في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تمَّ الإعلان عن استحداث أبجدية للّغة المَهرية. إلى الآن لم يؤكِّد أحد من الباحثين إذا ما كانت لهذه اللغة أبجدية مندثرة، لكن سكان محافظة المهرة صاروا يحتفلون سنوياً في هذا التاريخ بيوم لغتهم المهددة بالاندثار، وفقاً لتحذير منظمة اليونسكو.
تقع محافظة المهرة أقصى شرق الجمهورية اليمنية على الحدود مع سلطنة عمان، وهي ثاني أكبر المحافظات مساحةً (67.297 كم2) بعد محافظة حضرموت (193.032 كم2)، لكنها الأقل من حيث عدد السكان. بحسب آخر تعداد أُجري سنة 2004، كان عدد سكان المهرة حينها (88.594 نسمة)، لكن هذا الرقم ازداد بالتأكيد خلال السنوات الـ19 الماضية بمعدل نمو 4.5 في المئة. وإلى ذلك، هناك الزيادة السكانية التي فرضتها الحرب عبر نزوح الآلاف من اليمنيين بحثاً عن حياة آمنة في هذه المحافظة التي ظلت بعيدة عن مسرح القتال منذ بداية الحرب الشاملة في 2015. في سنة 2019 بلغت تقديرات عدد سكان المهرة (650.000 نسمة)[1] ، على الرغم من أن الموقع الرسمي للمحافظة يذكر أن تعداد سكان مديرية الغيضة فقط، حيث مقر السلطة المحلية، لا يقل عن مليون نسمة يشكلون 70 في المئة من سكان المحافظة ذات المديريات التسع[2].
جذور قاومت غوائل الدهر
كثيراً ما كان اليمنيون في بقية المحافظات يتحدثون باستغراب عن لغة سكان المهرة التي لا يفهمها سواهم، على الرغم من أنهم يفهمون أي شخص يتحدث العربية بأية لهجة من لهجات مناطق اليمن والخليج العربي. ولأن تاريخ اليمن وآثاره القديمة لا تزال بحاجة إلى الدراسة لعقود قادمة، لم يتجاوز عدد المهتمّين بدراسة جذور اللغة المهرية عدد أصابع اليدين، سواء من المستشرقين أو الباحثين العرب واليمنيين. قاومت اللغة المهرية غوائل الدهر وعوامل التعرية التاريخية عبر ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة، وصولاً إلى ألسن المتحدثين بها في القرن الحادي والعشرين. الاعتداد بالذات الذي عُرف به المهريون تاريخياً والعزلة الشديدة التي أحاطوا أنفسهم بها، كانا أهم أسباب احتفاظهم بنقاء لغتهم التي صارت اليوم أشبه بلغز يتطلب التفكيك أولاً من أجل إعادة تركيبه. هذا ما يفعله اليوم نخبة من الباحثين من أهالي المهرة، لا سيما منذ ما بعد اندلاع الحرب الشاملة، إضافة إلى باحثين آخرين من عدة مناطق في اليمن وبلدان الخليج العربي. يتزامن هذا الاهتمام مع التنافس الإقليمي والدولي على حيازة النفوذ في المحافظة المتصلة بالثروات النفطية في صحراء الربع الخالي، والمطلة، من ناحية أخرى، على شريط ساحلي بامتداد خمسمئة كيلو متراً على بحر العرب. وبعد دخول المهرة حيز هذا التنافس، بما يقتضيه من تحولات متسارعة في أنماط الحياة العصرية، ازداد حرص سكانها - ومعظمهم من قبيلة المهرة - على توثيق خصائص لغتهم ومفرداتها ووضع أبجدية جديدة لها.
