الموت امرأة من شنكَال

أعلنت جائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن اللوائح القصيرة المرشحة للفوز . وفي فئة مقالات الرأي، أعلنت عن أسماء المرشحين الثلاثة وهم عبد الرحمن الجندي من مصر، ومصطفى الأعصر من مصر، وفؤاد الحسن من العراق. والأخير صحافي وكاتب من "السفير العربي" ونصه المرشح هو: "الموت امرأة من شنكال". وسيجري الإعلان عن الفائز/ة من كل الفئات في حفل كبير يقام يوم الثلاثاء 04 حزيران / يونيو في بيروت. وبمناسبة هذا الترشيح نعيد نشر النص.
2024-06-03

فؤاد الحسن

كاتب من العراق


شارك
| en
آني كوركجيان - لبنان

نشر هذا النص لأول مرة على موقع السفير العربي بتاريخ 13 /03 / 2024

قالوا إن مدينة سنجار[1]، بقراها وبيوتها الطينية، وشوارعها غير المعبدة، وبساتينها الميتة، ليس فيها ما يُغري داعش بدخولها، فكل المدن مفتوحة لهم بأمر رئاسي وجمهوري وإلهي. ما الذي سيدفعهم إلى غزو مدينة تقع على الحدود مع سوريا، يتحدث سكانها بلغة لا يفهمها أحد، ويعكفون على عزلة مطلقة، تتيح لهم الإبقاء على روحٍ تسكن مقابرهم، وتغطي المدينة كستارةٍ من الرمل؟

قالوا إن هذه الحرب، كسابقاتها، اختبار إلهي لمدى صبرنا وتحمّلنا، وتمسكنا بأرض أجدادنا التي عانوا فيها من 73 إبادة، والجبل الذي يعتلي الأفق كفارسٍ متمرسٍ بِرمحه اللامرئي - يغرسه في صدور الأعداء بقوة تتفوق على الأسلحة المصنّعة وراء الحدود - لن يخذلهم، وسيسهر على حمايتهم كأبٍ شريف.

قالوا إن الحياة تنتهي عند حدود المدينة، ولا تنفع الرجل خارج بيته أرضٌ ولو كانت مُجَتزِّئة من أطهر الجنان. ولا لسان له غير لغته ولو كانت تقْطر عسلاً. ولا أهل له خارج قريته، ولو أقسَم آخرون ألف مرة على الوفاء بعهد الأخوّة.

ولا يمكن لَومَهم في بيئة قبَلية متطرفة، يتفاخر أفرادها بانتماءاتهم العشائرية والقبلية والدينية، وهي أشياء حصلت لهم بطريقة لاإرادية، ولم يكُ ثمة إنجاز فعلي لهم فيها. فقد تعرضوا للقتل أفراداً وجماعات على أيدي القريبين والبعيدين...

قالوا إنهم سيدخلون إلى المدينة، يفرضون سلطتهم على الشوارع غير المبلطة كانتقامٍ من الكفر الذي يسود الأرض ولحصد الحسنات التي ستؤهِّلهم إلى دخول الجنة، بتطهير أرض الأنبياء من عجائز يرتدين فساتين بيضاء ويَلْفُفْنَ خصورهن بكوفيات برتقالية اللون، ويقفن في مواجهة الشمس كل صباح للصلاة للرب وتوثيق علاقتهن بالطبيعة. عارفات أننا على هذه الأرض لوقت قصير، لحرب أو اثنتين، فالزمن إذاً لم يعد يُقاس بالساعات، بل بالحروب، كم عمرك؟ عمري ثلاث حروب.

قالوا إنّهم سيغادرونها بمجرد التأكد من غياب مقاومة السكان، فالسكان معروفون بسلميتهم، وقد حسب البعض أن سلميتهم المفرطة غباء، لأننا إن كنا أشجاراً معتقدين أن العالم غابة، فإن ريحاً نارية قادمة لا محالة وستحيلنا إلى رماد. فيتوجب عليهم إذًا تسليح أنفسهم بالشك، والكلاشينكوف(ات).

