لنساء غزّة.. كلّ الحياة

يصنعن خبزاً بلا طحين. يغنين بأصوات مقهورة. يسندنَ الخيمة بظهورهنّ. يحملن الأطفال والرجال والكهول.
2024-03-07

شارك
بيسان عودة مع كاميرتها من أمام خيم النزوح في رفح جنوبي قطاع غزة تطالب بوقف فوري لإطلاق النار (الصورة عن صفحتها على انستغرام)
إعداد وتحرير: صباح جلّول

مشهد أول

يحكي الصحافي يوسف فارس، وهو من القلة من الصحافيين الباقين في شمال غزة المحاصرة والمجوّعة، عن مقابلة له مع أحد أصدقائه الذي استشهد أخوه الأكبر، وبالتحديد عن والدة هذا الشاب التي لم تمرّ دقيقة واحدة من المقابلة دون أن تقاطعهما بأن تطل برأسها من فجوة في الجدار المقصوف – لعلّها الفجوة التي قُتل عندها ابنها البكر. يستدرك فارس - لتقول لابنها الثاني "يمّا، لا تقعد في الشمس. يمّا، لا تمشِ تحت جدار مقصوف.."، يمّا.. يمّا.. بتعليماتها الدقيقة، العطوفة والملهوفة.

نازحة من مستشفى ناصر مع قطتها بعد اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي للمستشفى في شباط فبراير الماضي (تصوير محمد سالم - رويترز).

مشهد ثان

هذه رهف شمالي (20 عاماً) في جنوب غزّة المحاصرة - هناك حيث اجتمع المكْلومون والمبعَدون والمنهَكون والآملون بالعودة – تَجْمع أطفال الخيام، أحفاد أولاد خيام النكبة الأولى، في زاوية من مخيم النزوح. ترافقها فرقة "صول" للموسيقى بدفٍّ وغيتار متواضِعَين، وتعمل متطوعة على طمأنة الأطفال وبثّ شيء من الفرح في يومياتهم التي لا تليق بالطفولة بأي حال من الأحوال. "لا نركع لسافل"، تغني بصوتها المميز الذي تغلّفه بحّة كأنها حصنٌ مكين. "فلسطين عربية.. عربية.. القِبلة الأولى والهويّة.. عربية"، لتنفجر حماسة الأطفال مُرافقين.

مشهد ثالث

تخلع الطبيبة معطفها لتسهل عليها الحركة، ترميه لأحد الممرضين، ولا تفكّر مرتين قبل قطع الأمتار القليلة الخطيرة جداً بينها وبين الجريح. تَعْبر المسافة التي يستهدفها القناص الإسرائيلي الجبان وهي على كامل العلم والدراية بما قد ينتج عن ذلك، وتصل إلى الجريح وقد استشهد.. اسمها الدكتورة أميرة العسولي، استشارية نساء وولادة، وتعمل تطوّعاً في مجمّع ناصر الطبي في خان يونس، المحاصر والمهاجَم. "مهمّتي لا أن أفكّر بنفسي، بل أن أفكّر بالآخرين. عقلي مبرمج على ذلك".

مشهد رابع

"عنات يا أمّي. ردّي إليّ صوتي المبعثر فوق حصى الوديان. رددي معي لحنَ النشيد". هذه بيسان عودة. تعرفونها جميعاً. حكواتية غزّة التي أرادت أن تُخبر قصصاً عن أهلها وشعبها لكنها صارت ذات صباح مراسلة حرب. تجلس في سيارة نامت فيها تلك الليلة، بعد نزوحها الخامس أو السادس. "لحظة من الهدوء بعد 106 أيام من الإبادة"... تشغّل أغنية للمغنية الفلسطينية ريم البنا عن "عنات"، إلهة كنعانية للحبّ والحرب والطبيعة. كان لها تمثال اكتُشف جنوبي غزة، عمره آلاف السنين، دمّرته الإبادة الإسرائيلية، مع كل ما هو جميل وقيّم مما دمّرت. تغلب بيسان العاطفة على صوت ريم التي تغني لرمز امرأة-إلهة هي حامية كل الأشياء، حاضِنة هذه الأرض، حلم الأمان والعدل والحق. نساءٌ يرثنَ نساءً يرثنَ نساءً يرثنَ آلهة...

يصنعن خبزاً بلا طحين.
يغنين بأصوات مقهورة.
يسندنَ الخيمة بظهورهنّ.
يحملن الأطفال والرجال والكهول.
ويستحقّن أن يُحْمَلنَ هنّ على الأكف والراحات.
ومَن غيرهنّ يوجِد في أقسى الإبادات الوحشية مساحة لأمل ما؟

يصنعن الخبز في مخيم جنوب غزة.. (تصوير علي جاد الله - WFP)

لأجلهنّ، ولأجل الرجال والأطفال والشيوخ، نصرخ عالياً لنضالٍ نسوي يراهم جميعاً، يكون لأجلهم، لحياتهم، أو لا يكون.

لا نضال نسوي بدون الحرية والأمان والحياة لنساء فلسطين وغزة. لا نسوية تحت الاحتلال. عاشت نساء بلادنا المستحقات لكلّ الحياة.

مقالات من فلسطين

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

الزيتون يا أبي

يتعلّق قلب أبي بأرضه، وهذا ما جعلني الآن أُدرك كيفَ تعلقَ أجدادنا بأرضهم، ويجعلني أُدركُ كيف يتعلق أولئك الذين نزحوا أو هاجروا ببلادهم، ثم يقررون بعد عشرات السنين العودةَ إليها....