مليشيات "العرجاني" فصل جديد في حاضر دولة هشة

على الرغم من تراجع حوادث الإرهاب في "سيناء"، إلا أن وضع المنطقة الاستثنائي مع استمرار "معاهدة كامب ديفيد"، والتأخر في خطط التعمير، سيجعل منها نقطة ساخنة، ما يوفر استمرار عمل رجال "اتحاد القبائل" في حماية المنطقة وتسيّدها. فهل ستتحول "سيناء" إلى منطقة تتمتع بالحكم الذاتي؟ وهل يكفي ما يحمله السيناوية من مخزون الارتباط بالهوية المصرية لرفض ذلك، ونبذ "العرجاني" بكل ما يمثله من سطوة ونفوذ؟
2024-06-07

ميرفا حمدان

باحثة في السوسيولوجيا السياسية، من مصر، تقيم في دبلن، إرلندا


شارك
محمد بدوي - سوريا

تتميز مصر بوحدة وتجانس بشري، يصعب معه ظهور حركات انفصالية، فإن ظهرت سرعان ما تذوب، وإن استمرت ضعف أثرها، حتى وإن تزامنت مع لحظة زمنية تتصف بالضعف والهشاشة السياسية والاجتماعية. وهنا يمكن الاستعانة بوصف الجغرافي الراحل "جمال حمدان"، الذي يقول في الجزء الثاني من كتاب "شخصية مصر"[1]، إن قانوني التجانس والتدرج يحكمان الحياة في مصر. التجانس بفعل نهر النيل، الذي رسم الحياة بها عبر ضفتيه، والتدرج لانعدام وجود انتقالات حادة فارقة على مستوى الجغرافيا الطبيعية والبشرية.

... ومع ذلك، يظل الحديث عن مليشيات "العرجاني" حديثاً مقلقاً، سواء في علاقته باتحاد قبائل سيناء فرئاسته له، أو رئاسته لـ"اتحاد القبائل العربية" عقب تأسيسها، خاصة أن مصر سبق لها أن عانت في العصر الجمهوري، من أحداث مشابهة خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، حين أطلق الرئيس الراحل "أنور السادات" يد جماعات الإسلام السياسي المسلحة في مصر، لمقاومة التيارات اليسارية في الجامعات والنقابات والحركات العمالية، فكان هو شخصياُ ضحية لتغولها، وشهدت مصر خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت محاولات لتصفية تلك الجماعات وحصارها من قبل الأجهزة الأمنية، خلال معارك دامية، ترافقت مع انتهاكات حقوقية شتى، ودفع فيها المواطن المصري الثمن الأكبر.

ملاحظة أولية على تجمع "اتحاد القبائل العربية" -أعلن عن تأسيسه بداية شهر أيار/ مايو الفائت-، أنه كيان غير متجانس، سيأكل نفسه بنفسه، بسبب عدم رضا كافة القبائل العربية عن ذلك الاتحاد، خاصة قبائل صعيد مصر، التي تتمتع بنفوذ واسع في محافظاتها، ولها أعراف في قوة القوانين تطبق بين أبنائها في أمور الثأر، والزواج، وميراث الفتيات، وغيرها، وهي أيضاً تمتلك نفوذاً اقتصاديّاً وسياسيّاً واسعاً، ويتردد أن السلطة مارست ضغطاً كبيراً لجمع أعضاء من ممثلي تلك القبائل، تحت لواء "العرجاني".

