لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها.. ولكنّ أحلام الرجال تضيق" (عمرو بن الأهتم السعدي)
ما يزال "البابور"، وهو المرادف اللغوي للقارب أو السفينة باللغة العامية التونسيّة، يمثّل حلماً لعشرات الآلاف من الشباب التونسي الذّي ضاق به وطنه، لتتحوّل الهجرة إلى هاجس يومي وملاذ وحيد من البطالة والتهميش وانعدام معالم واضحة للمستقبل. "البابور"، على الرغم من الثورة التّي مثّلت لوهلة بارقة أمل ومنعطفاً حاسماً في تاريخ البلاد، احتفظ بمكانته في المخيال الشعبي، حاضراً بقوة في أحاديث الشباب وأغانيهم وأحزانهم كلّما سلّم دفعة منهم إلى البحر قربانا. وقد عزز تفاقم الأزمة الاقتصادية طيلة السنوات الستّ السابقة وسقوط الوعود بالتغيير التي قطعتها مختلف الحكومات المتعاقبة هاجس الهروب من البلاد وصورة الهجرة كحلّ مثالي للشباب.
وطن يضيق بأهله
وصل عدد المغتربين التونسيين في مختلف دول العالم إلى المليون و200 ألف شخص، بحسب الإحصائيات التي أصدرها "ديوان التونسيّين في الخارج" لعام 2014، أي ما يناهز عُشر سكّان البلاد. نتائج دراسة أصدرها "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" بالتعاون مع مؤسسة "روزا لكسمبورغ" حول "الشباب والهجرة غير النظامية في تونس تحت عنوان "دراسة ميدانية للتمثلات الاجتماعية والممارسات والانتظارات"، كانت صادمة، إذ أشارت إلى أنّ 45 في المئة من الشباب التونسي بالهجرة ويسعى إليها حتى ولو كانت هجرة غير نظامية أو غير شرعية. كما تشير دراسة سابقة أصدرها "المنتدى" ذاته في 2013، إلى أنّ ما يزيد عن 25 ألف شاب حاولوا الوصول خلسة إلى الضفّة الشمالية للقارة الأوروبية خلال السنتين اللتين أعقبتا الثورة.
15.5 في المئة نسبة البطالة في تونس، ويتجاوز معدّل الفقر 50 في المئة في الجهات الأكثر تهميشاً على غرار محافظتي القصرين وسيدي بوزيد، بينما يقارب 15 في المئة في مدن الساحل والعاصمة
هاجس "الهرب" من الواقع الاقتصادي والسياسي في تونس، يتجاوز نظريات الإفتتان بالغرب أو ما تذهب إليه بعض الدعايات الحكومية من إلقاء اللوم على الشباب التونسي "الكسول" أو الباحث عن الحلول السهلة. فالإقبال على امتطاء قوارب الموت دوافعه أكبر واشد عمقاً من هذه الردود.
تقاطع الأرقام يشرح الدوافع
تكشف الدراسة الأخيرة حول هجرة الشباب التونسي أنّ 70 في المئة من الشباب الباحث عن الهجرة هم من العاطلين عن العمل، أو بصدد البحث عن مورد رزق، وأنّ 20 في المئة منهم هم من أصحاب الشهادات الجامعيّة. وتتضح الصورة إذا ربطت هذه المعطيات بالمؤشّرات الاقتصاديّة المختلفة التّي تعكس تواصل حالة التدهور الاقتصاديّ واستمرار ثنائيّة تطوّر العجز وتراجع النمو.
تراجَع النموّ الاقتصاديّ 0.3 في المئة في 2016 ولم يتمكّن الدينار التونسي من تجاوز أزمته المتواصلة منذ أكثر من أربع سنوات، والتي فقد خلالها قرابة 20 في المئة من قيمته أمام الدولار، أمّا البطالة فتفاقمت لتصير 15.5 في المئة عام 2016، مقترنة بتواصل ارتفاع مؤشّر الفقر التّي تجاوزت نسبة 50 في المئة في الجهات الأكثر تهميشاً على غرار محافظتي القصرين وسيدي بوزيد، في حين قارب عتبة 15 في المئة في مدن الساحل والعاصمة التي تعتبر الأكثر حظّاً على الصعيد التنموي. مناخ اقتصاديّ خانق، واجهته الحكومات المختلفة بإقرار التخفيض في دعم المحروقات والمواد الأساسيّة بقرابة 300 مليون دولار، في إجراء عمّق من المعاناة المعيشيّة للفئات الأكثر هشاشة. بل وذهبت الحكومة الحالية على إقرار تجميد التوظيف في القطاع العام للسنوات الأربع المقبلة، بما يعكس سير الدولة للاستقالة من دورها الاقتصادي. قرار مثّل لآلاف الشباب التونسي عاملا إضافيا محفّزا على الهروب من وطن يصّر على نبذ شبابه.
