آفي شلايم، الذاكرة الحية ليهودي عربي مُنبتّ عن بغداد

ينحدر آفي شلايم من أسرة يهودية عراقية ميسورة الحال، وقد غادر بغداد عام 1950 ولم يتجاوز عمره الخامسة للاستقرار في تل أبيب. يعود هذا الأستاذ الجامعي الذي أصبح أحد أفضل مؤرّخي الصراع العربي الإسرائيلي على ذلك التاريخ الشخصي، وعلى فقدان الهوية، والهبوط في المكانة الاجتماعية، والعنف الي يمارسه بلده الثاني ضد الفلسطينيين، ويقصّ علينا سيرة حياته. يصف فيها ذكرياته عن شرقٍ أدنى مندثِر، كان في يومٍ من الأيام يتّسم بتسامحٍ ديني كبير، واحترامٍ متبادل للأقلّيات، خلافًا لما تروِّج له السردية الصهيونية. ينفرد موقع “أوريان 21” بنشر مقتطفاتٍ مترجَمة إلى العربية من الجزء الأول من كتابه “ثلاثة عوالم، مذكّرات يهودي عربي” الذي صدر في شهر يونيو/حزيران.
2024-03-15

شارك
آفي شلايم وعمره سنتان، رفقة والديه وأخته في بغداد، سنة 1947

اقترب أبي. كنت ألعب مع أصدقائي أسفل مجمّعنا السكني الكبير في مدينة رمات غان الإسرائيلية في شرق تل أبيب. كان يومًا صيفيًّا حارًا، وكنّا نرتدي أنا وأصدقائي سراويل قصيرة وصنادل. أما أبي فكان يرتدي بدلة من ثلاث قطعٍ وربطة عنق. كان ذلك في منتصف الخمسينيات، عندما كنت في العاشرة من عمري. ولدتُ في بغداد عام 1945 في أسرةٍ يهودية، قبل نشأة دولة إسرائيل بثلاثة أعوام. تركَت أسرتي بغداد للاستقرار في إسرائيل عام 1950، حين كنت في الخامسة. كنّا نتحدّث العربية في المنزل، وكانت العبرية المعاصرة - التي تعدّ امتدادًا للعبرية التوراتية - لغة الدولة اليهودية الناشئة. سرعان ما تعلّمت أنا وأخواتي العبرية في المدرسة، وكنا نتحدّث بها مع رفاقنا وفيما بيننا. كان أبي الذي يبلغ من العمر آنذاك خمسين عامًا يجد صعوبةً في تعلُّم تلك اللغة المعقَّدة. كان من الطبيعي إذًا أن يخاطبني أبي بالعربية، لكن ذلك كان يشعرني بضيقٍ شديد؛ كان الأمر يشبه المعاناة. تأسّست إسرائيل على أيدي يهودٍ من أوروبا الوسطى والشرقية، وكانت تفتخر بأنها تنتمي إلى الغرب، ما كنّا نسمّيه آنذاك العالم الحرّ. كنّا يهودًا من بلدٍ عربي كان رسميًّا في حربٍ دائمة مع إسرائيل، وكان اليهود الأوروبيون ينزعون إلى اعتبارنا أدنى منهم مرتبةً اجتماعيًّا وثقافيًّا، ويلصقون باللغة العربية دلالاتٍ سلبية. فلم تكن العربية بالنسبة لهم لغة “العدوّ” فحسب، بل كانوا يعتبرونها قبيحةً وبدائية.