الأمر الثاني، هو أن هناك حالاً من عدم الرضا أيضاً عن انفراد "إبراهيم العرجاني" بالتحدث باسم قبائل سيناء، فعلى الرغم من أن قبيلة "الترابين"، التي ينتمي إليها "العرجاني" تمثل أكبر قبائل بدو سيناء، لكن هناك قبائل أخرى أيضاً على قدر من الأهمية والنفوذ، خاصة أن الرجل لا يحتكر الخطاب السياسي فقط، بل كل المكاسب المالية من مولاة النظام. فقد فازت شركته، "أبناء سيناء"، عام 2014، بالمساهمة في إعمار مدينة غزة، عقب الدمار الواسع الذي تعرضت له، وأطلقت السلطة يديه في الاستفادة من ثروة الخردة والمخلّفات الناتجة عن العدوان الإسرائيلي. لكن الخوف من نفوذه يمنع المعارضين من التحدث علناً. وتكثر الحكايات المتناقضة حول شخصية "العرجاني" ما بين بطشه بمعارضيه، وربما تصفيتهم مهما كانت خلفياتهم، وتمتعه بصفات بدوية تجعله مثيراً للإعجاب لكل من يقترب من دائرته. لكن المؤكد أنه صار مظهراً من مظاهر فساد تحالف السلطة مع المال.

بدو الهامش

ولفهم كيفية صعود "اتحاد قبائل سيناء"، ينبغي العودة إلى عام 2010. فبالتزامن مع ما شهدته مصر من حراك شعبي ضد نظام الرئيس الراحل "محمد حسني مبارك"، نشرت وسائل الإعلام[2] في النصف الثاني من العام ذاته تغطية لمؤتمر صحافي، عقده ممثلون من قبائل بدوية في شمال سيناء، وذلك بمدينة "رفح المصرية"، طالبوا خلاله بتولّي الأجهزة السيادية ملفات الخلاف بين القبائل والشرطة المصرية التي وصلت المواجهة بينهما إلى ذروتها، وأيضاً بضرورة تنمية سيناء والإفراج عن جميع المعتقلين من أبنائها وقتها، ومن بينهم "إبراهيم العرجاني".

وقتها كان ينظر إلى مثل تلك الأخبار بنوع خفي من التعاطف. فجهاز الداخلية بقيادة الوزير السابق "حبيب العادلي" - لُقِّب بـ"وزير التعذيب" - كان مدرباً على أسوأ أشكال التنكيل بالمواطنين، حتى أن القاهرة كانت واجهة للحصول على اعترافات تحت التعذيب الوحشي بالنيابة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي). وانتشرت حالات القتل تحت التعذيب داخل الأقسام في "القاهرة"، و"الجيزة"، أما في محافظة بعيدة مثل "سيناء"، تعاني من تغطية حقوقية وإعلامية محدودة، فكان الأمر أسوأ، خاصة بالنسبة إلى حالات الاختفاء القسري، والاحتجاز خارج القانون، بل أن الشرطة كانت ترتكب واحدة من الكبائر بالنسبة إلى المجتمع البدوي: تعمًّد احتجاز النساء من أقارب المطلوبين أمنياً حتى تسليم أنفسهم، فاستحقت بذلك غضباً وكراهية عامّين.

تكثر الحكايات المتناقضة حول شخصية " إبراهيم العرجاني"، ما بين بطشه بمعارضيه، وربما تصفيتهم مهما كانت خلفياتهم، وتمتعه بصفات بدوية تجعله مثيراً للإعجاب لكل من يقترب من دائرته. لكن المؤكد أنه صار مظهراً من مظاهر فساد تحالف السلطة مع المال.

تعامُل الدولة مع أهالي سيناء من البدو مثّل بشكل عام إشكالية امتدت لعقود. فهم المصريون الانتماء والجذور، الذين لعبوا دوراً محورياً في حرب الاستنزاف عقب هزيمة حرب 1967، وكان لهم أعضاء بارزون في "منظمة سيناء العربية" الفدائية، الملقبون بالأشباح من قبل جيش الاحتلال، لقدرتهم القتالية الفائقة خلال العمليات الفدائية، لكنهم لم يحصلوا على شيء في المقابل، لا من مكاسب نصر "أكتوبر"، ولا عقب توقيع "اتفاقية كامب ديفيد" المعيبة، ودائماً ما وُوجهوا بتهميش واستخفاف من قبل السلطة المصرية، كما لم تضخ الدولة الاستثمارات اللازمة لتنمية سيناء، خاصة في شمالها.