وقد قالوا إنّهم نجوا من أكثر من سبعين فرماناً، ومحاولات التعريب التي قام بها "السيد القائد" الديكتاتور، محررهم من الحياة. لن تكسرهم حرب أخرى، فالحروب جزء دائم الحضور في التاريخ البشري، وإن كان "الكبار" يوهِمون أنفسهم بالاعتراف باثنتين عالميتين فقط، فكل حرب هي عالمية. منذ فجر اليوم الأول وهناك حروب مستمرة، فردية وجماعية ودينية وقومية ثقافية، وهناك حرب الإنسان مع نفسه، وهي الأهم والأكثر إهمالاً عالمياً، وعَمَلنا كجنود هو النجاة في كل مرة والمحافظة على أرباع حيواتنا، فالطريقة الوحيدة الممكنة لمواجهة جبروت الموت هي في العيش، والمشاركة في الحياة بكل الطرق الممكنة.

هناك نساء عُدْنّ لشنكَال، جثث تسير في المدينة، تتسوق وتتنزه في الشوارع، تزور أقاربها في المقابر، تحضِّر الطعام وتتناول أقلّه، تتزوج وتنجب جثثاً أخرى. جثث لا تعرف لمَن توهب موتها، للجيش أم للميليشيات التي تملأ المدينة، جثث تراقب صور الموتى المعلقة على كل عمودٍ، كأنّها عصافير لا عش لها فاختارت شنكَال، وجثث ترحب بالنساء.

ربما كانت الجنة هي تلك القرية، وطريق الحق الوحيد هو تركهم لحيواتهم البسيطة. لكن آباء العالم يريدون القيام بأعمال الرب وتصحيحه بإنقاذه من قتل نفسه. حتّى أنَّهم يعاقبوننا بطريقة أشد من معاقبة الرب، فهو أمطر النار والكبريت على سدوم وعمورة، لكنَّهم أضافوا القنابل العنقودية والكيمياوية والميليشيات.

وقالوا إن المدينة مهمَلة، شوارعها طينية وغياب الكهرباء يعيدها إلى زمن الكهوف، متناسين أن فيها أثمن قطعة على الأرض: كافر، لا يتبع دين الدولة الرسمي[2]، ونساء "سافرات"، كائنات من الخطايا تسير في الشوارع حاملات مفاتيح دخول الجنة ونيل حور العين. وأطفال تراهم عيون الأمراء كبستان من الثمار التي ستنضج بسقيها المياه المقدسة فتتحول إلى أشبال خلافة[3] يُبَرمَجون على كره أهاليهم ويُؤمَرون بقتلهم، وتتم مكافأتهم بزوجات صالحات مطيعات يركبنهم في السرير على الطريقة الأمازونية، ويربين أشبال خلافة، وفتيات يتحولن إلى ماكنات إنجاب انتحاريين، أو ربما صرن يوماً عضوات في الحسبة[4].

تعددت الأقوال قبل احتلال داعش. لكن حين فعلوا، ومع انسحاب الجيش ساد صمت جنائزي، ولم يقل أحد شيئاً، فقد كان واضحاً أن صفقة مربحة تمّتْ، وإنْ لم يعترف بذلك أحد. عرفنا أننا بضاعة بيعت، ولا أعرف من أعطى البائع الحق في ذلك، فكثيرٌ من السكان كانوا غير مسجّلين كمواطنين، وآخرون نالوا شرف المواطنة بدفع رشوة. وقد قال مدرِّس مادة التاريخ في مدرسة القرية ذات مرة: إننا لكي نصبح أحفاد كلكامش، وننتمي إلى سلالة حمورابي، وننال استحقاق عضوية ميزوبوتاميا، فإن علينا دفع رشوة إلى موظف لا يعرف أحد أصله.

وقد قاوم السكان بأسلحتهم الصدئة، التي حاولت الحكومة الموقرة سلبهم إياها عدة مرات، ربما لأنها أرادت ألا يتحكم بالموت سواها. قاوموا حتّى الفجر، حيث دخلت عناصر داعش إلى القرى وحررتْها من الإله المحلي، وبراياتٍ سودٍ تؤكد وحدة الله، وألاَّ إله إلاه، أعدموا الرجال الذين رفضوا إلههم الحق، ورفضوا جنَّتهم. ربما كانت الجنة هي تلك القرية، وطريق الحق الوحيد هو تركهم لحيواتهم البسيطة. لكن آباء العالم يريدون القيام بأعمال الرب وتصحيحه بإنقاذه من قتل نفسه. حتّى أنَّهم يعاقبوننا بطريقة أشد من معاقبة الرب، فهو أمطر النار والكبريت على سدوم وعمورة، لكنَّهم أضافوا القنابل العنقودية والكيمياوية والميليشيات.

