معارك بحرية من صميم محاولات محو مدينة لا تُهزم

حصار ميناء إيلات يكلف الجانب الإسرائيلي خسائر مادية، قُدرت بـ4 مليارات دولار شهرياً، أما السفن التي ستعدِّل من مسارها للوصول إلى موانئ الاحتلال على البحر المتوسط، فعليها الدوران حول أفريقيا مروراً بمضيق جبل طارق، مع زيادة المسافة والزمن بضعة أسابيع، وبالطبع التكلفة. في المقابل لا تكفي الطائرات لنقل كافة البضائع كمواد البناء مثلاً.
2024-03-04

صفاء عاشور

باحثة وصحافية من مصر


شارك
عبور البارجة "يو إس إس دوايت أيزنهاور (CVN-69)" إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2023

أشعل ضابط أمريكي النار في نفسه من أجل غزة، وفداء لمعاني الإنسانية الغائبة. "آرون بوشنيل" أحرق جسده الشاب أمام سفارة جيش الاحتلال بواشنطن، تحولت قسوة النيران إلى دفء عارم مس قلوب كل من يشعر بفجيعة النوم في بيته آمناً، وعلى مقربة منه أهل غزة يموتون قنصاً وجوعاً ومرضاً بعزة وكرامة. أتحدث عن نفسي والغالبية من المصريين، الذين لا يستطيعون الثورة من أجل غزة، ولا عبور الحاجز ما بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية، اللتين خضعتا لإدارة مصرية واحدة خلال فترات مختلفة من المواجهة والصراع مع الأطماع الصهيونية.

وبشكل عام تحاصر الجغرافيا غزة حتى من قبل حرب الإبادة البربرية، التي اندلعت خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فمساحتها محدودة وشكلها على الخريطة طولي، بعرض لا يتعدى اثنى عشر كلم، وهي إلى ذلك محدودة الموارد الطبيعية، ترتفع فيها الكثافة السكانية، ويمثل العنصر البشري مصدر قوتها الفريد، حيث لا تتعدى نسبة الأمية فيها 2 في المئة، وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. أما ثقافتهم الراقية ووعيهم الفائق فقد شاهدناهما على الهواء مباشرة، دروساً في المقاومة والصمود والتضامن.

هم شعب لا يمكن هزيمته بحق.

خريطة قطاع غزة

تشتبك نصف حدود مدينة غزة مع الأراضي المحتلة بطول 51 كيلو متراً، النصف الآخر من طول حدود المدينة يبدو أكثر أمناً، إذ ينقسم ما بين الحدود المصرية، بطول 11 كلم، و40 كلم إطلالة ساحلية على البحر المتوسط. إلا أن المواقف السياسية للشقيقة الكبرى تتغير من حين إلى آخر حسب النظام السياسي، ولا يُخفى على أحد الموقف الرسمي من عدم تسهيل مرور المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، على الرغم من التصريحات المصرية الرسمية التي تنفي ذلك.

في الوقت ذاته يخضع ساحل غزة المطل على البحر المتوسط لمراقبة مستمرة من البحرية الإسرائيلية، تطلق النار بشكل روتيني على الصيادين الفلسطينيين حتى في فترات اللاحرب، على الرغم من أن اتفاقية غزة – أريحا سنة 1994 سمحت بالصيد مسافة 20 ميلاً بحرياً بعيداً عن الشاطئ.

باستخدام أحد مواقع تتبع السفن البحرية، نشاهد خلو ساحل غزة تماماً من السفن، ثم نكتشف أن غزة لا تملك ميناء دولياً في الأساس، بعد أن أطاح الاحتلال بإرهاصات إقامة ميناء دولي عقب انتفاضة عام 2000.

____________
ملف خاص
إلى غزة وأهلها
____________

حتى حرب عام 1967 كانت غزة تملك ميناء، وخلال اتفاقات أوسلو سنة 1993 وشرم الشيخ 1999 طُرِحت استعادة الميناء مرة أخرى، وخلال عام 2000 صدر المرسوم الرئاسي رقم (1) عن السلطة الفلسطينية بإنشاء ميناء في غزة يتبع سلطة الموانئ البحرية، وبالفعل بدأ العمل في الميناء وسط مدينة غزة بتمويل أوروبي، لكن إسرائيل قصفته ودمرت موقع الميناء في الانتفاضة الثانية، بعد ثلاثة أشهر فقط من بدء بنائه، وبات البحر جزءاً من معالم حصار المدينة.

تملك دولة الاحتلال بالمقابل خمسة موانئ على سواحل الأراضي المحتلة، هي: ميناء حيفا، وميناء أسدود، وميناء عسقلان، وميناء الخضيرة، وميناء إيلات، المنفذ الوحيد إلى البحر الأحمر، والأخير تعرض للشلل التام، وهو المسؤول عن استقبال 50 في المئة من البضائع الأساسية اللازمة لحياة المستوطنين في الأراضي المحتلة، وذلك بعد أن قرر الحوثيون سلوك مسلك البطولة المطلقة غير محسوبة العواقب دعماً لغزة، عبر استهداف السفن المتجهة إلى ميناء إيلات، واعتبار ذلك ضمن عملية طوفان الأقصى، خارقين عشرات المواثيق الدولية لحرية الملاحة بالمضائق الدولية، التي جرى تشديدها عقب إغلاق باب المندب إبان حرب 1973 من قبل القوات البحرية المصرية وبمباركة النظام اليمني أيضاً في ذلك الوقت.

يخضع ساحل غزة لمراقبة مستمرة من البحرية الإسرائيلية، التي تطلق النار على الصيادين الفلسطينيين حتى في فترات اللاحرب، على الرغم من أن اتفاقية غزة – أريحا سنة 1994 سمحت بالصيد مسافة 20 ميلاً بحرياً بعيداً عن الشاطئ. وباستخدام أحد مواقع تتبع السفن البحرية، نشاهد خلو ساحل غزة تماماً من السفن، بل أن غزة لا تملك ميناء دولياً، بعد أن أطاح الاحتلال بإرهاصات إقامة ميناء دولي عقب انتفاضة عام 2000.

يظهر موقع vesselfinder الخاص بتتبع السفن البحرية، أن عدد السفن التي كانت متواجدة في ميناء إيلات بداية شباط/ فبراير من العام الجاري لا تتعدى سفينتين، تحملان كلتاهما أعلام دولة الاحتلال، والآن يُظهر الموقع خلو الميناء بشكل كامل من السفن.

صورة بتاريخ 28 شباط/فبراير 2024 توضح خلو ميناء إيلات مع عدم توقع قدوم سفن خلال 30 يوماً من موقع: vesselfinder.com

حصار ميناء إيلات يكلف الجانب الإسرائيلي خسائر مادية قُدرت بـ4 مليارات دولار شهرياً، أما السفن التي ستعدِّل من مسارها للوصول إلى موانئ الاحتلال على البحر المتوسط، فعليها الدوران حول أفريقيا مروراً بمضيق جبل طارق، مع زيادة المسافة والزمن لبضعة أسابيع، وبالطبع التكلفة. في المقابل لا تكفي الطائرات لنقل كافة البضائع كمواد البناء مثلاً، حتى مع الطريق البري الذي افتتح في دولة الإمارات وعدد من الدول العربية "الشقيقة"!

إيلات أو أم الرشراش

لميناء إيلات دلالة تاريخية، فهو في الأصل أرض كانت تخضع للسيادة المصرية باسم أم الرشراش، وتطل على خليج العقبة المرتبط بالبحر الأحمر، وقررت إسرائيل اختطافها للحصول على منفذ وحيد على البحر الأحمر. ومع ذلك ظلت لمصر القدرة على التحكم في مرور السفن من وإلى الميناء المحتل عبر سيطرتها على مضيق تيران، منفذ خليج العقبة إلى البحر الأحمر، حتى سلمت مصر جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية عام 2017.

تملك دولة الاحتلال خمسة موانئ على سواحل الأراضي المحتلة، هي: ميناء حيفا، وميناء أسدود، وميناء عسقلان، وميناء الخضيرة، وميناء إيلات، المنفذ الوحيد إلى البحر الأحمر، الذي يستقبل 50 في المئة من البضائع الأساسية اللازمة لحياة المستوطنين في الأراضي المحتلة، وقد تعرض للشلل التام بعد أن قرر الحوثيون دعم غزة، عبر استهداف السفن المتجهة إليه، واعتبار ذلك ضمن عملية طوفان الأقصى.

يظهر موقع vesselfinder الخاص بتتبع السفن البحرية، أن عدد السفن التي كانت متواجدة في ميناء إيلات بداية شباط/ فبراير من العام الجاري لا تتعدى سفينتين، تحملان كلتاهما أعلام دولة الاحتلال، والآن يُظهر الموقع خلو الميناء بشكل كامل من السفن.

أما موانئ دولة الاحتلال الأخرى على البحر المتوسط، فتتدفق إليها المساعدات من كافة الدول، من ضمنها دولة بريطانيا، التي أعلنت دعمها لإسرائيل منذ بداية الحرب، وأصدر مكتب رئيس الوزراء البريطاني بياناً أكد فيه أن لندن ستنشر سفينتين تابعتين للبحرية الملكية البريطانية وطائرات هليكوبتر وطائرات مراقبة في شرق المتوسط دعماً لإسرائيل و"تعزيزاً للاستقرار الإقليمي"، فضلاً عن إرسال المساعدات الطبية إلى إسرائيل.

وتشارك المملكة المتحدة أيضا في عملية Prosperity Guardian لحماية السفن في البحر الأحمر، كما أعلنت وزارة الدفاع البريطانية عن قيامها برحلات استطلاعية فوق شرق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك العمل في المجال الجوي فوق إسرائيل وغزة لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين. وعلى الرغم من تأكيد الجانب البريطاني أن طائرات المراقبة غير مسلحة، ولن يكون لها أي دور قتالي، إلا أنه كان لها دور في التعرف على أفراد من حركة المقاومة الفلسطينية واغتيالهم، حيث يُعتقد أن تلك الطائرات تمتلك القدرة على تتبع المرء عن طريق البصمة الصوتية.

وتظهر مواقع تتبع السفن للنصف الثاني من شهر شباط/ فبراير، استقبال موانئ جيش الاحتلال ثلاث سفن تحمل العلم البريطاني، تتنوع حمولتها ما بين مواد بترولية وبضائع، إضافة إلى سفن أخرى تحمل أعلام هونغ كونغ وقبرص وتركيا... فضلاً عن 18 سفينة تحمل علم جزر مارشال، وهي جزر استقلت عن الإدارة الأمريكية عام 1986، وتتيح لأي مالك سفينة مهما كانت جنسيته تسجيل سفينته تحت علمها مقابل رسوم، وتحتوي على أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في المحيط الهادي، ويعتقد أن أمريكا تستخدم سفناً تحت علم جزيرة مارشال. وخلال منتصف شهر كانون الثاني/ يناير استهدف الحوثيون سفينة كانت ترفع علم جزيرة مارشال لكنها محملة ببضائع أمريكية وكانت تحمل اسم "ستار آيريس"، لكن السفينة تمكنت من عبور قناة السويس ومنها إلى دولة الإمارات بميناء الفجيرة. وكانت هذه السفينة أحد الأدلة، على استخدام الشركات الأمريكية علم مارشال لمساندة جيش الاحتلال في حرب إبادة غزة.

تتبع السفن الحربية الأمريكية عبر المصادر المفتوحة ليس دائماً بالأمر السهل، فلا يمكن الحصر الدقيق لعدد السفن التابعة للبحرية الأمريكية التي دعمت إسرائيل في حرب غزة، ولا كميات الأسلحة والعتاد، مع العلم بالموقف الأمريكي المؤيد للجانب الإسرائيلي بشكل مطلق، ومن ضمنه إقرار مجلس الشيوخ مشروع قانون مساعدات في شباط/ فبراير، خص إسرائيل بأربعة عشر مليار دولار، هذا بخلاف الجسر الجوي المفتوح بين أمريكا وإسرائيل منذ بداية الحرب، والذي تضمن إرسال 230 طائرة، وعشرين سفينة شحن أميركية، كلها محملة بالأسلحة الفتاكة الموجهة إلى صدور أهل غزة المدنيين العزل.

ميناء إيلات في الأصل أرض كانت تخضع للسيادة المصرية باسم أم الرشراش، وتطل على خليج العقبة. وقد قررت إسرائيل اختطافها للحصول على منفذ وحيد على البحر الأحمر. ومع ذلك ظلت لمصر القدرة على التحكم في مرور السفن من وإلى الميناء المحتل عبر سيطرتها على مضيق تيران، منفذ خليج العقبة إلى البحر الأحمر، إالى أن سلّمت مصر جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية عام 2017.

خلال منتصف شهر كانون الثاني/ يناير استهدف الحوثيون سفينة اسمها "ستار آيريس"، وترفع علم جزيرة مارشال، ومحملة ببضائع أمريكية. لكن السفينة تمكنت من عبور قناة السويس ومنها إلى دولة الإمارات بميناء الفجيرة. وكانت هذه السفينة أحد الأدلة على استخدام الشركات الأمريكية علم مارشال، لمساندة جيش الاحتلال في حرب إبادة غزة.

وفي التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أعلنت القيادة الأمريكية المركزية "سنتكوم" عبر موقعها عبور "يو إس إس دوايت أيزنهاور (CVN-69)" إلى البحر المتوسط، فيما كشفت الصواريخ الحوثية عن عبور السفينة الحربية يو إس إس لابون (DDG 58) إلى البحر الأحمر خلال كانون الأول/ ديسمبر 2023.

وفيما يتعلق بالدعم العسكري المباشر، تحركت الإدارة الأمريكية بسرعة لإعادة تموضع "مجموعة الناقلات الضاربة" (حاملة الطائرات الهجومية) "يو إس إس فورد" (USS Ford) من غرب البحر الأبيض المتوسط إلى مكان أقرب من المياه الإقليمية الإسرائيلية. و"يو إس إس فورد" هي حاملة الطائرات الأمريكية الأحدث والأكثر تقدّماً والأكبر في العالم وفقاً للدعاية الأمريكية، وقد دخلت "مجموعة الناقلات الضاربة" إلى البحر الأبيض المتوسط قبل الحرب، في شهر حزيران/ يونيو 2023. وتتصف حاملة الطائرات فورد بكونها قادرة على القيام بمجموعة واسعة من العمليات، بدءاً من المهمات الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع إلى الهيمنة البحرية، والضربات الدقيقة بعيدة المدى، والدفاع الصاروخي.

قناة بن غوريون؟

يُذكّر إصرار إسرائيل على تدمير غزة برغبتها التاريخية في إقامة قناة بن غوريون، التي تهدف إلى الربط بين البحرين المتوسط والأحمر، من مدينة غزة بالقرب من ميناء عسقلان إلى ميناء إيلات، بغرض تقليل نفوذ قناة السويس، وامتلاك قوة بحرية تزيد من نفوذ جيش الاحتلال.

وعلى الرغم من التحديات الجغرافية التي تطرحها تلك القناة، إلا أن تقارير صحافية عادت إلى الكشف عن ذلك المخطط، الذي ظهر خلال الستينيات من القرن الماضي، وعادت بوادره عام 2021 إبان حادثة سفينة الحاويات الضخمة إيفر غيفن (Ever Given)، التي علقت بقناة السويس وعطلت الملاحة فيها. وتُطرح القناة الجديدة بوصفها أكثر اتساعاً وعمقاً من قناة السويس بواقع 10 أمتار، ومن الممكن أن يستغرق تنفيذ المشروع خمس سنوات فقط، بتكلفة تصل إلى 16 مليار دولار.

الأمر لن يكون سهلاً، فالمسافة ما بين ميناء إيلات وعسقلان تبلغ ثلاثة أضعاف طول قناة السويس، وطريق شق القناة صخرية وعرة عند خليج العقبة، صعبة المعالجة، تليها صحراء تتخللها مرتفعات جبلية تزيد عن 600 مترٍ، وتنتهي بساحل غير مكتمل التكوين غني بالكثبان الرملية المتحركة، مما يشكل أعباء مالية ضخمة.

يذكّر إصرار إسرائيل على تدمير غزة برغبتها التاريخية في إقامة قناة بن غوريون، التي تهدف إلى الربط بين البحرين المتوسط والأحمر، من مدينة غزة بالقرب من ميناء عسقلان إلى ميناء إيلات، بغرض تقليل نفوذ قناة السويس، وامتلاك قوة بحرية تزيد من نفوذ جيش الاحتلال.

ولكن لما لا! قد يجد جيش الاحتلال من الدول العربية نفسها مموِّلين للمشروع الجديد، وهم من صمتوا بشكل مخزٍ على إبادة أهل غزة بهدف تغيير التركيب الديموغرافي للأراضي المحتلة لصالح المستوطنين الإسرائيليين.

لم ينفعل رئيس ويتوعد على الهواء. لم تقم دولة واحدة بأبسط طرق الاحتجاجات الدبلوماسية، أي استدعاء السفير ومن ثم طرده. لم تظهر للشعوب العربية غضبها إلا عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وتنظيم حملات إغاثة إلى أهلنا في غزة، لا نعلم ما يذهب منها وما لا يذهب.

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

إعادة تكوين العقل الغزّي

أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم في...

للكاتب نفسه