بحسب كتابات الإخباريين، يرجع نسب قبيلة المهرة إلى مَهْرة بن حيدان بن عمرو بن لحاف بن قُضاعة... وصولاً إلى مالك بن حِمْيَر، وحِمْيَر هذا لا علاقة له بآخر ممالك اليمن القديم التي تحمل الاسم نفسه (115 ق.م-525 ب.م)، بل هو سابق عليها بآلاف السنين، إذ تعيد بعض المصادر الإخبارية نسبه إلى عاد الأكبر حفيد النبي نوح من ابنه سام[3]. لذلك تُصنّف اللغة المهرية ضمن اللغات السامية التي نشأت جنوب الجزيرة العربية، وأبرزها اللغة اليمنية القديمة المعروفة بلغة "المُسند" أو كما يسميها المستشرقون "العربية الجنوبية القديمة". وإلى جانب المهرية توجد خمس لغات محكية قديمة تصنف ضمن اللغات السامية القديمة في جنوب الجزيرة العربية، وهي: السقطرية (جزيرة سقطرى، اليمن)، الجبالية أو الظفارية (ظفار، عُمان)، البَطْحرية (جنوب عمان)، الهيبوت (على الخط الحدودي الفاصل بين اليمن وعمان)، الحرسوسية (وسط عمان)[4]. هذه الأخيرة هي الوحيدة التي لا تتداخل جغرافيتها مع مناطق انتشار اللغة المهرية التي تشمل أيضاً مناطق من جنوب عُمان، وجنوب وشرق المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، وذلك بحكم الهجرة التاريخية لقبيلة المهرة. ويقدِّر الباحثون المختصون بالمهرية عدد المتحدثين بها بأكثر من 300 ألف نسمة.
قاومت اللغة المهرية غوائل الدهر وعوامل التعرية التاريخية عبر ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة، وصولاً إلى ألسن المتحدثين بها في القرن الحادي والعشرين.
تقع محافظة المهرة أقصى شرق الجمهورية اليمنية على الحدود مع سلطنة عُمان، وهي ثاني أكبر المحافظات مساحةً (67.297 كم2) بعد محافظة حضرموت (193.032 كم2)، لكنها الأقل من حيث عدد السكان. بحسب آخر تعداد أُجري سنة 2004، كان عدد سكان المهرة حينها (88.594 نسمة)، لكن هذا الرقم ازداد بالتأكيد خلال السنوات الـ19 الماضية بمعدل نمو 4.5 في المئة.
لا يوجد إلى الآن تأصيل أبجدي لجذور هذه اللغات، ويغلب الاعتقاد لدى المتحدثين بها أنها نشأت محكية منذ البداية، بينما تشير بعض الدراسات إلى احتمال استخدام هذه اللغات لأبجدية المسند اليمني في الكتابة خلال العصور القديمة، خاصة المهرية. لحسن الحظ أن هناك آلاف النقوش المكتَشفة لأبجدية المسند خلال العقود الأربعة الماضية، لكن لسوء الحظ أيضاً، لا يزال التاريخ الحضاري للمهرة وسقطرى غير مدروس. كما أن جهود التنقيب التي تمت في المهرة إلى الآن، ركزت على استكشاف تاريخ الاستيطان البشري فقط، حيث نفذت بعثة أثرية مكونة من مجموعة صغيرة من خبراء الآثار الأمريكيين واليمنيين خلال صيف سنة 2000، مسحاً ميدانياً في أربعة عشر موقعاً في السهل الرملي المحيط بمدينة الغيضة الساحلية. شمل المسح أيضاً لساناً بحرياً ممتداً إلى مديرية "حَوْف" الحدودية مع سلطنة عمان، وكان الهدف منه إيجاد أدلة على وجود استيطان بشري في حقبة ما قبل التاريخ، في ضوء نتائج مسح سابق، أجراه فريق روسي سنة 1980، برئاسة الدكتور جوريس زانيس.
يفيد تقرير البعثة الأمريكية بأن الفريق الروسي كان يستكشف طرق تجارة اللُبان والبخور في العصر الحديدي، واكتشف بالصدفة فؤوساً حجرية من صنع الإنسان رجّح أنها تعود إلى ما يقارب عشرة آلاف إلى خمسة آلاف سنة[5]. عدا هذين المسحين لم تشهد محافظة المهرة أية جهود للتنقيب عن آثارها القديمة، التي لا يظهر منها حتى الآن سوى القليل من النقوش والرسوم على جدران الكهوف وصخور الجبال. وعلى ذلك، ربما تجدر الإشارة إلى زيارة قام بها فريق عُماني في أيلول/ سبتمبر 2021، لاستكشاف كهوف جبال المهرة، لكن أعضاء الفريق كانوا مختصين بالجيولوجيا، ما جعل مهمتهم أقرب إلى استكشاف إمكانيات المحافظة في سياحة المغامرات.