فيما ترك جنوبها لأصحاب النفوذ، يستولون على أراضيها بثمن زهيد، ويحولونها إلى منتجعات وفنادق فاخرة، تستقطب السياحة العالمية إلى موقعها البارز. واقتصر دور أهالي سيناء على الأعمال الخدمية، من حراسة لتلك المنشآت، وتقديم العروض التراثية، وغيرها من أنشطة التخييم في الصحراء. وأوغر ذلك صدور السيناوية، الذين يرون أنهم أصحاب الأرض والأولى بخيرها.

وظل المحافظون من لواءات الجيش والشرطة يتعاقبون على محافظتي سيناء شمالها وجنوبها، شأنها شأن كافة المحافظات الحدودية بمصر التي يُمنع تولي رئاستها من قبل مدني، يحمل المعرفة التي تتناسب مع احتياجات تلك المناطق. هذا عدا الصورة الذهنية التي رسختها وسائل الإعلام، وربطت بين البدو وبين الأنشطة غير القانونية، كل ذلك أدى إلى انعزال المواطن السيناوي نفسياً ومجتمعياً.

وعند اندلاع الثورة المصرية، وجد أهل سيناء مجالاً في رخاوة القبضة الأمنية، وفرصة لبسط نفوذهم على سيناء، أرض أجدادهم، حتى استعان بهم الجيش خلال عام 2013 في الأعمال الاستخبارتية ضد "الجماعات الإرهابية". ثم تكوّن "اتحاد قبائل سيناء" عام 2017، الذي كان "إبراهيم العرجاني" عنصراً مهمّاً فيه قبل أن يتولى رئاسته.

ملاحظة أولية على تجمع "اتحاد القبائل العربية": أنه كيان غير متجانس، سيأكل نفسه بنفسه، بسبب عدم رضا كافة القبائل العربية عن ذلك الاتحاد، خاصة قبائل صعيد مصر، التي تتمتع بنفوذ واسع في محافظاتها، ولها أعراف في قوة القوانين تطبق بين أبنائها في أمور الثأر، والزواج، وميراث الفتيات، وغيرها، وهي أيضاً تمتلك نفوذاً اقتصاديّاً وسياسيّاً واسعاً.

سبق لمصر أن عانت خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي من أحداث مشابهة لظاهرة الميليشيات المسلحة، حين أطلق الرئيس الراحل "أنور السادات" يد جماعات الإسلام السياسي المسلحة في مصر، لمقاومة التيارات اليسارية في الجامعات والنقابات والحركات العمالية، فكان هو شخصياُ ضحية لتغوّلها.

كان هدف الاتحاد دعم الجيش في الحرب ضد الجماعات التكفيرية، بما تملكه من تسليح حديث، مصدره بشكل كبير عمليات التهريب عبر الحدود المصرية الليبية التي تصل إلى ألف كيلو متراً، وتحديداً خلال الاحتجاجات ضد الرئيس الراحل "معمر القذافي"، التي دعمها حلف "الناتو" بمنح هائلة من الأسلحة الحديثة.

كان يمكن ــ بلا شك ــ تفادي كل تلك الأحداث المؤلمة، في حال تنفيذ مشاريع واسعة لتعمير سيناء، وتحويلها إلى مجتمع متكامل، كما كان يأمل المهندس الراحل "حسب الله الكفراوي"، وزير الإسكان السابق، والملقب بـ"أبو المدن"، الذي عرض خطة متكاملة على الرئيس الراحل "السادات" لتعمير سيناء، وكشف عن ذلك بعد قيام الثورة المصرية، في عدد من الحوارات الإعلامية، متذكراً حلمه بتوطين 4 ملايين مواطن في سيناء، وتعمير القطاع الأوسط، وذلك خلال السبعينيات من القرن الماضي، وعقب عبور 1973. شمل تصميم القرى السيناوية منازل مناسبة للطابع البدوي، على أن تكون مدناً دفاعية في الوقت ذاته، فالمنزل مصمم بحيث يكون أسفله مخبأ للأسلحة والسيدات والأطفال فى حال وقوع هجوم. وبدأ تنفيذ حلم "الكفراوي" بالفعل، في منطقة "بئر العبد" و"بالوظة"، لكن خطته توقفت بسبب نقص المخصصات المالية، وما مثلته ضغوطات اتفاقية "كامب ديفيد".