إحساسٌ بالعجز والخزي

كطفلٍ مرهف الأحاسيس، تبنّيت معتقدات وتحيُّزات بيئتي الجديدة وآمنتُ بها. أردتُ أن أدير ظهري لإرثي العربي، ولثقافة وعادات الشتات، وأن أتحوّل إلى “إسرائيلي جديد” يتحدّث العبرية. لم تكن العربية تتلاءم مع الهوية الجديدة التي كنت أعمل على اكتسابها. ولكن بما أن أبي كان يتحدّث إليّ بالعربية، لم يكن لدي خيارٌ آخر سوى أن أجيبه بالعربية. غمرني إحساسٌ بالعجز والخزي، وشعرت بالحمرة تكسو وجنتيّ. أجبت أبي بغمغماتٍ بالكاد يمكن سماعها. وددتُ أن أقول له أنه من الطبيعي أن نتحدّث العربية في المنزل، ولكنني أفضّل أن أكلّمه بالعبرية أمام أصدقائي. لكن في وجودهم، لم أقدِم على ذلك. لم أستطِع قط أن أواجِه أبي بهذا الكلام، لا في تلك اللحظة ولا فيما بعد في المنزل. كنت أتمنّى أن تنشق الأرض وتبتلعني. ظل هذا الصمت يكتنف علاقتي بأبي حتى مماته، ولم أستطع بكل تأكيد أن أتصوّر الإهانة التي كان من الممكن أن يشعر بها في هذا الموقف.

تعكس تلك الواقعة الصغيرة المشاعر التي صاحبتني طوال فترة طفولتي في إسرائيل. إذا كان عليّ أن أختار العامل الرئيسي في علاقتي بالمجتمع الإسرائيلي أثناء طفولتي، سيكون الإحساس بالدونية لأنني كنت طفلاً عراقيًا. قد يبدو ذلك صادمًا، لكن في سنواتي الأولى، لم يثِر هذا الإحساس في نفسي أي نفورٍ أو تمرّد. على العكس من ذلك، كان هذا الأمر الواقع يبدو لي وضعًا طبيعيًا، حيث تقبّلت دون مقاومة الهيراركية الاجتماعية التي كانت تضع اليهود الأوروبيين على رأس السلم الاجتماعي، ويهود الدول العربية والإسلامية في أسفله. لم أكن أرى كذلك أنني أمتلك أي مقوّماتٍ أو ملكاتٍ خاصة يتجاهلها المجتمع الإسرائيلي. لم يكن لدي هذا الشعور الملحّ بالظلم الذي يدفع بعض الأشخاص المهمّشين إلى إثبات أنفسهم. كنت في قرارة نفسي أراني طفلاً عاديًا، لديه بعض المعوّقات والحدود، وليس لدي أي رؤيةٍ للمستقبل. كنت كسولاً وسلبيًا، غريبًا على مجتمعي، ولكن في الوقت نفسه مستسلمًا لمصيري. كانت فكرة “الإمساك بزمام أموري” مستبعدة تمامًا من تفكيري.

رواياتٌ منحازة عن الصراع

لم يكن لدي أدنى فكرة في ذلك الوقت عن أوضاع العراقيين في إسرائيل، والمزايا والعيوب التي تصاحبها. كانت ميزتها الأساسية التي اتّضحت لي فيما بعد القدرة على تجاوز الصور النمطية القومية، وتبنّي وجهة نظرٍ أكثر توازنًا، لا بل حيادية، عن الصراع العربي الإسرائيلي. ليس هذا بصراعٍ عادي، بل هو من أكثر الصراعات المريرة والطويلة والعصيّة على الحل في العصر الحديث، بما يثيره من انفعالاتٍ حادة وانحياز لدى طرفيّ الصراع. فالمدارس ووسائل الإعلام الإسرائيلية ما زالت تروِّج لروايةٍ منحازة عن الصراع، لا ترتكب فيها إسرائيل أي سوء، ولا يفعل فيها العرب أي خير. وتسير المدارس وووسائل الإعلام العربية على نفس النهج، بنقل صورةٍ منحازة تصوِّر الفلسطينيين كضحايا أبرياء، واليهود – مصطلح دائمًا ما يُستخدَم للإشارة إلى الإسرائيليين – كأشخاصٍ سيئين أنانيين، قساة القلب عديمي الضمير، بل وأشرار. يؤمن كلّ معسكرٍ إيمانًا شديدًا بأنه على حقّ، ويتبنّى كلاهما سرديةً قوميّة أحادية للتاريخ. وكغالبية السرديّات القومية، غالبًا ما تكون سطحية وانتقائية ووعظية ونفعيّة. كطفلٍ نشأ في بلدٍ عربي، كنت أعي إمكانية التعايش السلمي بين العرب واليهود. لم أكن أنظر إلى العرب كأعداء، ولكن كشعب، شعب أبيّ النفس وحسّاس. ساعدتني أصولي العراقية إذًا، بعد أن كبرت، على تكوين رؤيةٍ أكثر دقة، تقوم على التعاطف مع جميع أطراف هذا الصراع المأساوي الذي يبدو غير قابل للحل.