هناك مَن بقي في بيته. وهناك مَن نزح إلى الجبل. في منتصف الصيف، مات الأطفال عطشاً، وصمد البالغون بشربهم أقذر مياه، ومات الأطفال جوعاً، لأن حلمات أمهاتهم كانت جافة، وأجسادهن نحلت. كان الشبان يحملون آباءهم وأمهاتهم على ظهورهم، ويتجهون إلى الجبل سيراً على الأقدام، كمن فاجأه الموت قبل الموت، وظهر أمامه بكامل حليته، على طريقة النبلاء الفرنسيين، متبرجاً، متعطراً، وجاهزاً. الجبل البني يتموج في الأفق، والشمس تجلد ظهورهم بسياطها. تشكلت دوائر شفافة خلف أجفانهم، وبعضها أغمض إلى الأبد، وتُركت أجسادهم في الطريق. ربما كنت بينهم، وأغلق التعب جفنيّ إلى الأبد، فحفر أبي بيديه العاريتين ودموعه، قبراً لي في منتصف الطريق، حتّى هلك هو أيضاً، واستوى قربي، قبَّل رأسي للمرة الأولى والأخيرة هناك، وبكى. ربما أظهر لي أبي حبه بحفر قبري أثناء اللجوء إلى جبل سنجار، ورُبما قُتل قبلي، ربما بقي أحدنا ليحفر قبر الآخر ويستوي معه في القبر، ونبكي بعضنا، للمرة الأولى والأخيرة.

أنا اثنان. طفل بقي هناك، يلحق بأبيه الباكي الذي يهرع من مكانٍ إلى آخر بحثاً عن وسيلة للنجاة، ولا يعثر عليها. يشحذ أصحاب السيارات أن ينقذوا معهم أطفاله وزوجته، وتتقافز دموعه لأنَّه كبر قبل أن يشتري سيارة يهرِّب بها أهله من الموت. يطلب من صاحب شاحنة "لوري" معبأة ببضاعة سنجارية توشك على التلف متجهة نحو اللاأين، يرفع رأسه والعرق ينضح من كل مساماته، ومن عينيه بدمع أليم، يهز السائق رأسه نافياً، فيمسح أبي عينيه ويواصل البحث. يقف في طريق سيارة أخرى، يطلب منها بعين أغرقها الدمع: "برا، بەس زاروە ببا، ئەز نە ئیم، هەگا ئەز مرم ژي، بەس زاروا ببا!" (أخي، خذ الأطفال معك، الأطفال فقط، أنا لن آتي، حتّى لو مُتُّ، لكن خذ الأطفال) يهز السائق رأسه نافياً، ويشير برأسه إلى السيارة التي تعاني تحت ثقل الأجساد المتكدسة فيها. فيمسك بيدي ويبعدني عن الجموع، ويتحدث إلي رجلاً إلى رجل، باعتباري الابن الأكبر: "يبدو أننا سنبقى، إذا حدث شيء، اقتلني أولاً، لا أريد أن يقتلني أحد سواك" قال لي.

وأنا طفل نجا، وعاش في المخيم لعقد من الزمن يكتب لعالمٍ لا يعرف إلا لغة القتل، لا يعرف كيف يقرأ الكلمة المكتوبة، ربما لو عرف، نجونا جميعاً، لكنه لا يعرف!

وهناك مَن تحدّى الأخبار القائلة إن الطريق المؤدي إلى كردستان مغلق، ونزح. وكنا منهم. ما زلت أتذكر دموع أبي، نلحق به كموتى صغار، هو الميت الكبير الذي جرفت عينيه دموع العجز، وانساب مخزونه من الدموع كاملاً. لم أرَه يبكي قبلها، كان ينظر إلى أخواتي وأمي، ويبكي، ويبكي. يبكي خوفًا عليهن، خوفًا أن يصرن بضاعة تباع في أسواق النخاسة، أو أجسادًا لأمراء التنظيم، الجائعين أبدًا لأجساد البنات الصغيرات، كما اتَّضح.