سنوات الإرهاب

مرة أخرى، نعود إلى عام 2011 لفهم ملابسات صعود "إبراهيم العرجاني" ومليشياته. فعقب الثورة المصرية تحولت سيناء الآمنة إلى ملعب للجماعات التكفيرية، حتى أن أسلحة الرشاش المتعدد كانت تثبت بشكل عادي أعلى أسطح البيوت[3]، وكان أفراد الأجهزة الأمنية يختفون تماماً عند غروب الشمس، لتبدأ عمليات الاغتيالات ضد أكمنة الشرطة أولاً، ثم بعدها ببضعة أشهر بدأت استهداف أكمنة الجيش. وقيل وقتها أن وعورة التضاريس هي السبب في عدم تمكن الأجهزة الأمنية من استعادة قبضتها على سيناء.

تَعامُل الدولة مع أهالي سيناء من البدو مثّل بشكل عام إشكالية امتدت لعقود. فهم المصريو الانتماء والجذور، الذين لعبوا دوراً محورياً في حرب الاستنزاف عقب هزيمة حرب 1967، وكان لهم أعضاء بارزون في "منظمة سيناء العربية" الفدائية، الملقبون بالأشباح من قبل جيش الاحتلال، لقدرتهم القتالية الفائقة خلال العمليات الفدائية، لكنهم لم يحصلوا على شيء في المقابل.

قدّم "حسب الله الكفراوي"، وزير الإسكان الأسبق في زمن "السادات"، تصاميم لقرى سيناء ومنازل مناسبة للطابع البدوي، على أن تكون مدناً دفاعية في الوقت ذاته. فالمنزل مصمم بحيث يكون أسفله مخبأ للأسلحة والسيدات والأطفال فى حال وقوع هجوم. وبدأ تنفيذ حلم "الكفراوي" بالفعل في منطقة "بئر العبد" و"بالوظة"، لكن خطته توقفت، بسبب نقص المخصصات المالية، وما مثلته ضغوطات اتفاقية "كامب ديفيد".

شهدت تلك الفترة أيضاً تفجيراً متكرراً لخطوط أنابيب الغاز الطبيعي بين مصر ودولة الكيان المحتل، وكان فاعلوها يُعلنون عن أنفسهم بفخر، وكان الغليان في نفوس المصريين ضد النظام المباركي قادراً على حمايتهم. وعلى الرغم من كل التبريرات، فلا يمكن تفسير الفوضى الأمنية التي عمت سيناء عقب "ثورة يناير 2011"، وذلك على الرغم من عقود من إحكام القبضة الأمنية على الطرق المؤدية إلى سيناء.

وزادت الأوضاع الأمنية في سيناء سوءاً، عقب وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم عام 2012، ممثلة في الرئيس الراحل "محمد مرسي"، وهي جماعة إسلام سياسي لا تمارس العنف المسلح، لكن رجلاً واسع النفوذ كان يريد أن يسيطر على مفاصل الدولة، خاصة بعد أن استُبعِد من السباق الرئاسي، وهو المهندس "خيرت الشاطر"، نائب المرشد العام للجماعة، الذي نجح في توطيد العلاقات بين الجماعات الجهادية في سيناء وبين "تنظيم القاعدة"، عن طريق "محمد الظواهري" شقيق "أيمن الظواهري" رئيس تنظيم القاعدة، وهو الأمر نفسه الذي ذكره القيادي الجهادي السابق لـ"نبيل نعيم" [4] في تصريحات إعلامية له.

