قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء باسم "الشرف"، ميراث المرأة.. ورصدتُّ كيف أن هذه المجتمعات نفسها تُهدر فيما بينها قيماً وأخلاقيات وحقوقاً أساسية، بما يُناقض الصورة الذهنية الشائعة عن أهل الصعيد
2024-02-04

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
الترعة في القرية

أكثر من 95 في المئة من نساء محافظتي "قنا" و"سوهاج" لم يحصلن على ميراثهن إحصائية واردة في إحدى الدراسات الأكاديمية أجرتها د. سلوى المهدي[1]. وظاهرة حرمان المرأة من ميراثها لا تقتصر على محافظات الصعيد بل تشمل الوجه البحري أيضاً[2].

وقد تحدّثتُ مع عدد من النساء بريف محافظة قنا جنوب مصر من أجيال مختلفة:

تقول إحداهن وهي سيدة ثلاثينية: "الأساس الحرمان من الميراث.. حتى لو خَدَت ما تاخدش كُلّه.. إخواتها بيدّوا رُبع اللي ليها أو نُص اللي ليها.. ما بيدّوش في بيت، يدّوا في زَرْع (أرض زراعية).. هي بتستسلم أو تفضّل العلاقة الأخوية".

وتقول أخرى ستينية (4 إناث وذكر وحيد) إن والدها ترك لهم 35 قيراطاً، وبعد حوالي 8 سنوات من وفاته أعطاهن أخوهن "كل واحدة 35 ألف جنيه وعلى كده.. نعملوا مشكلة مع أخويا مفيش غيره؟!" وعندما سألتُها هل كانت تأخذ إيجاراً طوال هذه السنوات: "ولا حاجة، لكن كل عيد يجيب لنا لحمة وخضار".

وقالت ثالثة عشرينية إنها وأخواتها غير مهتمات بالمطالبة بإرثهن، فمساحة الأرض التي تركها والدها محدودة، وقد تزوجت وتجهّزت وأمورها "مستورة" بينما إخوتها الذكور لم يتزوجوا بعد وليس لديهم دخل كبير أو ثابت "بلا أرض بلا هِني.. الأرض بتجيب مشاكل.. أهم حاجة نكونوا زانين (علاقتنا جيدة) مع بعض.. المرأة اللي بتطالب بميراثها بتتكره".

وحكت امرأة أخرى ثلاثينية عن والدتها وخالاتها وهن غير متعلمات بخلاف شقيقيْهن وأحدهما مدرّس "كل واحدة المفروض ليها 4 قراريط ماخدوش غير قيراط ونص.. خالي أخده منها (القيراط) ب 3 آلاف جنيه.. عملَتْ مشكلة معاه خلى لها القيراط ب4 آلاف، وكان ثمنه وقتها حوالي 15 ألف جنيه"..

أمّا "هدية"* - الأرملة السبعينية - فقد روت قصتها بقدر أكبر من التفصيل، وتابعتُ بعض أجزائها خلال زيارتي.

"هديّة"[3] ابنة وحيدة وسط أربعة ذكور جميعهم - باسثناء واحد - يكبرونها. ورثت عن أبيها حوالي أربعة قراريط، كانت في حوزة شقيقها الأكبر تأخذ إيجارها منه "دون أن تناقش في قيمته" في زيارتها السنوية للقرية التي غادرتها عند الزواج، ثم من أرملته بعد وفاته.

وعلى الرغم من وفاة والدها منذ أواخر الثمانينيات، لم تُعطَ هذا الإيجار إلا مع نهاية التسعينيات، وذلك بعد خلاف ثار بين هذا الشقيق الأكبر وشقيق آخر على الأرض التي كانا يتشاركان زراعتها وريعَها من وقت حياة الأب لما بعد وفاته.

ولفضّ النزاع الذي رأى كلّ طرف فيه أنه مظلوم من الآخر، عُقدت جلسة عرفية كُتب خلالها محضر تقسيم يخرج بموجبه أصغرُهما بنصيبه، وظلّت بقية الأرض في حوزة الشقيق الأكبر: نصيبه، ونصيبا الشقيقين الآخريْن (أحدهما كان مسافراً الى الخليج وقتها ثم تسلّم أرضه بسهولة بعد عودته، والآخر يعيش في المدينة ويأخذ الإيجار)، بالإضافة إلى نصيب "هديّة".

