"ششش" يا غزالي .. لستُ ذئباً

النساء أكثر عرضة لسلوك الملاحقة المهووسة بنسبة تفوق الثمانين في المئة، ولا توجد أيَّةُ إحصائيات عندنا، سوى ما يتعلق بالعنف والتحرش الجنسي عامة. وغالباً يحدث ذلك في فترة قصيرة، مثل ملاحقة امرأة في الشارع، والإصرار على أخذ رقمها. وهو سلوك رائج في المغرب، بل كان وسيلة زواج مقبولة اجتماعياً. وقد تحْدث الملاحقة في العمل، ولن يحمي الضحية أحدٌ، حتى هناك، لأن الزملاء سيعتبرونها مزحة غير مؤذية.
2024-05-16

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
أني كوركجيان - لبنان

"قدّمتُ لها كوب شاي فقط". يحكي "دوني" للشّرطة ولأصدقائه قصّته مع "مارثا". "كان مجرّد صديقٍ عادي على فيس بوك". أؤكّد أنا لمن أحكي لهم قصّتي، أنه وضع يتكرّر معنا مرات كثيرة، لذا لم نتخيل المسار الذي سيتخذه. وإذا حدثَ ومررتَ ــ أو مررتِ ــ بتجربة التعرض للترصّد والملاحقة، فهي لن تغادر ذاكرتك إلى الأبد. أنتَ الذي كنت تظن أنّها حال خاصة بالفنانين المشاهير، الذين يُبلون بمعجبين مهووسين، إلى أن تعترضكَ معجبة مجنونة أو مترصّد مختل. وكيف تكون الملاحقة ممكنة، إذا لم يكن صاحبها يعاني من خلل نفسي وعقلي؟ فمعظم الناس يكتفون بـ"لا" كجواب، وبعضهم يكفيه الصّمت أو عدم التجاوب، ليفهم ويغادر.

يا غزالي المدلل، يا لقُمتي المرّة!

الغزال بدل ليلى، والثعلب بدل الذئب. الثعلب يترصد ويستخدم الدّهاء لاقتناص دجاج الفلاحين، أما الذئب فصريحٌ ومباشِر أمام ضحيته، على الرغم من أنه الأكثر خطراً. هذه محاولة إسقاط للعنوان على القصة، لكن "غزالي المدلل" ليس سوى لقب أطلقته "مارثا"، في مسلسل "نيتفلكس"، الذي يحمل العنوان نفسه، على ضحيتها. وهو المسلسل الذي حقق، في وقت وجيز، نجاحاً وصدى غير مسبوق.

يروي مُخرج المسلسل وبطله قصةً حقيقية مع مهووسة، استمرت خمس سنوات من الترصد الذي بلغ الجنون التام. ولا أعرف أحداً من محيطي، حدث معه ما يشبهه، سوى معي، في ما يقارب ثلاث سنوات من الترصد المستمر، الذي لم يبلغ ما بلغتهُ قصة "دوني".

لأنه كان يعمل في بار، ومترصّدته كانت تأتي إليه كل يوم، ولم يكن بإمكانه منعها من ذلك، طالما لم تقم بفعل عدائي يبرّر لأصحاب المكان طردها. ولأنّه رجل، فإنه لم ينزعج في البداية من إعجاب "مارثا"، بل سايره، وظنّه مزاحاً بين صديقين. لكن مُلاحِقي لم يكن يطاردني من مكان ثابت بداية. ولأنّني وضعتُ حداً له حينما عبّر عن مشاعره، فانتقل بسرعة إلى مرحلة الملاحقة.

بعد سنوات من الصداقة البعيدة على "فيسبوك"، كنت أحترمه فيها، لأنني لم أرَ منه ما يشير إلى ما سيفعله لاحقاً، حين بدأ رحلة الترصّد. صمتُّ رداً على إشارات تجاهلتها. كان في صمتي رفضٌ مهذبٌ، لكنه فسّره على أنه موافقة. فانجرف في سلوكيات مراهِقة، مثل إرسال الأغاني والابتسامات بشكل مستمر ومتلاحِق، على الرغم من عدم تلقيه أيّ تجاوب. بعدها بدأ يكتب رسائل مباشِرة، كلها أوهام وتخيلات.

الرفض كدافع للهوس

يرى المهووسون أنفسهم الضحية، وخوفهم من الهجر يمنعهم من التعقل، لذا من شبه المستحيل لديهم التخلي عن أحد بسهولة. في حالتي، أيّ شخص سليم العقل كان سيذهب غير مأسوفٍ عليه. لكنه بدأ يراسلني في "البريد الإلكتروني"، بعدما قمتُ بحظره في "فيسبوك"، مستمراً في عيش وهمه في أن الشعور متبادَل. ثم بدأتْ الرسائل تتقاطر منه عبر تطبيق "واتسآب" والهاتف. ثم المكالمات الصّامتة أحياناً. ثم صار يطاردني في الأنشطة العامة، مستغلاً الوضع بإحراجي أمام الآخرين.
صرتُ أراه في الشارع الذي يوجد فيه مقر عملي، وفي المقهى الذي أحب. من دون أن يقترب مني بحيث أثير له فضيحة، وكنت حينها قد بلغتُ حداً هائلاً من الغضب، فوجوده الذي يرفقه بابتسامة بلهاء مستفِزة، سبّب لي ضغطاً نفسياً كبيراً.

لا أحد سيصدقك .. والبيّنة على من ادّعى

في وقت ما، توجّه "دوني" إلى الشرطة التي تجاهلته مستخفة بالموضوع. وفي وقت ما أيضاً، استشرتُ محامياً أكد لي صعوبة تحقيق انتصار قضائي بعد تقديم شكوى إلى الشرطة، التي لن تأخذها بعين الاعتبار إلا إذا أُرفقت بأدلة.

حينها لم يكن القانون الذي يشمل "التحرش الإلكتروني" قد صدر بعد، وحتى لو كان ما كان ليفيد. فرسائله كانت غزلاً متواصلاً، لا عنف ولا تهديد فيها، فكيف يراها القاضي تحرشاً جنسياً وملاحقة؟ وإثبات ملاحقته لي في الواقع، يحتاج إلى شاهدين. إذ عليّ أن أجرّ شخصين جمعني بهما لقاء عام، اقترب فيه المترصد مني، وأطلب منهما الشهادة في المحكمة بأنه تصرَّف بشكل مسيء. وإلّا فلن يعتبر القانون اقترابه مني اعتداء على شخصي أو حريتي.

لأن "دوني" في مسلسل "نتفليكس" كان يعمل في بار، ومترصّدته كانت تأتي إليه كل يوم، ولم يكن بإمكانه منعها من ذلك. ولأنّه رجلٌ فإنه لم ينزعج في البداية من إعجاب "مارثا"، بل سايره، وظنّه مزاحاً بين صديقين. لكن مُلاحقي لم يكن يطاردني من مكان ثابت بداية. ولأنّني وضعتُ حداً له حينما عبّر عن مشاعره، انتقل بسرعة إلى مرحلة الملاحقة.

يصل المهووسون إلى درجة أن يتخيلوا وجود علاقة غرامية مع الضحية، لا توجد إلا في أذهانهم. فتختفي الحدود بين الحقيقة والوهم، فيعتقدون أنهم يملكون ضحاياهم وأنهم مقدّر لهم أن يكونوا معهم. يخترعون تفاصيل لم تحدث عن قصة حب غير حقيقية، حتى أنّهم قادرون على إقناع الآخرين بها.

مثل هذه الشروط هي التي جعلت القانون ضد التحرش الجنسي عديم الأثر. فالقانون لا يعاقِب من يطارِد بلا فعل مسيء، حتى لو ضايق ضحيته، بل يكتفي بمحاسبة من "أمعن في مضايقة الغير بأقوال أو إشارات أو أفعال لها دلالات جنسية أو لأغراض جنسية، أو عن طريق وسائل مكتوبة، أو إلكترونية، أو هاتفية... ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية". فلا عقوبة على ملاحقة شخص أو عرقلة طريقه، أو ملاحقة امرأة بسيارة والإلحاح في دعوتها إلى الركوب، وهو ما نراه كثيراً.

فكّرتُ في مواجهته في مقر عمله، لأثير له فضيحة ينشغل بها ويخاف، ولم أفعل. فأي فضيحة له تعني أن بعض "طرطشتها" ستصلني، ولعل هذا أسوأ ما في حالات النساء، إذ أنهن عرضة للوم الآخرين وأولهم العائلة. "لا دخان بلا نار"، وما كان عليهن التورط مع مختلين عقلياً، فلا أحد يطارد امرأة، ما لم تكن قد شجعته في البداية.

بدأ يراسلني في "البريد الإلكتروني"، بعدما حجبْته من "فيس بوك"، مستمراً في عيش وهمه في أن الشعور متبادل. ثم بدأت الرسائل تتقاطر منه عبر تطبيق "واتسآب" والهاتف. ثم المكالمات الصّامتة أحياناً. ثم صار يطاردني في الأنشطة العامة، مستغلاً الوضع بإحراجي أمام الآخرين.

الشرطة اعتبرت "دوني" ومُطارِدَته طرفين في علاقة خصام عاطفي. شيء يشبه هذا حدث معي، لما سألتُ شرطياً صديقاً عن طريقة للتصرف في الموضوع، لكنه لم يصدق أنه ما من شيء حدَث بيننا ومع ذلك يطاردني.

هل هو مرض عقلي أو حالة نفسية أو عمل إجرامي؟

التحرش منتشر وواضحة دوافعه، وغالباً له وقت محدد. والغزل من الغرباء، عابر. لكن الترصد هو الإصرار عليهما معاً، والدخول في سلوك أخطر، هو مطاردة لا تنتهي، على الرغم من الغياب التام لأيّ تجاوب، أو مع بعض الصمت أو التغاضي في البداية.

يصل المهووسون إلى درجة أن يتخيلوا وجود علاقة غرامية مع الضحية، لا توجد إلا في أذهانهم. فتختفي الحدود بين الحقيقة والوهم، فيعتقدون أنهم يملكون ضحاياهم، وأنهم مقدّر لهم أن يكونوا معهم. يخترعون تفاصيل لم تحدث، عن قصة حب غير حقيقية، حتى أنّهم قادرون على إقناع الآخرين بها. هذا ما حدث معي بالضبط. فمرة التقيتُ بصديقة مشتركة، وسألتني عنه. فوجئتُ بسؤالها، وعلمتُ أنه كان يُخْبر أصدقاءه أننا على علاقة، طيلة السنوات الثلاث التي كان يترصدني فيها.

أستاذ جامعي صديق أوصاني بالتجاهل، لأنه "الحل الوحيد"، أمام من هو في وضع مهني حساس مثله، أو اجتماعي مثل كافة النساء. فهو أيضاً يتعرض بشكل مستمر لتحرش بعض طالباته... إلى درجة أن إحداهن هدّدته بأنها ستزعم أنه تحرش بها إن لم يستجب لها، أو ستسبب له فضيحة.

لم يكن القانون الذي يشمل "التحرش الإلكتروني" قد صدر بعد، وحتى لو كان ما كان ليفيد. فرسائله كانت غزلاً متواصلاً، لا عنف ولا تهديد فيها، فكيف يراها القاضي تحرشاً جنسياً وملاحقة؟ وإثبات ملاحقته لي في الواقع، يحتاج إلى شاهدين. إذ عليّ أن أجرّ شخصين، وأطلب منهما الشهادة في المحكمة بأنه تَصرَّف معي بشكل مسيء. وإلّا فلن يعتبر القانون اقترابه مني اعتداء على شخصي.

فكّرتُ في مواجهته في مقر عمله، لأثير له فضيحة ينشغل بها ويخاف، ولم أفعل. فأي فضيحة له تعني أن بعض "طرطشتها" ستصلني، ولعل هذا أسوأ ما في حالات النساء، إذ أنهن عرضة للوم الآخرين وأولهم العائلة. "لا دخان بلا نار"، وما كان عليهن التورط مع مختلين عقلياً، فلا أحد يطارد امرأة ما لم تكن قد شجعته في البداية.

لكن النساء أكثر عرضة لهذا السلوك بنسبة تفوق الثمانين في المئة، ولا توجد أيّةُ إحصائيات عندنا، سوى ما يتعلق بالعنف والتحرش الجنسي عامة. وغالباً يحدث ذلك في فترة قصيرة مثل ملاحقة امرأة في الشارع، والإصرار على أخذ رقمها. وهو سلوك رائج في المغرب، بل كان وسيلة زواج مقبولة اجتماعياً. وقد تحدث الملاحقة في العمل، ولن يحمي الضحية أحدٌ، حتى هناك. لأن الزملاء سيعتبرونها مزحة غير مؤذية. بينما تسبّب أذى نفسي كبير للضحية التي ستشعر بالاختناق، وغالباً ما تكون الاستقالة هي الحل الوحيد.

مقالات ذات صلة

كيف انتهت قصة "دوني"؟ لا يمكنني حرق المسلسل لمن لم يشاهده، لكنها نهاية غير متوقعة، يتحول فيها الضحية إلى مهووس، بعد توقف مطاردته. وقصتي أظن أنها انتهت بأن توقف ملاحِقي عن فعله، إما ليأسه بعد أن أتعبه الرفض، أو لأنه انتقل إلى ضحية أخرى. أو لعله ظل يترصد في الخفاء. فلا أحد يعرف ما يجري في ذهن المهووس.

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...