مثلّث الإحباط والتهميش والإقصاء
النزيف البشري المتواصل من شباب تونس يعرّي الأزمة الحقيقيّة التي يتعامى عنها السياسيّون والمحلّلون، وهي تتلخّص في عجز البلاد وحكوماتها عن خلق الأمل أو وضع تصوّر للمستقبل، وهو ما يجعل الشباب عالقا في مثلّث من الإحباط والتهميش والإقصاء.
بعد ستّ سنوات من الثورة، ما يزال الحراك الاجتماعي والاحتجاجات الشبابيّة تُقابَل بالهراوات والغاز المسيّل للدموع، في مدن الظلّ والتهميش التّي تصرّ الحكومات المختلفة على إطالة معاناة أهلها بالتجاهل والصمم
وعلى الرغم من انقشاع حالة القمع و"الانقماع" التي لازمت شريحة واسعة من المجتمع التونسي طيلة السنوات التّي تلت الاستقلال، في ظلّ سلطة مركزّية مارست شتّى الحيل لتزييف الواقع وفرض خياراتها السياسية والاقتصاديّة ووأد كلّ أشكال الاحتجاج.. إلاّ انّ المرحلة اللاحقة عقب ثورة كانون الثاني / يناير 2011، لم تستطع أن تقدّم البدائل أو أن تغيّر من الواقع المعيشي للمواطنين نظراً لانخراط الطبقة السياسية الجديدة في صراعات حادت عن أهداف ثورة كان الشباب قادحها ووقودها.
طيلة ستّ سنوات، وفي ظلّ ستّ حكومات متعاقبة، خاضت الساحة السياسيّة شتّى أنواع الجدالات، بدأ من الهويّة والسياسات الخارجيّة والمحاصصات الحزبية.. وصولا إلى مراجعة القوانين الجنائيّة والجزائيّة. إلاّ أنّها لم تطرح نقاشات جديّة حول مطالب الشباب أو تفتح حواراً فعلياً مع ممثّليه، عدا حوارات الفنادق الفخمة المندرجة في إطار التسويق الإعلامي لحكومة أو أخرى، أو عمليات التدخّل السريع عند اشتداد وطأة الاحتجاجات الشبابيّة ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي.
على أرض الواقع، وبعد ستّ سنوات من الثورة، لا يجد الشباب غير البحر أو الحدود البريّة للهروب من جحيم البطالة التّي يكرّسها إصرار الحكومات المتعاقبة على انتهاج السياسات الاقتصاديّة والتنموية نفسها. وبعد ستّ سنوات من الثورة، يتطلّع الشباب التونسيّ إلى مشهد سياسيّ يصنعه شيوخ تجاوزتهم الأحداث والمفاهيم، ولم يتمكّنوا بعد من فهم أحلام هؤلاء الشباب وطموحاتهم. وبعد ستّ سنوات من الثورة، ما يزال الحراك الاجتماعي والاحتجاجات الشبابيّة تُقابَل بالهراوات والغاز المسيّل للدموع، في مدن الظلّ والتهميش التّي تصرّ الحكومات المختلفة على إطالة معاناة أهلها بالتجاهل والصمم.
مشكلة نفور الشباب التونسيّ من بلاده والهجرة نحو "الفردوس الأوروبيّ" أو نحو "جنّة" موعودة في بلاد الشام والعراق، مشروطة بسفك الدمّ، خيارات لم يجد الشباب التونسيّ غيرها في ساحة سياسية وثقافيّة وإعلاميّة ما تزال تجترّ إرث الماضي وتستحضر أرواح الموتى لصنع مستقبل غريب عن رؤى هؤلاء وأحلامهم.