محضر "رجالي" قاصر

لم تحضر "هدية" ولا أمّها التي كانت لا تزال على قيد الحياة هذا المجلس العُرفي، على الرغم من وجودها في القرية في ذلك الوقت، فقد اقتصر على الرجال، كما لم يتم اعتبار نصيب الأم، ولها شرعا ثُمن التركة، بل قسّمت الأنصبة على عدد الأبناء فقط.

وقد تضمّن هذا المحضر الذي اطلّعتُ على نسخة منه (ويُعتبر الوثيقة المكتوبة الوحيدة التي كانت متاحة للأرض الموروثة، ولولا الخلاف بين الشقيقين ما كانت لتوجد أصلاً) على حصر تلك الأرض - وهي أرض زراعية مساحتها تتجاوز الفدان ونصف - وأماكن توزّعها. ويختلف سعر الأرض باختلاف المكان ويمكن أن يصل فارق الأسعار لمقادير مضاعفة، فهناك أرض مبان، وأرض على الطريق أو داخلية، وأخرى على النيل، وأرض في منطقة ذات خصوبة عالية أو منخفضة..إلخ.

ولكنه لم يتضمّن تحديد نصيب كل فرد من الورثة ومكان أرضه، بل فقط نصيب الشقيق المذكور آنفاً. وهو ما جعل الأمور غير محسومة والخلاف قابلاً لأن يتجدد مرة أخرى.. ذلك المحضر الناتج عن اجتماع "رجالي" خالص، والرجال وحدهم - حسب فكر موجود في تلك المجتمعات حتى لدى متعلمين وحاصلين على مؤهلات عليا - هم أصحاب الرأي والقرار، أما النساء فسفيهات جديرات بالاستبعاد..

تقول "هديّة" إنه بعد نهاية ذاك المجلس العُرفي، أخبرها شقيقها الأصغر شفهيّاً أن نصيبها الذي اتفقوا عليه هو الواقع في منطقة معينة (ضمن أراضي الميراث ذات القيمة المرتفعة). كلمة شقيقها الشفهية تلك كانت كل ما لديها، دون أية أوراق تُثبت ملكية، رسمية أو عرفية.

أرضُكِ في أرخص الأراضي

لكن بعد سنوات، عندما بدأت تطالب بأرضها لتبيعها، كان الرد من أرملة شقيقها التي كان لها السيطرة والقرار، ومن أبنائه، سواء الذكور أو الإناث (وتتراوح أعمارهم بين الأربعينيات والخمسينيات) بأن نصيبها إنما يقع في منطقة هي أرخص الأراضي على الإطلاق، "هم ياخدوا كلّ الأرض الكويسة وأنا آخد أي كلام" - تُعلّق "هديّة".

وقد ادّعوا - بخلاف الحقيقة - بأن الأرض التي تطالب بها "هدية"، التي يعادل إيجارها السنوي على الأقل خمسة أضعاف الإيجار الذي كانت تتقاضاه منهم، هي أرض اشتراها زوجها/أبوهم وليست ضمن الميراث، أو أنها مرهونة حاليّاً كي تقبل بغيرها، مع المماطلة في إظهار عقد الملكية، وهو طبعا باسم والد "هدية".

وتعلِّق رائدة (شابّة ريفية في القرية) بالقول إن الأفضل للمرأة أن تؤجّر أرضها لمستأجر ثقة من غير إخوتها "التعامل مع الغريب أحسن من القرايب"، فعندما يستأجرها الإخوة وتظل في حوزتهم لسنوات طويلة يعتبرون أنفسهم قد امتلكوها، ممّا يصعِّب عليها أن تطالب بها أو تأخذها فيما بعد.وحتى هذه الأرض الرخيصة التي يريدون أن يجعلوها لـ"هدية" بينما يحتكرون هم الأراضي في المناطق مرتفعة الثمن، لم يكن لديهم الاستعداد لشرائها منها على الرغم من أنهم هم القائمون على زراعتها منذ سنين، فالاستفادة شبه المجانية حيث دفع إيجار سنوي محدود مرحّب بها، ولكن الشراء بآلاف وحتى وإن كانت قليلة مزهود فيه.