خلال السنوات الماضية، تَعرضتْ بعض الكهوف المحتوية على نقوش أثرية في المهرة للتخريب، كما حدث لغار "تَيَه" في مديرية "حات" بالتزامن مع زيارة الفريق العُماني. في بيان إدانته للعمل التخريبي، أفاد مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث بأن النقوش المخرّبة كانت مكتوبة بخط "المسند البدائي" "أو ربما بعضها بالخط الثمودي"[6]. يتيح هذا التصنيف لحروف النقوش الصخرية افتراض أن اللغة المهرية كانت لديها أبجدية، لكنها فقدتها لأسباب تتعلق بالتحولات التاريخية التي مرّ بها اليمن خلال النصف الثاني من الألفية الأولى وما بعدها. رسْمُ الحروف في تلك النقوش وترجيح مركز اللغة المهرية لاحتمال أن تكون " مُسنداً بدائيّاً"، يعززان فرضية أن تكون أبجدية "المسند" هي أقرب جذر كتابي لهذه اللغة، وهو ما لا يستبعده رئيس مركز اللغة المهرية وأستاذ اللغة العربية والنحو بجامعة نجران، عامر فائل بلحاف[7].
في الوقت نفسه، يعتقد الدكتور بَلْحاف أن اللغة المهرية "نشأت شفوية محكية تتناقلها الأجيال أباً عن جد"، مستدلاً على ذلك بأن أية لغة في العالم تبدأ محكية عند نشأتها، "فإذا توفر لأصحابها أسباب التطور والحضارة ابتكروا الرموز" لكتابتها. وهو يرى أن المهريين حافظوا على تناقل لغتهم عبر الأجيال "نقية صافية" حتى ثمانينيات القرن العشرين وفقاً لتقديره، حيث "دخلت على بلاد المهرة أسباب الحضارة"، التي يعتبر أن التلفزيون والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي من مظاهرها، إضافة إلى تزايد "انفتاح سكان المهرة على الآخرين". إلّا أن بلحاف من ناحية أخرى، يعتبر فرضية وجود أبجدية مفقودة للغة المهرية، "صحيحة إلى حدّ بعيد"، بدليل وجود "الكثير من النقوش المتوزعة في أماكن بعيدة" داخل المهرة ذات التضاريس المتنوعة بين الصحراء والجبال والسهول. "كنا نحتار في تفسير هذه النقوش لأنها ليست نقوش مسند بل شبيهة به"، قال بلحاف، مشيراً إلى أن "بعض البعثات" زارت المهرة "قبل سنتين أو ثلاث، وكشفت أن هذه النقوش تعود إلى المسند البدائي، وهي مرحلة تسبق استقرار أبجدية المسند".
مما لا شك فيه أن أبجدية المسند مرت بمراحل تطور قبل أن تصل إلى مرحلة الاستقرار الحضاري الذي كانت عليه الممالك اليمنية القديمة خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، وهي الفترة التي ركزت عليها معظم الاستكشافات الآثارية لحضارة اليمن القديم. وفقاً لكثيرٍ من الاستكشافات الآثارية، سواءٌ المنظمة أو العشوائية، لا تزال هناك نقوش صخرية في بعض الجبال وسط وشمال وغرب اليمن بحروف متماثلة مع المسند البدائي المفترض، لكن التشظي والانقسام اللذين تعيشهما البلاد اليوم لا يتيحان تنفيذ دراسات مقارنة لنقوش المسند عبر مراحل تطوره في جميع المحافظات. وعلاوة على ذلك، لا تزال معرفة رموز المسند مقصورة على الباحثين والمهتمين، بالرغم من قيام مجموعة واسعة من النشطاء المجتمعيين والمدنيين بترويج أبجدية المسند خلال سنوات الحرب الماضية، ومقارنتها بأبجدية العربية الفصحى. أما بالنسبة إلى اللغة المهرية، فقد قرر الباحثون المختصون بها إنشاء مركز خاص لدراستها ومنحها أبجدية.