أغلق التعب جفنيّ إلى الأبد، فحفر أبي بيديه العاريتين ودموعه، قبراً لي في منتصف الطريق، حتّى هلك هو أيضاً، واستوى قربي، قبَّل رأسي للمرة الأولى والأخيرة هناك، وبكى. ربما أظهر لي أبي حبه بحفر قبري أثناء اللجوء إلى جبل سنجار، ورُبما قُتل قبلي، ربما بقي أحدنا ليحفر قبر الآخر ويستوي معه في القبر، ونبكي بعضنا، للمرة الأولى والأخيرة.

هناك مَن تحدّى الأخبار القائلة إن الطريق المؤدي إلى كردستان مغلق، ونزح. وكنا منهم. ما زلت أتذكر دموع أبي، نلحق به كموتى صغار، هو الميت الكبير الذي جرفت عينيه دموع العجز. لم أرَه يبكي قبلها، كان ينظر إلى أخواتي وأمي، ويبكي، يبكي خوفًا عليهن، خوفاً أن يصرن بضاعة تباع في أسواق النخاسة، أو أجساداً لأمراء التنظيم، الجائعين أبداً لأجساد البنات الصغيرات، كما اتَّضح.

إلى جانب عشرات العوائل، صعدنا سيارة ميتسوبيشي ولحقنا بقافلة التشرد. فيما تعزف الأسلحة سمفونيتها على أوتار السماء. نحمل هوياتنا، وبيتاً بنيناه في صدورنا، كي تتخذه العصافير المطرودة من المدينة عشاً، ونسكنه على طرق مقفرة.

لا أتذكر وجه أمي في رحلة الهرب من الموت، لا أتذكر وجه أخواتي، وتجاهلت النظر إليهن، إلى جدتي، وزوجات أعمامي وبناتهن. كنت أدفن وجهي بين قدميّ فيما تهتز السيارة وتحرق الشمس ظهري. سمعت بكاء الأطفال جوعاً، ونحيب النسوة الخافت، ودموع الرجال البُكْم، لكنني لم أرفع رأسي. تقيأت هواءً لتقلب معدتي الفارغة، وحدقت في اللعاب حتّى جفَّ بين قدمي. في كثيرٍ من الأحيان أفسر تجاهلي النظر إليهن بأنه تجنب لتخيلهن في أيدي داعش وأسواق النخاسة التي نظموها، يبكين ويصرخن مناديات اسمي، لا أفسره كجبنٍ مني، بالرغم من أنني أعرف أنَّه كذلك، ولا شيء سواه.

وصلنا إلى كردستان بمعجزة، إذ في منتصف الطريق، أقفلت كل السيارات عائدة إلى المدينة التي سيطر داعش عليها، لأن الطريق كان مغلقاً، وانتشر الرعب في صفوف الناس. كنت أسمع نواح النساء وقد اشتدّ، لم يكنّ يبكين، بل كانت أصواتهن تشبه العواء. تعوي كل امرأة بطريقة مختلفة، ويتلفت الرجال في حيرة. لم أرفع رأسي، هزَّت جدتي جسدي لتتأكد من أنني ما زلت حياً، وحين تقيأت لعابي مرة أخرى، انشغلتْ بالآخرين. لم أرفع رأسي، تقيأت لعابي للمرة الثالثة، وارتفعت الأصوات، وعلا إطلاق النار من مختلف الجهات. كنا في ساحة حرب، كنا قطعاناً من الأكباش في ساحة الذئاب، وسواطير تنهال من السماء على أعناق مثل عنقي، وأنا أحدق في اللعاب بين قدميَّ. استمرت دقائق أبدية من استقبال الموت والأرض تهتز تحت وقع أقدامه، حسبته كائناً سماوياً، فأمر كهذا، له قوة تتغلب على أسلحة الدولة كلها، لا بد أن يكون مبعوثاً من السماء. كنت ساذجاً، كنت طفلاً يحدق في اللعاب بين قدميه فيما يقفل عائداً نحو موتٍ مؤكد.