خذلان وتطاول ولَغَط

لجأت "هدية" للأشقّاء الآخرين وكانت تنتظر منهم الوقوف معها، في الاجتماع في جلسة عُرفية مثلاً للوصول إلى حلّ، ولكنهم تهرّبوا أو لم يهتموا أو حتى كانوا ضدها، ومنهم من قام بتعنيفها لفظيّاً بقسوة باعتبار أنها سبّبت مشكلات (استبعاد المرأة من النقاش والقرار وفي الوقت نفسه تحميلها مسئولية أية مشكلة أو نزاع!)..

ومع غياب "كبير عائلة" صارت الساحة مفتوحة لتدخّلات أشخاص من العائلة أو من خارجها، لم يكن أحد منهم مهتمّاً بإنصاف المرأة صاحبة الحق أو حتى لديه الكفاءة لإدارة الأمور من الأجيال الأصغر.. ووجدت نفسها تتعرض لتطاول لفظي، وترهيب نفسي بتحميلها مسئولية أن يتصارع أبناء أشقائها بتجديد خلافات قديمة بينهم على الأرض إن لم تقبل بما يريدون..

وكثر اللغط بدلاً من الحوار، وترديد كلام من قبيل أن العُرف أن ترث المرأة في أقل الأراضي، أو أن المرأة عليها أن ترضى بأي شيء يُعطى إليها لا أن تطالب بشيء معين.. أو أن الرجال هم من يتعبون في الأرض ومن ثم فهم الأجدر بها..

"هم تعبوا في الأرض وأنا تعبت في البيت"

تقول "هديّة" إن ميراثها حقُّها بغض النظر عن قدر مجهودها مقارنة بإخوتها الذكور الذين كانوا يعملون في الأرض "دي وِرث، ربّنا محلّله، مالهوش دعوة". ومع ذلك تؤكد أنه حتى إذا قِسناها بالتعب والجهد فقد بذلتْ هي مجهوداً كبيراً داخل البيت في مهام عديدة كانت ملقاة على عاتقها "أنا تعبت أكتر منهم في البيت.. هم تعبوا في الحرَجة (الحقول) وأنا تعبت في البيت"، معدّدة ما كانت تقوم به على مدار اليوم، منذ الصباح الباكر حتى المغيب: رعاية الماشية من تحضير ووضع طعامها ونقل المياه لسقياها سواء من بيت آخر للأسرة أو بئر مجاور أو صنبور عمومي.. ومشاركة والدتها في إعداد الطعام وغيره من الأعمال المنزلية التي كانت وقتها تُؤدَّى يدويّاً.. بالإضافة إلى قيامها أحياناً برعي الغنم وأعمال تخزين المحاصيل في المنزل بعد حصادها كالقمح والبصل.. كذلك تشير إلى أن أباها ظل يعمل حتى أواخر عمره على الرغم من بعض أمراض الشيخوخة، سواء في الحقل أو في الذهاب لبيع المحاصيل في سوق المركز..أي أنه هو صانع الثروة وليس إخوتها الذين اشتروا بدورهم أراضيَ بأسمائهم.

ميراث القُصّر

يقول أحد أهالي القرية - وكان يعمل موظّفا في مكتب الخبراء بمحكمة نجع حمادي - إن أكثر قضايا الميراث التي تردهم هي المتعلقة بميراث القُصّر "عمامهم بياكلوهم"، وإن الحالات التي قابلها خلال عمله عكست معاناة أمّهات هؤلاء القصّر مع أهل الزوج سواء فيما يتعلق بإرثها أو إرث أبنائها أو بوصايتها عليهم إن أرادت الزواج أو كانت مطلّقة قبل الوفاة. ويرى أن أصل المشكلة عدم حصر التركة بعد وفاة المورّث مباشرة، وبمرور الزمن يظن أبناء الأعمام أن الأرض التي اعتادوا رؤية آباءهم يعملون فيها هي مِلك خاص لهم من بعدهم. وقال إن الحلول العرفية عادة ما تؤدي لظلم هؤلاء القُصّر، وإن رفع دعوى قضائية - في نظره - أفضل.