مركز متخصص وأبجدية جديدة
أعلن عن "مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث" في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، بهيئة إدارية من أساتذة جامعيين ومختصين لغويين. وخلال السنوات الماضية، أصدر المركز عدداً من الدراسات عن لغة المهرة وتراثها الشعبي من الشعر والحكايات. كما يعمل المركز على عدة مشاريع أبرزها "حصر وتوثيق مفردات اللغة المهرية"، و"التوثيق المجتمعي للاختلاف اللغوي والبيئي" على مستوى المحافظة، وبالتزامن مع ذلك، إنشاء معجم خاص باللغة المهرية. ولنقلها من لغة محكية إلى النظام الكتابي، نفّذ المركز ندوة في حزيران/ يونيو 2019، بهدف اعتماد أبجدية رسمية لها. على مدى يومين ناقش المجتمعون أوراق عمل ودراسات في تاريخ اللغة المهرية، وأسفرت النقاشات عن وضع خيارين للأبجدية: الأول الحرف العربي في الفصحى، والثاني حرف المُسند القديم. ولأن الأمر لم يُحسم أثناء الندوة، تمّ تشكيل لجنة خاصة مهمتها "إقرار النظام الكتابي للغة المهرية".
وفقاً لكثيرٍ من الاستكشافات الآثارية، سواءٌ المنظمة أو العشوائية، لا تزال هناك نقوش صخرية في بعض الجبال وسط وشمال وغرب اليمن بحروف متماثلة مع المسند البدائي المفترض، لكن التشظي والانقسام اللذين تعيشهما البلاد اليوم لا يتيحان تنفيذ دراسات مقارنة لنقوش المسند عبر مراحل تطوره في جميع المحافظات.
خلال السنوات الماضية، تَعرضتْ بعض الكهوف المحتوية على نقوش أثرية في المهرة للتخريب، كما حدث لغار "تَيَه" في مديرية "حات" بالتزامن مع زيارة الفريق العُماني. في بيان إدانته للعمل التخريبي، أفاد مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث بأن النقوش المخرّبة كانت مكتوبة بخط "المسند البدائي" "أو ربما بعضها بالخط الثمودي"
إشكالية اعتماد نظام كتابي للغة المهرية لم تقتصر فقط على شكل الحرف، فهناك خمسة أصوات يقول الباحثون إنها غير موجودة في العربية الفصحى، كما أن أبجدية المسند تزيد عن أبجدية العربية الفصحى بحرف واحد فقط يسمى "سامِخ" ونطقه بين السين والشين. هذا الصوت موجود في المهرية ويرجح الدكتور عامر بلحاف أنه "شين جانبية"، أما الأصوات الأربعة الأخرى، بحسب بلحاف، فهي "الضاد الجانبية"، "القاف المحولقة" (مخرجها من أعلى الحلق)، "الصاد الاحتكاكية"، و"الجيم" (الخارجة من الحنك).
بعد شهر من المداولات، أقرت اللجنة "اعتماد الأبجدية العربية كأبجدية للغة المهرية في المرحلة الحالية نظراً لسهولتها، واتساع استخدامها، وإمكانية استعمالها في وسائل التواصل الاجتماعي بيسر، وربط هذه الأبجدية... بمحيطها العربي والإسلامي". ولحل إشكالية الأصوات الخمسة، أقرت اللجنة إضافة بعض الرموز إلى الحروف العربية الأقرب إلى هذه الأصوات لتمييزها عن الحروف الأصلية، وبذلك تم اعتماد ما يسمى الآن "الكيبورد المهري"، وأتيح للتنزيل في متجر "غوغل بلاي". اختيار حروف العربية الفصحى كأبجدية للمهرية "خيار مفهوم" بالنسبة إلى الباحث في النقوش اليمنية القديمة، محمد عطبوش، وذلك نظراً "لغياب التشكيل في حروف المسند"، ولكي يسهل على المتحدثين بالمهرية الكتابة بالأبجدية العربية التي يعرفونها مع زيادة بضعة حروف برموز إضافية عليها. يقارن عطبوش هذا الإجراء بما حدث في "اللغات الأوروبية التي تستعمل الحرف اللاتيني وتعدّل على حروفه قليلاً لتمثيل أصوات جديدة". ويتفق في ذلك الاستاذ السابق في الأدب العربي الحديث بكلية التربية في سقطرى، الدكتور محمد المحفلي، الذي يضيف أن "هناك أصواتاً (في المهرية) مختلفة عن تلك الموجودة في اللغات القديمة"، كما يعتقد أن "ظهور بعض الأصوات أو اختفاءها أمر طبيعي نتيجة التناقل الشفهي عبر الأجيال، والتفاعل مع اللغات الأخرى، ومنها اللغة العربية الفصحى، واللهجات الموجودة" في محيط اللغة المهرية[8].