____________
من دفاتر السفير العربي
في سبر اغوار سيناء | إسماعيل الإسكندراني
____________

لم تكن تلك الجماعات التكفيرية في سيناء غير منفصلة تماماً عن الأهالي، فبعضهم كان ينتمي إلى عائلات كبيرة، ويجدون من المواطن السيناوي قدراً من التعاطف بسبب التهميش والعزلة، وأيضا لانتشار الفكر التكفيري بدرجة ما بين أهالي شمال سيناء، بينما تدفق المقاتلون الأجانب للانخراط في الحركات الإرهابية، مستغلين الانفلات الأمني، الذي أدى إلى فرض حالة الطوارئ على شمال سيناء عام 2014، بالتزامن مع تعتيمٍ إعلامي شديد على الأحداث، ومنع الصحافيين من تغطية الأوضاع في سيناء، فيما شهد عام 2015 القبض على الباحث "اسماعيل الإسكندراني" بسبب كتابته عن سيناء، ووُجهت له تهم نشر أخبار كاذبة، والإسهام في تأسيس صفحة عن سيناء، يتم من خلالها الترويج لبعض المزاعم والأخبار المغلوطة، التي من شأنها زعزعة الثقة في المؤسسة العسكرية!

وحملت القضية رقم 18 لسنة 2018 جنايات شمال القاهرة العسكري، كوميديا سوداء بين أوراقها، إذ نسب إلى المتهم الآخر في القضية، "وليد محارب"، تهمة تكوين مجموعة سرية تحمل اسم طريقة عمل المحشي -الملفوف-، هدفها تنظيم حملات إعلامية ضد مؤسسة الرئاسة والنظام القائم بالبلاد! وتتشابه التهمة السابقة مع التهم السريالية الملفّقة ضد معارضي النظام، منذ تولي الرئيس "عبد الفتاح السيسي" الرئاسة.

ظل المحافظون من لواءات الجيش والشرطة يتعاقبون على محافظتي سيناء شمالها وجنوبها، شأنها شأن كافة المحافظات الحدودية بمصر، التي يُمنع تولي رئاستها من قبل مدني، يحمل معرفة تتناسب مع احتياجات تلك المناطق. هذا علاوة على الصورة الذهنية التي رسختها وسائل الإعلام، وربطت بين البدو وبين الأنشطة غير القانونية. كل ذلك، أدى إلى انعزال المواطن السيناوي نفسياً ومجتمعياً.

شهدت فترة نهايات حكم "مبارك" تفجيرات متكررة لخطوط أنابيب الغاز الطبيعي بين مصر ودولة الكيان المحتل، وكان فاعلوها يُعلنون عن أنفسهم بفخر، وكان الغليان في نفوس المصريين ضد النظام المباركي قادراً على حمايتهم.

ومع تزايد العمليات الإرهابية في سيناء، ظهرت تقارير حقوقية دولية[5]، تحمل اتهامات للقوات المسلحة بالقتل خارج القانون والاحتجاز بدون أمر قضائي، وتهجير مدنيين. وعلى الرغم من المصطلحات غير المحايدة التي تكررت في تلك التقارير، واصفة العمليات الإرهابية في سيناء بالنزاع المسلح، إلا أنها طرحت إشكالية الانتهاكات الإنسانية المرتكَبة بسبب الحرب على الإرهاب. وخلال عام 2021 أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان - جهة حكومية - بيان[6] تقصي حقائق لعدد من الانتهاكات الحقوقية في سيناء، اعتبرها مجرد مزاعم لا أساس لها من الصحة. وللمجلس تقارير مشابهة تنصف النظام دائماً.

تجنيد الأطفال

خلال نهاية شهر تشرين الثاني / نوفمبر عام 2017، تعرض شمال سيناء لهجوم إرهابي استهدف مسجد "الروضة"، في مدينة "بئر العبد"، وأسفر عن استشهاد 305 من المصلين المتواجدين داخل المسجد، بينهم 27 طفلاً كانوا برفقة ذويهم، فضلاً عن إصابة 128 آخرين. والحدث يُعد الأسوأ من نوعه، حتى بالمقارنة بذروة العمليات الإرهابية خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي.