القانون

ولكن المسار القضائي - كما يقول المحامي بالقرية عبد الناصر سعيد - طويل الأمد ومن ثم مرهِق ومكلّف بالنسبة للمرأة التي تريد الحصول على ميراثها. فقد تستمر القضية في المحكمة لعشر سنوات، ما بين درجات التقاضي والإحالة للخبراء..إلخ تُحرم المرأة خلالها كذلك من ريع أرضها. وحتى في حالة صدور حكم لصالحها تواجه عقبات عند التنفيذ الفعلي وتمكينها من أرضها. كما أن رفعها دعوى يتطلب أن يكون لديها مستندات مِلكية، فالقانون يضع عبء إثبات الملكية على رافع الدعوى، وعادة ما تكون هذه المستندات في أيدي الإخوة الذكور، يستحوذون عليها مثلما أنهم يستحوذون على الأرض.

وفي عام 2017 جرى تعديل بعض أحكام قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943 بإضافة المادة 49 في باب العقوبات، وتنصّ فقرتها الرئيسية على أن".. يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مئة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من امتنع عمداً عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث، أو حجب سنداً يؤكد نصيباً للورث، أو امتنع عن تسليم ذلك السند حال طلبه من أي من الورثة الشرعيين".

إلا أنه لا يبدو أن هذا التعديل قد حلّ المشكلة، إذ يرى سعيد أنه حتى مع إقرار هذا القانون، تظل العقبات المعتادة كطول مدة التقاضي وعبء إثبات الملكية وصعوبة التنفيذ الفعلي للحكم قائمة. ويقول إن هذا التعديل لم يؤدّ لتيسير الإجراءات على المرأة الشاكية للوصول إلى حقّها ويفتقد للتفصيل أو التفسير اللازم خاصة في الجزء المتعلق بإثبات الملكية. ويقترح سعيد أن يحرص المورِّث على حصر تركته كتابةً قبل وفاته، ويمكن أن يقسّمها على ورثته في حياته ويعطي لكل منهم ورق ملكية نصيبه.

بالنسبة لـ"هديّة" لم يكن اللجوء للقانون خياراً مطروحاً من الأصل، فهي تبدو حريصة – على الرغم من كل شيء - على العلاقات الودية بينها وبين أبناء شقيقها "ما ينفعش.. عيال أخويا ما أشتيكهمش.. عمرها ما تحصل".

أخيرا! عقد باسمها – لغة القوة

وفي مجتمع تسود فيه لغة القوة -التي لم تكن "هدية" تملك أيّاً من أدواتها- لا القانون أو مراعاة القيم، لم يكن من المتوقع أن تتم الاستجابة لها. وتحكي "هدية" الكثير من التفاصيل مُلخّصها أن أطرافاً أخرى من دوائر قرابتها (من أبناء الشقيق الآخر) تدخّلوا حيث أرادوا دعمها كامرأة وحيدة ومساعدتها للحصول على ميراثها[4]، وبتدخلّهم وضعوا حدّاً للمماطلة والتجاهل وتمكّنوا من فرض أمر واقع.. ويلجأ الناس عادة في تلك المجتمعات من أجل استخلاص الأراضي التي عليها خلاف للتهديد بإيقاف الري أو إتلاف المحصول أو التلويح بالسلاح..إلخ.

بعد أسابيع صعبة مرّت على "هدية" في القرية عانت فيها - وهي المرأة المسنّة - ضغطاً عصبياً ونفسياً كبيراً سبّب لها الأرق والدموع.. تمكنت أخيراً - ومع وجود وسيط محام- من كتابة عقد إيجار لقراريطها منها لمستأجرها (وكان من خارج العائلة)، لتمتلك أول وثيقة لأرضها.

كان هذا ببساطة ما طالبت به "هدية" منذ البداية. تَحقّق أخيراً - وهذا من حُسن الحظ الذي قد لا يتوافر للأخريات - لكن بعد عناء و"صدمة" في ردود فعل أقارب كانت تحرص على وُدهم، وقد قاطعها بعضهم لاحقاً.

