، وفي سنة 2024 صاروا 130 طبيباً. فطنت الوزارة إلى أنهم عمال مهرة، ومتوفرون على مدى ساعات اليوم وطوال أيام الأسبوع، وأجورهم زهيدة، وبلا حقوق، وفي النهاية ستتخلص منهم، فصارت تتعامل معهم بنظام الكفيل، تكتتبهم بالكمية وترميهم بالكمية، وهذه الحال لم تعد مقبولةً من الأطباء، وهم يريدون أن يصاغ لهم إطارٌ قانونيٌّ واضحٌ، يكفل لهم حقوقهم، ويحدد لهم واجباتهم. ومن أهم الحقوق المطالب بها هي المستقبل الوظيفي الواضح، والحقوق المادية والمعنوية أثناء التكوين".
قطاع معطل وفرص مهدرة
يعاني القطاع الصحي في موريتانيا من التخبط وعدم الاستفادة من الكفاءات الوطنية. وبحسب الأطباء، تركِّز الحكومة في كل خططها الموجهة إلى القطاع الصحي على الاهتمام بالإسمنت على حساب الكادر البشري، وهو ما ينتقده الأطباء، حيث يرون أن ذلك الجانب لا يمثِّل إلا نسبة ضئيلة من المطلوب. ويقول الدكتو "دحمان": "الحكومة تفضل السياسات الإسمنتية وكتابة اللافتات وبناء المقرات بدل التركيز على الأهم، وهو الطبيب، فمثلاً نجد في مخيمات اللاجئين في غزة حالياً حين يأتيهم طبيب متخصص يمكنه علاج المرضى في الخيام، أو إجراء العمليات في الأكواخ لأنه يمتلك الكفاءة، وعبر تجهيزات بسيطة يمكنه فعل الإعجاز. في حين أن الخطأ الكبير المرتكب في موريتانيا هو أن الوزارة تبني الخطط على الإسمنت فقط وعلى بناء القاعات الخ... وليس على المصادر البشرية المؤهلة والمتوافر منها ما يكفي. لدينا من البرامج التكوينية القابلة للتفعيل الكثير، ونحن نطالب بغيرها أيضاً، وهو ما قد يجعلنا من أكبر مصدِّري الكفاءات الطبية في المنطقة المحيطة بنا، وفي الوقت الذي تبني الوزارة خططها على الإسمنت، وتقوم بتوقيع عقود باذخة مع أطباء أجانب يقدِّمون الخدمة نفسها، التي يقدمها الطبيب الموريتاني، وأحياناً يكونون تحت إمرتهم ولكن تعويضاتهم أكبر"، موضحاً أنه يفهم أسباب ذلك، حيث الوزارة "تشعر بنقص في عدد الأطباء، وفي الوقت نفسه تناقض نفسها. فهي في سياساتها تدفع الأطباء الموريتانيين إلى الهجرة بسبب غمط حقوقهم المادية". وخلص إلى القول أن "أهم إصلاح للقطاع الصحي هو التركيز في سياسات الصحة العمومية على الكادر البشري الوطني".
ووفقاً لمعطيات وزارة الصحة الموريتانية، يبلغ عدد الأطباء في موريتانيا 1317 طبيباً، بينهم 473 طبيباً اختصاصياً، و702 طبيباً عاماً، و142 طبيب أسنان. وهو عدد ضئيل مقارنة بعدد السكان الذي يناهز 5 ملايين نسمة. وتعاني البلاد من ضعف في الإمكانات الصحية، ونقص في المستشفيات والكوادر الطبية. وبحسب آخر إصدار لبرنامج تطوير الصحة في موريتانيا 22-30، فإن هناك ولايات فيها اختصاصي واحد مثل ولاية "آدرار" وطبيب أسنان واحد، وولايتين متجاورتين لا تجد فيهما طبيب أطفال، في دولة هناك 25 في المئة من سكانها أعمارهم تحت خمس سنوات.
ويذُكر أن في برنامج التكوين لدى وزارة الصحة حالياً ما لا يقل عن ثلاثين طبيب أطفال، ولكنهم يخشون أن ترميهم إلى الشارع بعد انتهاء تكوينهم،ولا تكتتبهم بعد التخرج، لينتفع منهم أطفال الولايات المحتاجة إلى الأطباء. وهذا الواقع، قد يدفع الأطباء إلى الهجرة طلباً للحياة الكريمة. فهل تتغير الحال، ويجد الأطباء ما يسعون إلى إيجاده؟