وفي جميع الأحوال، تبقى الأبجدية التي تمّ اعتمادها للغة المهرية "تجريبية"، وفقاً لقرار لجنة إقرار النظام الكتابي، ووفقاً لتأكيد رئيس مركز اللغة المهرية عامر فائل بلحاف.
"متحف لغوي"
أسفرت خلاصة بحث الدكتور عامر بلحاف وزملائه عن اكتشاف عناصر متنوعة في اللغة المهرية المعاصرة: "وجدنا فيها عناصر واستخدامات حِمْيَرية، واستخدامات عربية مهجورة في الاستعمال العربي الفصيح، واستخدامات تعود إلى اللغة السامية الأولى" قال، معتبراً أن توفر مثل هذا التنوع يجعل من المهرية "متحفاً لغوياً". يعزز الدكتور محمد المحفلي هذا الوصف باعتقاده أن المهرية "من بقايا اللغات اليمنية القديمة إلى جانب السقطرية، والظفارية أو الجبالية في سلطنة عمان". وهو يدعم رأيه بوجود "تشابهات كبيرة في الأصوات وفي بقايا المفردات" التي قال إنها ما زالت مستعمَلة في هذه اللغات، وكانت موجودة ضمن اللغات اليمنية القديمة في حضرموت، وحِمْيَر، وسَبأ.
بعد شهر من المداولات، أقرت اللجنة "اعتماد الأبجدية العربية كأبجدية للغة المهرية في المرحلة الحالية نظراً لسهولتها، واتساع استخدامها، وإمكانية استعمالها في وسائل التواصل الاجتماعي بيسر، وربط هذه الأبجدية... بمحيطها العربي والإسلامي".
لا يمكن الجزم بأن اللغة اليمنية القديمة (المسند) هي الأصل الوحيد للغة المهرية، خاصة مع هذا الكم القليل من الدراسات، لكن ممّا لا شك فيه أن المهرية تظل مفتاحاً رئيسياً لاستكشاف لغة "المسند"، التي شكلت أبجديتها نظام الكتابة المشترك بين الممالك اليمنية القديمة، بما في ذلك مناطق امتداد نفوذها الغابر في الدول المجاورة.
إلى جانب تشابه اللغة المهرية مع العربية الفصحى في بعض الخصائص النحوية، فإنها أكثر تشابهاً مع اللهجات، سواءً لهجات المناطق الأخرى في اليمن أو بعض اللهجات العربية. على سبيل المثال، استخدام حرف الميم في نهاية الفعل للدلالة على الجمع في المهرية: "سْيورِم" بمعنى "ساروا"، يشبه ذلك الموجود في لهجة صعيد مصر: "جُمْ" بمعنى "جاؤوا"، على أن استخدام الميم للجمع موجود أيضاً في اللغات "الأوغاريتية والعبرية والإثيوبية (الأمْهرية)، وهي في الأخيرة بزيادة الضمّة لا بالسكون"[9]. ومن المشتركات بين المهرية والأمهرية (لغة أثيوبيا) استخدام حرف الكاف محلّ تاء المتكلم والمخاطب، مثل: "قُلتُ- "قُلْكُ"، وهذه السمة مثبتة في بعض نقوش المسند اليمني كنقش "ترنيمة الشمس"، كما لا تزال مستخدمة حتى اليوم في اللهجات الأصلية لسكان المناطق الوسطى، وتحديداً تعز، إب والضالع. وفي الريف الشرقي والجنوبي لمحافظة إب، لا يزال الناس إلى اليوم يستخدمون حرف الميم في آخر الفعل للدلالة على الجمع، مثل: "سَرَحُمْ" بمعنى "ذهبوا".