مؤخراً تمكّنت "هدية" من بيع أرضها بسعر مرتفع، وهي سعيدة لذلك، ولا يزال يتبقى لها على كامل ميراثها قيراط ورُبع في أرض أخرى أٌقل قيمة، كما أنها لم تأخذ نصيبها من تركة أبيها في الماشية، ولا في البُيوت وعددها ثلاثة توزّعت على الأبناء الذكور ليبني الأحفاد عليها طوابق إضافية.

الصعيد بين زيارتين

مثّل الصعيد بالنسبة لي مجتمعاً مغرياً للبحث، ليس فقط لاختلافه وخصوصية بعض مشكلاته أو كونه لا يحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية، ولكن أيضاً لِما توفّر لي فيه من هامش لحريّة الحركة في الميدان، ودخول فريد للمجتمع المحلي، في ظل التضييقات التي باتت تواجهها الصحافة والبحث حاليّاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عملي الميداني ركّز على قرية واحدة وتعمّق في مشكلاتها - التي تتشابه وتتكرر إلى حد بعيد في غيرها من القرى - وفي أحيان قليلة تَوسّع لقرى مجاورة.. ولم يشمل مدى جغرافيّاً واسعاً. أمّا مكتبياً فكان مجال البحث محافظات الصعيد بوجه عام.

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء باسم "الشرف"، ميراث المرأة.. ورصدتُّ كيف أن هذه المجتمعات نفسها تُهدر فيما بينها قيماً وأخلاقيات وحقوقا ًأساسية، بما يُناقض الصورة الذهنية الشائعة لأهل الصعيد. فصفات مثل الشهامة والمروءة أو الالتزام بالأصول.. من المفترض أن يحرص أصحابها على تقدير ومراعاة النساء والأيتام والأكبر سنّاً.. والفئات الضعيفة عموماً، بينما ما يحدث في الواقع هو العكس. وبخلاف العلاقات الإنسانية القويّة وصور التضامن الاجتماعي التي أسمع أنها كانت موجودة قديماً، يمكن أن تجد حالياً قطيعة أو علاقات غير ودية بين أقارب وجيران. ويؤدي الفراغ وعدم مراعاة الخصوصية في القرى لأن يقضي الناس أوقاتهم في القيل والقال ونقل الكلام ومتابعة أحوال غيرهم أو التدخل في شئون بعضهم البعض. تغيَّرَ الصعيد كذلك بالاتجاه إلى المنتجات الغذائية المصنّعة وليس المُنتَجة بيتيّاً التي كانت تُحدث نوعاً من الاكتفاء الذاتي داخل كل بيت، فاللبن والأجبان من الدكّان أو "السوبر ماركت"، والسمن الصناعي بدلا من السمن البلدي.. مع انخفاض إنتاج الماشية المربّاة مقارنة بالماضي..

على مستوى الدولة لا نجدها حاسمة في مواجهة تلك العادات والتقاليد التي تنتهك حقوق المرأة والقانون، حيث غضّ الطرف أو ربما عدم الرغبة في التصادم مع المجتمع (كما في حالة الختان مثلاً المستمر حدوثه على نطاق واسع على الرغم من التجريم القانوني وتشديد العقوبات)، أو اتخاذ خطوات غير كافية لإنصاف النساء (كما في حالة تعديلات قانون الميراث)، أو ربما التواطؤ (كما عبّر الأهالي في جرائم الشرف التي "يتواطأ الجميع على إماتة القصة" فيها كي تمر دون حساب).

الختام وأجمل الأيام: نزهة صيد صباحية بصحبة "أحمد" ورفاقه

أحمد أثناء الصيد

في صباح أحد أيّامي في القرية جاء "أحمد" (8 سنوات) يدعوني لاصطحابه في رحلة صيد. كان يحمل سنّارته التي صنعها بنفسه: عصا خشبية طويلة يتدلى من أحد طرفيها خيط. وكان يُمسك في كفّه قطعة من العجين يستخدمها كطُعم للأسماك، حيث يقتطع منها في كل مرة جزءاً ويثبّته في نهاية الخيط قبل أن يقذف به في الماء ليجذب السمك.