في هذا الشأن، لا تمثّل حالتي السواد الأعظم من اليهود العرب، حيث إنّ عددًا لا يُستهان به من اليهود العراقيين الذين استقرّوا في إسرائيل أصبحوا قوميين يمينيين يحتقرون العرب. وقد غازلتُ أنا أيضًا في شبابي أفكار اليمين. لا أتصوّر كيف كنتُ سأتطوّر سياسيًّا وأيديولوجيًّا لو بقيتُ في إسرائيل، لكن الواضح أن الفترة التي اعتنقتُ فيها الأفكار اليمينية لم تدُم طويلاً. فقد كوّن لديّ ابتعادي عن إسرائيل موقفًا أكثر استقلالية وعقلانية تجاه المجتمع الإسرائيلي. إن السنوات التي قضيتها كطالبٍ في إنكلترا عشية حرب 1967 مكّنتني من رؤية ما وراء القناعات البسيطة، واكتساب منظورٍ أكثر نقدًا عن القومية بشكلٍ عام، فضلاً عن فهمٍ أكثر تعقيدًا لمكوّنات الصراع العربي الإسرائيلي المختلفة، التي تجعل منه واحدًا من أسوأ الكوابيس على الإطلاق. أدركتُ تدريجيًّا أن القومية هي أساس غالبية الصراعات الدولية. مشكلة القومية، كما كتبت مارلين مونرو في مذكّراتها، هو أنها تمنعنا من التفكير.
تجربةٌ واقعية وتاريخٌ طويل

يتناول كتابي السيرة الذاتية ليهودي عراقي شاب، يرويها مؤرّخٌ متخصّص تلقّى تعليمه في كامبريدج. حيث يسرد الكتاب قصة حياتي حتى سن الثامنة عشرة في العراق وإسرائيل وإنكلترا، لكنه كُتِبَ من منظوري الحالي، منظور رجلٍ يبلغ من العمر 75 عامًا، أصبح خبيرًا مرموقًا في الصراع العربي الإسرائيلي، وأستاذًا فخريًّا في العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد. بحسب فيرجينيا وولف، تمثّل كثيرٌ من المذكّرات تجارب فاشلة، لأنها “تنحّي جانبًا الشخص الذي عاش تلك الأحداث”. في حالتي، بطل الرواية هو ذلك الطفل مرهف الأحاسيس والمراهق المضطرب، لكن السياق الدرامي يصفه الرجل الجامعي الناضج. في واقع الأمر، أهدف من هذا العمل إلى استخدام تجربتي الشخصية للحديث عن حقبةٍ تاريخية أهمّ، تؤرّخ لنزوح اليهود من العراق بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. وقد نتج عن ذلك جزءٌ من السيرة الذاتية للكاتب، وتاريخ عائلة، ومساهمة في فهمٍ أفضل لتاريخ اليهود العرب كما آمل.

يسعى هذا الكتاب إلى استعادة وإعادة إحياء حضارة يهودية فريدة من نوعها في الشرق الأدنى، عصفت بها في النصف الأول من القرن العشرين رياح القومية الباردة. أسعى إلى استرجاعها بسرد تاريخ عائلة، لا بأبحاث وتحاليل أكاديمية. كنّا عائلةً يهودية عراقية من الطبقة الوسطى العليا، نزحت من العراق تحت ضغوط القومية العربية واليهودية معًا، دفعتها كراهية الأجانب لمغادرة البلاد، واستقطبتها الدولة اليهودية الوليدة. غادرنا البلاد في خضمّ موجة النزوح الجماعي لليهود العراقيين إلى إسرائيل بين عامي 1950 و1951. أُجبِرنا على ترك وطننا بفعل قوى جبرية خارجة تمامًا عن إرادتنا، بل وعن فهمنا. شرعتُ في تدوين هذا الكتاب لأحاول أن أعطي معنى لبداياتي، ولجمع شظايا تاريخ عائلتي، وكانت الحصيلة النهائية دراما عائلية جرت أحداثها في حقبةٍ مضطربة من تاريخ الشرق الأدنى.