نظَّم داعش النساء في طوابير لتسجيلهن كبضاعة "حلال"، العذراوات هن المفضّلات. كل واحدة منهن تنال عباءة كي تستر تحتها شرفها حتّى يشتريها داعشيٌ ينكحها حسب الشريعة فتُغفر كل ذنوبها، وتسامحها السماء، وربما دخلت الجنة إذا حملت بأشبال الخلافة. وإن كان عمرها لم يتجاوز الرابعة عشرة، وإن نزفت، وإن بكت، وإن ضاعت صرخاتها في المدن المحتلة، وإن ماتت، فلا يهم...

تقول الأرقام إن التنظيم سبى 3548 امرأة، وبعضهن أنجبن الأطفال من عناصر داعش. مَن يصنف هؤلاء الأطفال؟ إن كانوا "دواعشاً" فهل قرروا في رحم أمهاتهم الانضمام إلى التنظيم؟ وقد جاؤوا تواً إلى الحياة، فلماذا لا ينتمي أحد منهم إلى أمه، ويزور شنكَال؟ ربما لأن الطرق ممتلئة بعوائل داعش التي أعادتها الحكومة العراقية "بحمايتها" الخاصة.

ثم أداروا السيارات، واتَّجهوا مرة أخرى إلى كردستان، ولاح لهم في الأفق الذي يذوب في السراب، كما لو أنَّه لوحة مائية لسهراب سبهري، العالم يختفي تدريجياً. ونجونا من الموت مرتين.

نام الناس في الشوارع، وهناك بدأت الطوابير، طوابير استلام الطعام والأسرّة وارتجاء اقنعة التشرد الجديدة. كلما رأيت رجلاً أهلكه التعب ونحل جسده عرفته من سنجار، من دون أن أسمع لهجته، من دون أن أعرف اسمه، كان الألم هوية نحملها معنا، على وجوهنا، وفي طريقة تحدثنا.

بنوا المخيمات؟ مدن كاملة يسكنها موتى أحياء شدوا حولهم الأسيجة وسجلوا معلوماتهم.

على الطرف الآخر نظم داعش النساء في طوابير لتسجيلهن كبضاعة "حلال"، صاحبات اللحم الطازج، العذراوات هن المفضلات. وكتبوا أسماءهن، كل واحدة منهن تنال عباءة كي تستر تحتها شرفها حتّى يشتريها داعشيٌ ينكحها حسب الشريعة فتُغفر كل ذنوبها، وتسامحها السماء، وربما دخلت الجنة إذا حملت بأشبال الخلافة. وإن كان عمرها لم يتجاوز الرابعة عشرة، وإن نزفت، وإن بكت، وإن ضاعت صرخاتها في المدن المحتلة، وإن ماتت، فلا يهم سوى تطهيرها بعضو ذكري حلال قبل موتها، كي تكسب الجنة.

وحبسوهن في مدارس تلعفر والموصل حيث عشن في قاعات واسعة، عشرات منهن يتبولن ويتغوطن في أماكنهن ويبكين، فتختلط الروائح، فيما يسرح العالم. كانت أجسادهن تبقى ملطخة حتّى يُعرضن في الأسواق، أو يشتهي إحداهن أمير أو قائد، أو يحب أن يهديها لواحدٍ من أصحابه كنوع من المحبة، فأرخص ما يمكن لأمير داعشي تقديمه إلى صديقه هو "أسيرة" شهية، تعيد إليه شبابه، فيذكره بالطيب إن لهث فوقها وولجها. وربما أحسَّ الأمير العجوز وهو يسمع صرخات الفتيات الصغيرات أنَّه فحل، إلا أنهن كنَّ يبكين السماء التي تجاهلتهن.

ربما كان ذلك درساً آخر، عن كيفية العيش في عالمٍ صنع منه رجالات السلطة مرحاضاً حيث هناك مناطقهم الخضراء التي يعيش فيها الوزراء والمدراء برفاهية مطلقة، وبعد انتزاع كل اللحم من جسد الدولة يرمون لنا بالعظام كي نُقتل في سبيل رفعها على أكتافنا فخراً. وما أن تعبر حواجز مناطقهم، فما تبقّى من البلد مرحاض لهم، لئلا يوسخوا مناطقهم. وهناك احتمال آخر، فربما ذلك إثبات واضح على فشلهم في إدارة الدولة، لم يعرفوا عن الديمقراطية حتّى جاءت قوات العم سام في 2003، واحتلت البلد وأحضرت معها أساتذة الديمقراطية لتعليم الشعب والحكومة.