فداحة الحادثة أدت إلى التحول في استراتيجية مكافحة الإرهاب، إذ تشكَّل "اتحاد قبائل سيناء"، عقب صدور بيان من قبيلة "الترابين"، وبعدها قبيلة "السواركة"، يبديان استعداهما الدخول في مواجهة مسلحة ضد التنظيمات التكفيرية في سيناء. وظل دور "اتحاد القبائل" استخباراتياً لقوات الجيش والشرطة، وفقاً لتقرير حقوقي[7] صادر عن "مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان".

يورد التقرير التحول النوعي الذي حدث بعد عام 2020 ، وتمثل في تدريب الجيش أفراداً من "اتحاد القبائل" داخل معسكرات تابعة له بشكل منتظم. ثم خلال منتصف عام 2021، طلبت المخابرات الحربية، وتحديداً "مكتب شؤون القبائل"، من وجهاء قبائل: "السواركة"، و"الترابين"، و"الرميلات"، تكوين مجموعات مسلحة من عشائر القبائل، بتمويل من رجال أعمال تابعين لهذه القبائل، وجرى تدريب تلك المجموعات داخل مقرات تابعة للجيش في "العريش" و"بئر العبد"، فيما أطلق عليها مقاتلو "معركة التطهير".

خلال نهاية شهر تشرين الثاني / نوفمبر عام 2017، تعرض شمال سيناء لهجوم إرهابي استهدف مسجداً في مدينة "بئر العبد"، وأسفر عن استشهاد 305 من المصلين. والحدث يُعد الأسوأ من نوعه، حتى بالمقارنة بذروة العمليات الإرهابية خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي. فداحة الحادثة أدت إلى التحول في استراتيجية مكافحة الإرهاب، إذ تشكَّل حينها "اتحاد قبائل سيناء".

خلال منتصف عام 2021، طلبت المخابرات الحربية، وتحديداً "مكتب شؤون القبائل"، من وجهاء قبائل"السواركة"، و"الترابين"، و"الرميلات"، تكوين مجموعات مسلحة من عشائر القبائل، بتمويل من رجال أعمال تابعين لهذه القبائل، وجرى تدريب تلك المجموعات داخل مقرات تابعة للجيش في "العريش" و"بئر العبد"، فيما أطلق عليها مقاتلو "معركة التطهير".

الأمر ليس بجديد، فسبق أن استعانت القوات المسلحة المصرية بمدنيين من مدن "القناة"، و"سيناء" نفسها، مثّلوا المقاومة الشعبية في مناطقهم، خاصة خلال فترة حرب الاستنزاف، وساعدتهم التدريبات العسكرية على التصدي لقوات العدو خلال العمليات الفدائية. لكن الخطورة هنا هي التطور الذي يمكن أن يحمله المستقبل. فعلى الرغم من تراجع حوادث الإرهاب في سيناء، لكن وضع المنطقة الاستثنائي مع استمرار "معاهدة كامب ديفيد" والتأخر في خطط التعمير، سيجعل منها نقطة ساخنة، ما يلزم استمرار عمل رجال "اتحاد القبائل" في حماية المنطقة وتسيّدها. فهل ستتحول سيناء إلى منطقة تتمتع بالحكم الذاتي؟ وهل يكفي ما يحمله السيناوية من مخزون الارتباط بالهوية المصرية لرفض ذلك؟ ونبذ "العرجاني" بكل ما يمثله من سطوة ونفوذ؟

تطور مقلق أخر، حدث خلال عام 2023، إذ ضمت وزارة الخارجية الأمريكية[8] مصر إلى قائمة الدول المتورطة في استخدام الجنود الأطفال. استندت هذه الخطوة إلى تقارير مستقلة، تفيد بأن الجيش المصري أجرى عمليات مشتركة مع الميليشيات المتحالفة معه في شمال سيناء (ويقصد بها "اتحاد قبائل سيناء")، التي قامت بدورها بتجنيد الأطفال ضد الجماعة المسلحة، "ولاية سيناء"، المرتبطة بـ"تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش).