لم أتحمّس كثيراً لهذه الدعوة المفاجئة، فالوقت ضيّق ويمكنني استغلال اليوم في أعمال أخرى ظننتُها أكثر أهمية. لكني لبّيت دعوته. وانطلقنا حتى وصلنا إلى الحقول الواقعة على مسافة من البيوت، ثم سرنا وسطها حتى وصلنا الى "المشروع"، وهو الاسم الذي يطلقه الناس هنا على القنوات المائية المخصصة للريّ.

ما إن بدأ "أحمد" يلقي سنارته حتى انضم إلينا أطفال آخرون من البيوت المحيطة.. "ريتاج" وطفل آخر معها، و"همّام" و"رويدا" من الناحية المقابلة ل"المشروع"، ومع كل سمكة تخرج بالسنّارة ترتفع الأصوات بالاحتفاء. أذكر "همام" وهو يهلّل ويرفع يديه. كنا نعيدها للماء مرة أخرى لصِغَرِها، باستثناء واحدة أطعمتها "رويدا" لقطّتها.

قنوات المياه هناك تعاني من التلوث، فمع عدم وجود جهة تقوم على جمع القمامة في القرية يتخلص الأهالي من مخلفاتهم بتجميعها ثم إشعال النار فيها في الطريق أو داخل الأفران الطينية المستخدمة للخبيز بالبيوت، أو بإلقائها مباشرة في "المشروع" بما في ذلك الطيور والحيوانات النافقة أو المياه المتخلفة عن الاستخدامات المنزلية كالغسيل وغيره، مما يلوّث المياه المستخدمة في الريّ ويؤثر على المحاصيل (والأسماك بطبيعة الحال) ويؤدي لانتشار الحشرات والقوارض. وقال أحد أهالي القرية إن وزارة الري تقوم على فترات متباعدة بتطهير القنوات عن طريق "كَرّاكة" لكنها تترك المخلفات المستخرجة على ضفتي "المشروع" مما يدفع الناس لزحزحتها إلى المياه مرة أخرى "فلوس دولة مهدورة في الهوا"، أو يستأجرون على حسابهم "قلّاب ولودر" لنقلها إلى مكان آخر بعيد عن بيوتهم.

كان "همّام" و"رويدا" في غاية السعادة وهما يتسلقان أمامي شجرة من الأشجار المطلة على "المشروع"، وقد صعدا لأعلاها برشاقة ومرح. لا أعرف إن كانت هذه الأشجار لا تزال قائمة أم تمّ قطعها في إطار مشروع "تبطين الترع" في القرى (الذي اعترفتْ الحكومة نفسها لاحقاً بسلبياته وأنه في حاجة لإعادة تقييم، بعد تخصيص مليارات الجنيهات لتنفيذه وبعد دعاية إعلامية عريضة للترويج له).

لقد منحني "أحمد" ورفاقه وقتاً مليئاً بالبهجة، كان اليوم بصحبتهم أحد أجمل الأيام التي قضيتُها بالقرية في هذه الزيارة، إن لم يكن أجملَها على الإطلاق.

______________________

تصوير: منى علي علاّم

______________________

*اسم مستعار

______________________

  1. قسم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة جنوب الوادي https://www.elwatannews.com/news/details/2531775
  2. دراسة عن حرمان المرأة من الميراث في إحدى قرى بنها في محافظة القليوبية https://jfab.journals.ekb.eg/article_55249_9ae0dbe496521921802c0a57f9e96896.pdf
  3. لدى "هدية" أكثر من "عامل ضعف" خاصة في ثقافة تلك المجتمعات: فهي بلا زوج، ولا أبناء ذكور، وهي مسنّة، وغير متعلمة.
    ويمكن أن تلعب شخصية المرأة نفسها دوراً في مدى نجاحها في الحصول على ميراثها.
  4. وعلى خلفية الخلافات القديمة على الأرض بين الأسرتين.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...

"يعودُ في العَشيّة أبي من العمل"

استحضار لذكريات مرتبطة بعمل والد الكاتبة لعقود في شركة "ستيا" للنسيج في الاسكندرية، التي أُغلقت منذ زمن، وأهُملت مبانيها حتى نهبها بائعو "الخردة"، وبدأ الآن هدمها. تحية الى العمال بمناسبة...