إن مصير عائلتي ما هو إلا مصير مجتمع بأكمله، مجتمعٌ اجتُثّت جذوره من عالمٍ كان يشعر فيه بالألفة، ليعيش في عالمٍ اضطرّ فيه للقيام بمواءماتٍ مؤلمة للتأقلم. وبالتالي فإن تاريخ عائلتنا يصنع جزءًا من سياقٍ أكبر، ألا وهو تاريخ الجالية اليهودية في العراق. تدور قصتنا حول الحياة المستقرة والرائعة التي كنا نعيشها بجانب المسلمين في العراق، والحزن والألم الناتجَين عن النزوح، ومشاكل التكيُّف مع حياةٍ جديدة في “أرض الميعاد”، وفشلي الدراسي في إسرائيل الذي دفع أهلي إلى إرسالي لإكمال تعليمي في انكلترا، والسنوات الثلاثة، البائسة في معظمها، التي قضيتها في لندن، التي كانت بمثابة “منفاي” الثاني عن وطني الأم.

بين ضفّتي بابل

تصنع مسيرة عائلتي التسلسل الزمني للكتاب، وتعطيه نكهته البشرية. ولعلّ ما يضفي على قصّتنا أهميةً تاريخية واجتماعية أكبر هو انتماؤنا إلى فرعٍ من المجتمع اليهودي لم يعُد له وجودٌ اليوم تقريبًا. كنّا يهودًا عرب، نعيش في بغداد في انسجامٍ مع المجتمع العراقي. كنا نتحدث العربية في المنزل، وكانت عاداتنا عربية، وأسلوب حياتنا عربي، وكانت أكلاتنا شرق-أوسطية شهية، والموسيقى التي يستمع إليها والداي مزيجًا رائعًا من الموسيقى العربية واليهودية.

على حدّ علمي، تعود شجرة عائلتي إلى حقبة نفي اليهود من يهودا إلى بابل منذ ألفين وخمسمائة عام. يعبّر المزمور 137 من الكتاب المقدّس عن رغبة الشعب اليهودي، أثناء منفاه في بابل، في العودة إلى صهيون: “بينما كنّا جالسين على ضفاف أنهار بابل، بكينا عندما تذكّرنا صهيون”. وصهيون هو واحدٌ من الأسماء التوراتية للقدس، ولأرض إسرائيل ككل. لكن بالنسبة لعائلتي، لم يكن لصهيون أي جاذبية. كانت جذورنا راسخة بعمق بين نهري بابل، ولم يكن لدينا أي سبب يدعونا إلى اقتلاع تلك الجذور. كنّا عراقيين ندين باليهودية، وبالتالي كنّا أقليةً مثل اليزيديين والكاثوليك الكلدان والآشوريين والأرمن والشركس والتركمان والأقليات العراقية الأخرى. قبل عصر القومية، كانت العلاقات بين هذه المجتمعات المتنوّعة، على الرغم من بعض التوترات الحتمية التي شابتها، تتّسم بالحوار أكثر ممّا تتّسم بـ“صدام الحضارات”. عُرِفت بغداد بـ “مدينة السلام”، وكان العراق أرض التعددية والتعايش. داخل الجالية اليهودية، كانت تجمعنا بشركائنا في الوطن قواسم لغوية وثقافية مشتركة، أكثر من التي تجمعنا بإخواننا الأوروبيين في الدين. لم نكن نشعر بأي تقاربٍ مع الحركة الصهيونية، ولم تكن لدينا أي رغبة في مغادرة وطننا للذهاب إلى إسرائيل والعيش فيها.

بقية المقال على موقع أوريان 21.

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...