المعني نفسه حمله تقرير حقوقي[9] لـ"مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان"، حيث وثّق التقرير تجنيد أطفال لا تتجاوز أعمارهم 15 عاماً، كُلِّفوا بمهام عرّضتهم للخطر في مواجهة عناصر تنظيم "ولاية سيناء"، الذين قاموا بمطاردة الأطفال وقتلهم فيما بعد. كما سمحت قوات الجيش لميليشيات "اتحاد القبائل" المتحالفة معها بتجنيد واستخدام الأطفال، في أعمال القتال ضد الجماعات المسلحة، ما تسبب في مقتل وإصابة بعضهم.

ويقر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تجنيد الأطفال باعتباره واحداً من ستة انتهاكات خطيرة ضد الأطفال في أوقات الحرب. فالقانون الدولي لحقوق الإنسان يحظِّر تجنيد أو استخدام الأطفال، الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً، ويعتبر استخدام الأطفال دون سن 15 عاماً جريمة حرب. بالطبع بعد حرب الإبادة على غزة، فقدت المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان مصداقيتها، لكنها المرة الأولى التي تُتَّهم فيها مصر بتجنيد أطفال في أعمال عسكرية، وهو أمر خطير، ودليل على الانتهاكات الواسعة التي تحدث في سيناء تحت مسمى "الحرب على الإرهاب".

ويشبه "اتحاد قبائل سيناء" ورئيسه، "العرجاني"، مزيجاً مما فعله الرئيس الراحل "السادات"، عندما عمل على تقوية حركات الإسلام السياسي المسلح، وما فعله "مبارك" في إطلاق يد رجل الأعمال "أحمد عز"، الذي احتكر الحديد والسياسة خلال العقد الأخير من سنوات الحكم المباركي. وعلى الرغم من أن الظاهرتين شهدتا الصعود والأفول، لكن ضعف نظام "السيسي" المثقل بالديون والقروض، إضافة إلى تغييب جميع الشخصيات المعارضة من جانب، ورجال الأعمال والساسة الموالين لعصر مبارك أيضاً، حتى المعتدلين من بينهم من جانب آخر، نتج عنه فراغٌ كبيرٌ يحتمل تضخم ظاهرة "العرجاني" ونفوذه خلال السنوات القليلة القادمة.

______________________

  1. - شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان، د. جمال حمدان، الطبعة الأولى، مؤسسة دار الهلال، القاهرة، 1967 وهو من أربعة أجزاء.
  2. خبر نشر في جريدة المصري اليوم، بتاريخ 1-7-2010: "بدو سيناء يعقدون مؤتمراً صحفياً بحضور المطلوبين أمنياً": https://2u.pw/qHUqoxPb
  3. - وفق شهادات ميدانية لعدة باحثين.
  4. حوار "نبيل نعيم" لقناة "أون تي"، بتاريخ 27-3-2017 https://2u.pw/wL4xdL30
  5. تقرير حقوقي لمفوضية حقوق الإنسان، نشر بتاريخ 16-3-2017: "عمليات قتل محتملة خارج نطاق القضاء في سيناء" https://2u.pw/PI8FdWLj
  6. نشر التقرير في جريدة المصري اليوم، بتاريخ 10-2-2021 https://2u.pw/VPz7K8pI
  7. تقرير حقوقي صادر بتاريخ 26-9-2022: "نهاية “وشيكة” لداعش في سيناء ومستقبل غامض" https://2u.pw/udn2Cjc7
  8. 2023 Trafficking in Persons Report: Egypt https://2u.pw/nxgPqZhY
  9. تقرير حقوقي بتاريخ 8-8-2023 بعنوان: كنت خائف ... كنت سبعة عشر عامًا فقط https://2u.pw/vg1TXec5

مقالات من مصر

معاداة الأخضر ومجزرة الأشجار

أمنية خليل 2024-07-11

ما يحدث هو نزع مباشر لأهلية المواطنة، بمعناها الأوسع. من أن المواطنين يمكنهم اختيار شيء، بل والتحكم بعض الشيء في حياتهم اليومية. نزع صفة التحكم، والقول لهم بكل الأشكال المباشرة...