قصور منهجي
غالبية الباحثين في اللغة المهرية مختصون أكاديمياً إما باللغة العربية الفصحى وإمّا باللغة الإنجليزية. يبدو طبيعياً أن يترافق القصور المنهجي مع حداثة عهد الاهتمام بدراسة هذه اللغة، فلا تزال الدراسات والأبحاث تعتمد على المسح الميداني لجمع المادة العلمية من أوساط المجتمع ومن ثم استخدام المنهج الوصفي التحليلي. هذا بالنسبة إلى المختصين باللغة العربية الفصحى، أما المختصون باللغة الإنجليزية فيستخدمون المنهج المقارن، ليس بين اللغة المهرية والعربية، بل بين خصائص المهرية وخصائص اللغة الإنجليزية. يمكن أن تكون كلتا الطريقتين ملهمتين لاسكتشاف خصائص غير متوقعة في اللغة المهرية، لكن وجه القصور المنهجي الأبرز يتمثل في قراءة النقوش الأثرية بعيداً عن مفردات اللهجات العامية. وهذا القصور لا ينطبق فقط على جهود دراسة النقوش الأثرية في المهرة، فغالباً ما اعتمد الآثاريون في قراءة النقوش المكتشفة في المحافظات اليمنية الأخرى، على اللغة العربية الفصحى القديمة، بما في ذلك الشعر الجاهلي. فداحة هذا القصور تتمثّل في إغفال ما تحتويه اللهجات العامية من ثروة لغوية هائلة، تمّ تناقلها وتطويرها شفاهياً عبر ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة، ومن المرجح أنها ما زالت تحتوي على مفردات يمكن أن تساعد على فهم أفضل للنقوش المهرية [10]، ومن ذلك إضافة مختصين بالنقوش الأثرية إلى فريق الباحثين. يبدو الدكتور بلحاف على دراية بأهمية اللهجات في الاحتفاظ بمفردات اللغات القديمة، ويورد على سبيل المثال احتفاظ المحكية المهرية بمفردة "شَخُوف" بمعنى "حليب"، والتي كانت في اليمنية القديمة: "شِخافو"، وكذلك التاء المفتوحة التي صارت بالعربية الفصحى تاء مربوطة، مثل: "مدرسيت"/ "مدرسة" و"فطميت"/ "فاطمة"، وعلى هذا الوزن هناك أسماء أماكن في المهرة، مثل منطقة "صَرْفِيت"، وهذه السمة كانت من السمات الأساسية في اللغة اليمنية القديمة.
التعليم في اليمن خزان بارود للمستقبل
09-12-2023
لا يمكن الجزم بأن اللغة اليمنية القديمة (المسند) هي الأصل الوحيد للغة المهرية، خاصة مع هذا الكم القليل من الدراسات، لكن ممّا لا شك فيه أن المهرية تظل مفتاحاً رئيسياً لاستكشاف لغة "المسند"، التي شكلت أبجديتها نظام الكتابة المشترك بين الممالك اليمنية القديمة، بما في ذلك مناطق امتداد نفوذها الغابر في الدول المجاورة.
[ 1] https://carnegie-mec.org/2020/03/09/ar-pub-81219
[ 2] للمزيد عن محافظة المهرة، على الرابطين التاليين: https://almahrahgov.com/detail_city/18/ وhttps://yemen-nic.info/gover/almahraa/brife/
[ 3] "التيجان في ملوك حِمْيَر"، مركز الدراسات والبحوث اليمنية.
[4 ] "لغات جنوب الجزيرة العربية"، عبدالرزاق القوسي، كتاب المجلة العربية 236.
[ 5] "Survey of Prehistoric sites in Mahra, Eastern Yemen", Jeffrey I. Rose, Adamato Magazine, Issue 6, 2002.
[ 6] https://almahrahonline.net/news7618.html
[ 7] في مقابلة مع الكاتب.
[ 8] في مقابلتين منفصلتين مع الكاتب.
[9 ] "اللغة المهرية المعاصرة بين عربيتين"، عامر فائل بلحاف، إصدارات مركز حمد الجاسر الثقافي، 2016.
[10] كان أول من انتقد إغفال اللهجات العامية عند قراءة النقوش الأثرية، حمزة علي لقمان، "أساطير من تاريخ اليمن"، دار المسيرة، بيروت، ومركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء.