في البدء كانت حلب. تغيّر ميزان القوى في الأزمة السورية وكذلك تطورات "الحرب على داعش" في العراق وليبيا، كلها معطيات جديدة تلقي بظلالها على تونس منذ عدة أسابيع. هذه المستجدات تطرح عدة أسئلة: هل سينتهي موسم الهجرة إلى الجهاد قريباً؟ وإذا ما انتهى، فهل سيعود الأبناء الضالون إلى البلاد؟ وما العمل إن عادوا؟
فتونس أصبحت منذ سنوات واحدةً من "كبار المصدرين" للإرهابيين في العالم. ويقدّر عدد المقاتلين التونسيين بالآلاف في مختلف "ورشات" الجهاد المفتوحة في الوطن العربي والشرق الأوسط عموماً. كما أن "العمليات النوعية" كحادثتي الدهس بالشاحنة في نيس الفرنسية وبرلين الألمانية، تكثف الضغط الخارجي على البلاد، وتسيء لصورة المواطن التونسي في العالم. تصريحات كبار المسؤولين الضبابية والمتضاربة أحياناً بشأن "العودة والتوبة" سببت لغطاً كبيراً في تونس على المستويين الشعبي والسياسي. الحديث عن العائدين ذكر البعض بسيناريو عودة "الأفغان العرب" إلى بلدانهم وتأسيسهم جماعات جهادية محلية. السّجال حول الموضوع يتراوح ما بين الجدل القانوني والتجاذب الإيديولوجي، كما أنّه لم يسلم من الاستثمار السياسي من هذا الطرف أو ذاك. المتتبع لهذه المسألة التي تحتل حيزاً هاماً في الإعلام التونسي يلاحظ أن هناك جوانب لم يتم التطرق لها إما سهواً أو عمداً. فمثلا قليلاً ما يتم الحديث عن كيفية استقطاب وتسفير هؤلاء المقاتلين، كما إننا لا نجد طرحاً أكثر عمقاً للمسألة وتتبعاً لجذورها: من هم هؤلاء "العائدون" ولماذا يذهبون إلى "بؤر التوتر"؟
العائدون: صداع قديم / جديد
موضوع الإرهاب والإرهابيين حساس جداً في تونس، فهذا البلد الذي ظل لعدة عقود بعيداً عن الصراعات والنزاعات المسلحة، صُدم بموجة العمليات الإرهابية التي ضربته خلال السنوات التي تلت انتفاضة كانون الثاني / يناير 2011. كما أنه لم يستوعب كمية العنف المخزونة في أعماقه والتي تدفع بآلاف من شبابه إلى الانخراط في جماعات دموية كداعش وأخواتها. أصلا مسألة "مقاومة الإرهاب" كانت إحدى مرتكزات الحملة الانتخابية للرئيس الحالي ولحزبه أواخر 2014. وجاءت قضية عودة المقاتلين لتثير المخاوف القديمة / الجديدة..
أصل الحكاية
الموضوع أثير عدة مرات في السنوات الأخيرة، لكن سرعان ما كان النقاش حوله ينحسر ويلفه النسيان. يبدو أن المزاج الشعبي يفضل ضمنياً فكرة "التخلص" من هؤلاء الأبناء الضالين في الخارج على عودتهم إلى الوطن وإمكانية تحولهم إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت. بقي الموضوع معلقاً ومؤجلاً إلى أن أتت تصريحات رئيس الجمهورية في حوار له مع قناة "أورو نيوز" بتاريخ 5 كانون الأول/ ديسمبر 2016. ففي إجابته على سؤال محاوره بخصوص عودة الجهاديين التونسيين، قال الباجي قايد السبسي: "أولاً نحن لا نمنع أي تونسي من العودة إلى بلاده، وهذا مبدأ دستوري. ثانياً إن كل شخص يعود بما يحمله من خصاله أو مساوئه. ولا بد من أن نتعامل مع العائد، أمنياً وسياسياً، بما يقتضيه الوضع، لأننا في تونس اتخذنا الاحتياطات اللازمة بالنسبة لمواطنينا الذين يرغبون بالعودة، فمرحبا بهم". يجب أن نضع هذا الحوار (الذي دار في بروكسل) في سياقه، فهو يأتي بعد خمسة أيام من مؤتمر الاستثمار الدولي الذي انعقد في تونس وبعد أربعة أيّام من القمة الأوروبية - التونسية وبعد يومين من سيطرة الجيش السوري على أغلب أحياء حلب الشرقية.. بعبارة أخرى، الكلام كان موجهاً للخارج أكثر من الداخل، ويبدو أن هناك ضغوطاً أوروبية على تونس لتتحمل "مسؤولية أفعال أبنائها"..
ردود فعل متباينة واستثمار سياسي
سرعان ما تلقفت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في تونس تصريحات الرئيس وجعلت منها قضية رأي عام بامتياز. ردود الفعل الشعبية كانت في المجمل رافضة لعودة الإرهابيين واعتبرتها فتح لباب بلاء قد يزيد الأوضاع الأمنية هشاشة. المواقف السياسية تباينت بين الرفض القاطع والتحفظ والترحيب. أغلب الأحزاب العلمانية، اليسارية منها والليبرالية، انتقدت تصريحات الرئيس واعتبرتها غير مدروسة خصوصاً في ظل غياب طرح رسمي واضح وشامل للمسألة بمختلف أبعادها القانونية والأمنية. حركة النهضة (إخوان مسلمين)، الحزب الأكبر في تونس، كان لها موقف مرحبٌ جداً، خصوصا وأنه سبق لها أن قدمت عدة اقتراحات تصب في مسألة العفو عن المقاتلين "التائبين" الذي حملوا السلاح في الداخل والخارج . زعيم الحركة، راشد الغنوشي، الذي سبق أن قال إنّ "السلفيين يذكرونني بشبابي"، أثنى على كلام رئيس الجمهورية واستعمل مثلاً شعبياً تونسياً "اللحم إذا نتن ماليه إلاّ أماليه": تونس يجب أن تحتضن أبنائها مهما كانت أفعالهم. كما أنه يعتبر أن السماح بعود المقاتلين هي فرصة لإقناعهم بالقيام بمراجعات قد يكون لها تأثير على الساحة السلفية في تونس. نظرية "اللحم النتن" أثارت حفيظة العديد من الأحزاب التي اعتبرت أن الإسلاميين يريدون تبييض صفحة الجماعات الإرهابية القريبة منهم عقائدياً. فيما يرى بعض المحللين أن الموضوع برمته مختلق، فإلى حد اليوم لم نسمع بمقاتلين يريدون العودة، كل ما في الأمر ان الائتلاف الحاكم يسعى إلى تشتيت انتباه التونسيين عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، كما أنّه يبني طواحين هواء ليصارعها "دونكيشوتات" المعارضة الحزبية والمجتمع المدني. في الأسابيع الأخيرة، أصبحت المسألة موضوع تناول إعلامي يومي، وبدأت عدة أطراف في التظاهر والاحتجاج لدفع الائتلاف الحاكم إلى إصدار مبادرة تشريعية تقضي بمنع عودة الإرهابيين التونسيين إلى بلادهم، وحتى بسحب الجنسية التونسية منهم.
"العودة" ما بين القانون والأمن
قانونياً يحق لكل تونسي أن يعود إلى بلده ولا يحق لأي تونسي آخر أن يمنعه من ذلك. الفصل 24 من الدستور التونسي الجديد واضح: "يحجر سحب الجنسية التونسية من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن". محتوى الفصل يعتبر مكسباً لكلّ التونسيين وينهي حقبة تعرض فيها العديد منهم إلى النفي والمنع من العودة إلى البلاد. بدأت بعض الأصوات تنادي بتنقيح الدستور وإسقاط هذا الفصل، وهذا يعتبر أمراً خطيراً جداً لأنه سيشكل استثناءً يمكن أن يصبح قاعدة ويعيدنا إلى زمن تفصيل الدساتير على مقاسات الحكّام، أو يدخلنا في مرحلة سن قوانين "شعبوية". فيما يتعلق بمحاسبة المقاتلين العائدين، فهناك القانون الأساسي عدد 26 (آب/ أغسطس 2015) المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال. تبقى هناك مشكلتان أساسيتان في التعامل القانوني: تعريف الإرهاب والإرهابي، وإثبات تورط المقاتل العائد من "بؤر التوتر" في أعمال ارهابية. فمثلا هناك المئات من التونسيين انضموا الى حركات المقاومة العربية في التاريخ المعاصر، وبعضهم انخرط في أحزاب ومجموعات تصنفها الدول الغربية كتنظيمات إرهابية.
موضوع الإرهاب والإرهابيين حساس جداً في تونس، فهذا البلد صُدم بموجة العمليات الإرهابية التي ضربته خلال السنوات التي تلت انتفاضة كانون الثاني / يناير 2011
على المستوى الأمني، تبدو الأمور أكثر تعقيداً. فالبلاد لم تتمكن من حسم المعركة مع مجموعات إرهابية تعد عناصرها بالعشرات، فكيف سيكون الأمر إذا ما عاد آلاف المقاتلين المدربين جيداً وقرروا أن يستأنفوا "نشاطهم". كما أن الدولة التونسية لا تملك أرقاماً ومعطيات دقيقة ومحدثة حول عدد وتوزع المقاتلين التونسيين في الخارج. مسألة السجون تطرح هي أيضاً مشاكل عديدة. إيداع الإرهابيين في السجون "العادية" قد يمكِّنهم من الاتصال ببعضهم البعض وحتى من استقطاب عناصر جديدة من بين السجناء العاديين. أما بناء سجون خاصة بمواصفات أمنية عالية فهو يتطلب إمكانيات مادية وبشرية كبيرة، كما أنّه يجعل منها هدفاً محتملاً لهجمات إرهابية. على كل حال يبدو أنّ هناك اتجاهاً نحو الحل الثاني، خصوصا وأن هناك حديث عن دعم مادي أوروبي لهذا الاتجاه. من ناحية أخرى، يعتبر المؤيدون لعودة المقاتلين أنّهم يمثّلون خزانات مهمة لمعلومات قد تفيد الأجهزة الأمنية في تفكيك الجماعات الإرهابية المحلية وتتبع خيوط شبكات الاستقطاب والتسفير.
• العائدون.. كيف ذهبوا؟
قل ما تطرق النقاش الدائر في تونس حول موضوع عودة المقاتلين التونسيين من "بؤر التوتر" إلى سؤال جوهري: كيف تمّ استقطاب هؤلاء الشباب، ومن سفّرهم، وكيف خرجوا مجموعات وفرادى بكل سهولة؟ ربما السبب في تحاشي التطرق إلى هذا السؤال والإجابة عليه يعود إلى الإحراج الذي قد يمثله ذلك للشيخين اللذان يحكمان تونس اليوم: رئيس الجمهورية وزعيم حركة النهضة. الباجي قايد السبسي تقلد منصب الوزير الأول بعد هروب بن علي بأسابيع، وشغله حتى أواخر 2011. خلال تلك الفترة قدمت الحكومة التونسية شتى أنواع الدعم للقوى الغربية والعربية الداعمة ل"الثورة الليبية": لوجستياً واستخبارتياً وسياسياً. السلطات التونسية غضت الطرْف عن تدفق السلاح والمقاتلين التونسيين والأجانب باتجاه التراب الليبي، دون أي حساب لمصلحة البلاد وأمنها القومي. الحدود التونسية تحولت وقتها إلى معابر آمنة للذين أتوا من كل فج عميق وحولوا ليبيا إلى معسكر ضخم. مع سقوط نظام معمر قذافي أصبحت ليبيا الوجهة الأولى للسلفيين التونسيين الذين يذهبون الى هناك لتلقي تدريبات ثم يعودون إلى تونس، أو ينتقلون إلى "ساحات جهاد" أخرى كسوريا والعراق. كما أنّ حكومة الباجي قايد السبسي تجنبت الدخول في صراع مع السلفيين، ربما بسبب ضعف الدولة أو لحسابات مستقبلية. إذاً رئيس الجمهورية الحالي يتحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية في تصلب عود الحركات الجهادية في تونس. بالنسبة لزعيم حركة النهضة، يبدو الموضوع أكثر إحراجاً، فحزبه حكم البلاد طيلة سنتين كانتا بمثابة العصر الذهبي للتيارات السلفية الجهادية. ولم تفعل حكومة الإسلاميين شيئاً لوقف سيطرة السلفيين على المساجد، ولم تتصدى جدياً لمحاولاتهم الاعتداء على المثقفين والفنانين والنقابيين. سمحت لهم باستقدام أكثر الدعاة والشيوخ العرب تطرفاً الى تونس، وسمحت لهم بإقامة خيم ومنتديات دعوية تكفر أغلب التونسيين. في عهد حركة النهضة تغلغلت التيارات الجهادية في المساجد والمؤسسات التربوية والأحياء الشعبية والمناطق الأكثر تهميشاً، مما مكنها من استقطاب آلاف مؤلفة من المواطنين، خصوصاً الشباب منهم. كل ما احتجت المعارضة حينها على تدليل الحكومة للسلفيين، كان الإسلاميون يردّون بأنهم يتجنبون إدخال البلاد في صدامات عنيفة، وأنهم يضمنون حرية التعبير لكل المواطنين. وفي كل مرة كانت وسيلة إعلام تنشر تحقيقا حول تدرب مقاتلين على حمل السلاح في عدة مناطق من البلاد، كانت الحكومة تكذِّب ذلك وتنفيه وتعتبره تلفيقاً. حتى أن وزير الداخلية الإسلامي علي العريّض قال ذات مرة إنّه لا يوجد من يتدرب على حمل السلاح في تونس، وأن كل ما في الأمر أن هناك شباب يذهبون الى الجبال لممارسة الرياضة. حركة النهضة، بحكم انتمائها العقائدي الإسلامي كانت تدعم علناً أي طرف قادر على المساهمة في إسقاط الأنظمة القديمة في ليبيا وسوريا، وفتح طريق السلطة أمام الإخوان المسلمين.
لم تستوعب تونس كمية العنف المخزونة في أعماقها والتي تدفع بالآلاف من شبابها إلى الانخراط في جماعات دموية كداعش وأخواتها
سنوات حكم حزب النهضة لم تكن فقط العصر الذهبي لاستقطاب الشباب إلى التيار الجهادي، بل كانت أيضاً موسم الهجرة الجماعية إلى بؤر التوتر. من المستحيل أن يسافر الآلاف من الشباب المعروفين بانتمائهم الفكري، وفي فترة متقاربة دون أن تلحظ السلطات ذلك. أغلب المقاتلين التونسيين خرجوا من معابر برية ومطارات بجوازات سفرهم واتجهوا إلى ليبيا أو تركيا (بوابة سوريا) في وضح النهار. آلاف العائلات التونسية فجعت في أبنائها الذين تحولوا بين عشية وضحاها من تلاميذ وطلبة وآباء عائلات إلى مقاتلين يحملون أسماء وكنى غريبة في بلدان تبعد آلاف الكيلومترات عن مدنهم وقراهم الأصلية. وعلى الرغم من كل جهود الصحافة والمعارضة والمجتمع المدني لحمل الحكومة الإسلامية على وقف النزيف، إلا أنها كانت دائما تنكر وجود شبكات تسفير أو آليات تمويل للشباب السلفي. أكبر الداعمين لعودة المقاتلين التونسيين إلى تونس هم الذين يتحملون جزءاً كبيراً من مسؤولية فتح البلاد أمام التيارات المتطرفة وتركها تبث سمومها.
من هم هؤلاء "العائدون"؟
ذهاب تونسيين إلى بلدان أخرى للقتال ليس بالأمر الجديد، ولئن اختلفت الوجهات والاتجاهات من جيل لآخر. هناك الذين شاركوا في الحروب العربية ضد الكيان الصهيوني منذ 1948، وهناك الذين انضموا للمقاومة الفلسطينية (الجبهة الشعبية أساساً) في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. الأجيال الأولى كانت أغلبها عروبية أو يسارية التوجه. منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي، بدأت التيارات الوهابية الجهادية في اجتذاب التونسيين، فهناك من ذهب لأفغانستان لتحريرها من "السوفييت الملاحدة"، وآخرون ذهبوا للبلقان والشيشان "نصرة لإخوانهم المسلمين" (أغلبها حروب برعاية الناتو!).
الرعيل الأول من الجهاديين أغلبه من الفقراء ومن ذوي المستوى التعليمي المتدني. مع احتلال العراق، ظهر جيل ثانٍ من الجهاديين التونسيين المهاجرين. هذا الجيل يتميز بشراسته وبمستواه العلمي وحتى الاجتماعي الأرفع من سابقه. بعد انتفاضة 2011، ظهر الجيل الثالث من المقاتلين: خليط عجيب يصعب وضعه في سلة واحدة. لم يعد بالإمكان تحديد "بروفيل" مثالي للجهادي التونسي. اليوم نجد مهندسين وأطباء ومغني راب ومساجين سابقين وعاطلين عن العمل، يحاربون جنبا إلى جنب تحت راية "الدولة الإسلامية". لكي ندرك مدى صعوبة فهم "المشهد" الجهادي التونسي، سنورد بعض الأرقام التي حملتها دراسة لـ"المركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب" ونُشرت في تشرين الأول/ أكتوبر 2016 تحت عنوان "الإرهاب في تونس من خلال الملفات القضائية"*. الباحثون اعتمدوا على بيانات قرابة ألف شخص متورطين في قضايا إرهابية. وحسب الدراسة، فإن أكثر من 40 في المئة من المتهمين لهم مستوى تعليمي جامعي، والنسبة نفسها تقريباً لهم مستوى تعليمي ثانوي. بالنسبة للشرائح العمرية، فإن فئة 25 -29 سنة تتصدر المشهد بنسبة تفوق 28 في المئة، تليها فئة 30 - 34 سنة بنسبة 25 في المئة، ثم فئة 18-24 سنة بنسبة 22 في المئة. وبطبيعة الأمر، تتناقص النسب كلما كان الجهاديون أكبر سناً. قرابة 90 في المئة ممن شملتهم الدراسة لديهم عمل: عمال وفلاحون، مهن حرة، حرفيون، أساتذة، موظفون في القطاعين العام والخاص، أمنيون، إطارات سامية. لكن نسبة العمال البسطاء تبقى الأرفع فهي تناهز45 في المئة من مجمل العينات، و8.8 في المئة من المتهمين ينتمون إلى شريحة التلاميذ والطلبة. والنسبة "الأطرف" هي تلك التي تتعلق برجال الدين، فتواجدهم في صفوف الحركات الجهادية لا يتجاوز 0.85 في المئة. الأحياء الشعبية المحيطة بتونس العاصمة هي الخزان الأول للجهاديين بنسبة 32 في المئة، وتليها ولاية سيدي بوزيد (مهد الانتفاضة التونسية) بنسبة 14.4 في المئة. حتى في ما يتعلق بوسائل الاستقطاب والتأثير فهناك تنوع كبير: الكتب أولاً بنسبة 46.34 في المئة، ثم الأشخاص بنسبة 37 في المئة يليهم الإنترنت بنسبة 11.11 في المئة ووسائل الإعلام التقليدية بنسبة 3 في المئة.
قرابة 90 في المئة ممن شملتهم دراسة عن تركيبة "الإرهابيين" داخل تونس هم عمال وفلاحين وحرفيين وموظفين في القطاعين العام والخاص. وتبقى النسبة الأعلى من بينهم للعمال البسطاء: 45 في المئة. وأما النسبة "الأطرف" فهي التي تتعلق برجال الدين: 0.85 في المئة
هذه الأرقام لا تمكن من رسم ملامح "الإرهابي التونسي" بدقة، ولئن كانت تبين أن جزءاً كبيراً من المنضمين للجماعات الإرهابية هم شباب ينحدرون من مناطق وطبقات فقيرة. لكن هذا المعطى لم يعد محدِّداً. صحيح أنّ هناك الكثير ممن يدفعهم اليأس والفقر إلى الجماعات الجهادية، لكن الكثيرين لهم زوجات وأبناء وأعمال وشهادات جامعية وحتى ثروات. العوامل العقدية والعقائدية تبقى هي الأكثر تأثيراً، خصوصاً مع رصد إمكانيات مادية كبيرة للدعاية والتجييش. تأثير الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي أصبح أيضا مهماً جداً وما انفك يتعاظم.
ختاما
قد يعود الجهاديون التونسيون وقد لا يعودون. الجدل متواصل إلى حد اليوم، على الرغم من أننا لم نسمع عن أحد عبر عن رغبته بالعودة. وبكل الأحوال، قضية الإرهاب في تونس متشعبة جداً وهي ليست قابلة للحسم أمنياً. ويتعلق الأمر بظاهرة عابرة للبلدان والقارات، ولا يمكن معالجتها محلياً فقط. من الصعب اليوم فهم الدوافع التي تجعل من شاب عادي سيّافاً في داعش، ومن قصر النظر حصر الظاهرة بطبقة اجتماعية بعينها. ربما نحن نعيش زمن "وحوش" غرامشي.. تلك التي تولد ما بين العتمة و الضوء!
• الأرقام مأخوذة من موقع انكيفادا للصحافة الاستقصائية الذي قدم تقريرا عن الدراسة.