يحق لعوائل داعش العودة إلى البلد لأنّهم كانوا "ضحايا". لكن الشعب، والإنسان الموصوف، العراقي، فهو فأر تجارب، وما نحن في هذه البقعة الجغرافية سوى سيرك لإضحاكهم.

في ليالي الصيف يتمردن على العالم ويتنزهن في شوارع المخيم لتحريك أرجلهن. لكن، ولما يقارب عشر سنوات في المخيمات، لم تستطع واحدة منهن تحريك قلبها، لأنها لو فعلت، سيطير هارباً من صدرها وأسوار المخيم، سيطير كعصفور اكتشف السماء لتوه، لم تستطع واحدة منهن أن تحيا، على الرغم من أن الموت كان بعيداً...

كان سوق النخاسة الذي نظموه في سوريا، بعد تحميل "البضاعة" إليه، يرتاده مختلف عناصر التنظيم، فيبتاعون النساء المربوطة أيديهن والمختبئات وراء النقاب. ربما جازت نظرة شرعية، مَن يدري؟ يهدي أحدهم كافرة إلى صديقه، أو يبيعها له بعملة الكفار. نساء من مختلف الأعمار، نساء يبكين، يصرخن، ينتحرن، يتم بيعهن، يتم إهداؤهُنّ، حرقهن على قيد الحياة، أو اغتصابهنّ، نساء في كل مكان، نساء تترك أجسادهن المحروقة على الأرض، كي تنهشها الشمس والريح. نساء يقررن الانتحار لأن الموت أقرب من قائد القوات المسلحة في ذلك الوقت. نساء يسرقن هاتفاً ويتصلن برجل ادَّعى أنه سيضحي بما يملك لتحريرهن، فيعتذر منهن. نساء، نساء، نساء.

وإن كانت الحياة امرأة جميلة، لها ابتسامة شمسٍ ونظرة سماوية، ومشية كأوراق الأشجار، فإن الموت امرأة أيضاً، امرأة من شنگال.

كان سوق النخاسة في سوريا، أشبه بكرنفال لبيع العذرية، قيمة المرأة كانت في عذريتها، وذلك دفعهم لاختيار الصغيرات، اللواتي لا تتجاوز أعمارهن الرابعة عشرة، لـ"تربيتهن" على الطريقة الصحيحة وغرس القيم فيهن، وتتحول كل واحدة منهن إلى خادمة لزوجات يكبرنها في العمر من مختلف الدول العربية، وإلى آلة جنسية للدواعش، وما زالت - فبعضهن لم يحررن أبداً- أمست الإنسانية التي تتغنى بها أوروبا ويقتبسها العالم العربي كعكة من الخراء تُقدم إلى رجالات السلطة.

تقول الأرقام إن التنظيم سبى 3548 امرأة، وبعضهن أنجبن الأطفال من عناصر داعش. مَن يصنف هؤلاء الأطفال؟ إن كانوا "دواعشاً" فهل قرروا في رحم أمهاتهم الانضمام إلى التنظيم؟ وقد جاؤوا تواً إلى الحياة، فلماذا لا ينتمي أحد منهم إلى أمه، ويزور شنگال؟ ربما لأن الطرق ممتلئة بعوائل داعش التي أعادتها الحكومة العراقية "بحمايتها" الخاصة.

يمكن لعوائل داعش العودة. لن يعودوا، ستعيدهم الحكومة بالتأكيد، لكن النساء المختطفات هناك، أمرهن صعب، ومحيّر. تحتاج كل واحدة منهن إلى عناية خاصة وبرنامجٍ لإعادة تأهيلها واهتمامٍ خاصٍّ، وآلاف الدولارات لتحريرها، كما هو مقرر. وكل ما لدى الحكومة لتقديمه هو خيمة.

هناك نساء تم تحريرهن، عن طريق الدفع مقابل حريتهن، إمّا عبر دفع فدية لنخّاسي داعش وإمّا عبر الدفع لآخرين من أجل اختطافهن وإعادتهن الى العراق بطريقة أخرى. نجرؤ على القول: يتم بيعهن، مرة أخيرة، والمشتري: أهل المرأة، مقابل آلاف الدولارات... إن كانت محظوظة، وما تزال على قيد الحياة في سجون التنظيم ومخيماته وبيوته الموزّعة على عدة دول.

ونساء لا يعرف أحد عنهن شيئاً، كأنهن تحولن إلى أقمارٍ أخفتها عتمة ليل شتائي، نساء من شنگال ابتلعهن العالم الذي يئن تحت حروبه، نساء لو تُركن هناك لزرعت كل واحدة منهن أشجاراً ووروداً وأنجبت أطفالاً ولوّنت حياة عائلتها. لكنهن إن كنّ هناك، فإنني أعرف أنهن تحولن، كل واحدة منهن بطريقتها، إلى غابة محترقة، وصدرها شجرة تين أثمرت جمراً يلسع قلبها.

ونساء دخلن مخيمات النزوح في كردستان، تماثيل الألم التي تغطيها خيام بيضاء، لها أبواب ونوافذ من النايلون، ومدرسة، ومركزٌ للشرطة، ومناطق لوقوفهن في الطوابير لاستلام السلال الغذائية كي لا ينهشهن الجوع، كي يبقين مشغولات فلا يفكرن في الانتحار هرباً من السجن. في ليالي الصيف يتمردن على العالم ويتنزهن في شوارع المخيم لتحريك أرجلهن، لكن، ولما يقارب عشر سنوات في المخيمات، لم تستطع واحدة منهن تحريك قلبها، لأنها لو فعلت، سيطير هارباً من صدرها وأسوار المخيم، سيطير كعصفور اكتشف السماء لتوه، لم تستطع واحدة منهن أن تحيا، على الرغم من أن الموت كان بعيداً، أبعد من البيوت التي هُجّرن منها، أبعد من الابتسامة التي وقعت منهن وتحللت على الأرض.

هناك نساء تمّ تحريرهن، عن طريق الدفع مقابل حريتهن، إمّا عبر دفع فدية لنخّاسي داعش وإمّا عبر الدفع لآخرين من أجل اختطافهن وإعادتهن الى العراق بطريقة أخرى. نجرؤ على القول: يتم بيعهن، مرة أخيرة، والمشتري: أهل المرأة، مقابل آلاف الدولارات... إن كانت محظوظة، وما تزال على قيد الحياة في سجون التنظيم ومخيماته وبيوته الموزّعة على عدة دول.

النساء في المخيم صرن تماثيل تحركهن الرغبة في حماية عائلاتهن، فإذا كان العالم يداً تعصر قلب الإنسان، فالنساء هن النبضات التي تهرب وتبقيه حياً. ونساء المخيم، لن يتوقفن عن العيش، فقط لأن العالم قرر قتلهن.

مقالات ذات صلة

ونساء عُدْنّ لشنگال، حيث هناك جثث تسير في المدينة، جثث تتسوق وتتنزه في الشوارع، جثث تزور أقاربها في المقابر، جثث تحضر الطعام وتتناول أقلّه، جثث تتزوج وتنجب جثثاً أخرى، جثث لا تعرف لمَن توهب موتها، للجيش أم للميليشيات التي تملأ المدينة، جثث تراقب صور الموتى المعلقة على كل عمودٍ في المدينة وقراها، كأنّها عصافير لا عش لها فاختارت شنگال، جثث في كل مكان، وجثث ترحب بالنساء.

"أهلا بكن في شنگال، تأخر قدومكن كثيراً، لكن الموت متأخراً أفضل من الحياة، أليس كذلك؟"

______________________

  1. أو شنكَال
  2. مدينة سنجار تسكنها أغلبية إيزيدية.
  3. عمل تنظيم داعش على غسل عقول الأطفال، وتلقينهم ما سمّوه "تعاليم الخلافة" ودفع بهم إلى عمليات انتحارية.
  4. نساء الحسبة: شرطة دينية أنشأها تنظيم داعش في فترة سيطرته على مناطق شاسعة من العراق وسوريا. وهي مسؤولة عن ارتكاب جرائم واغتيالات في مخيم الهول السوري، الذي تقطنه عوائل داعش ونازحين من مناطق الحرب.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...