الصعيد المصري: سؤال الصحة

منظومة طبية متداعية ومهملة بالصعيد المصري تراكِم الضحايا. نقص حاد في عدد المستشفيات (البعيدة أصلاً عن القرى)، كما في أطباء "الوحدات الصحية" في القرى وأما التجهيزات فغائبة أو فمتهالِكة
2017-01-29

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
فاتح المدرّس - سوريا

على سرير الكشف، جلس الرجل المسن الذي أتى به أبناؤه للتو إلى الوحدة الصحية لإسعافه من ضيق شديد في التنفس أصابه. ظل صدره يتحرك صعوداً وهبوطاً وهو يحاول بصعوبة بالغة التقاط أنفاسه. كان أقصى ما تستطيع الوحدة أن تفعله له هو تركيب جهاز لتوسيع الشعب الهوائية، فأسطوانة الأكسجين فارغة منذ فترة لعدم توافر ميزانية لمصاريف نقلها إلى المدينة لملئها (تبلغ تكلفة النقل 100 جنيه). كان على الأبناء أن يصطحبوا أباهم بسرعة في سيارة يؤجرونها (إذ لا توجد سيارة إسعاف خاصة بالوحدة لنقل المرضى في حالة حرجة كهذه) إلى مستشفى "نجع حمادي" (على بعد حوالي 40 دقيقة في الظروف العادية)، حتى يحصل على الإسعافات اللازمة وتُجري له الأشعة المطلوبة، خاصة أن المريض كان يعاني من آلام في الصدر، مما ينبئ بدرجة عالية من الخطورة. لن يكون نقص التجهيزات في الوحدة الصحية أو بُعد المسافة للوصول إلى المستشفى، هي المشاكل الوحيدة التي تواجه هذا المريض. فالمستشفى البعيد ــ وإن كانت إمكانياته أكبر من إمكانيات الوحدة، أو من المفترض أن تكون كذلك ــ تعتريه أوجه نقص وقصور عديدة.. يتكرر هذا المشهد كثيراً، بصور مختلفة، وأشد سوءا أحياناً، في كثير من (أم كًل؟) المؤسسات الطبية في قرى مصر، ومدنها أيضاً. ولعله من فرط تكراره أصبح شيئاً "عادياً" و"عابراً"، على الرغم مما فيه من انتهاك بالغ للحقوق الأساسية لأي إنسان.

"الوحدة الصحية" في القرية

لا تجد أحداً هنا راضياً عن الوحدة الصحية للقرية الكائنة على الطريق الرئيسي بها أو "الجسر"، سواء من الأهالي الذين لا يثقون فيها ويشتكون من عدم وجود أطباء متخصصين وعدم قدرتها حتى على إسعاف ضحايا الحوادث التي تقع بالقرب منها، أم من الأطباء العاملين فيها، الذين لا يتجاوز عددهم اثنين، أحدهما طبيب أسنان، والآخر ممارس عام (طبيب حديث التخرج غير متخصص) تسلم عمله قبل أشهر فقط.. مع أن الحد الأدنى المفترض توافره رسمياً من الأطباء لا يقل عن 4 (أحدهم يختص بمسئولية الإدارة أو "مدير الوحدة"). وهذا الأخير هو من يعمل أيضاً مديراً للوحدة. وهذا الجمع بين العمل الطبي والعمل الإداري يؤثر سلباً في الأداء على المهمتين، إذ يكون الطبيب مسئولا عن الكشف على المرضى ومتابعتهم، وعن متابعة السجلات والأنشطة التي من المفترض أن يقوم بها موظفو الوحدة، والإشراف على التطعيمات التي تتولاها الممرضة وحدها، إلى جانب واجبات دراساته العليا. وهذا بالإضافة إلى ضعف المقابل المادي (مما يدفع أطباء الوحدات في بعض الأحيان إلى استقبال المرضى بعد المواعيد الرسمية بمقابل أعلى من قيمة تذكرة الوحدة وأقل من العيادات الخاصة، بعلم وتغاض من المسئولين) وعدم تلقي هؤلاء الأطباء أي تدريب مسبق على إدارة مثل هذه الوحدات أو التعامل في بيئة مختلفة.

يقترن بهذا النقص في العنصر البشري نقص كبير في الأجهزة والأدوات الطبية الضرورية للكشف أو لإجراء التحاليل. والقليل الموجود بحالة سيئة أو متقادم. فجهاز "السونار" الموجود متهالك، والمتوفر من أجهزة المعمل (مختبر التحليل) يعمل بطرق قياس قديمة ألغيت منذ زمن، ومن ثم لا يمكن إجراء سوى تحاليل أولية. لا يوجد جهاز تعقيم. وقد اضطر أحد أطباء الوحدة لشراء جهاز على حسابه الخاص. مستوى النظافة مترد إذ لا يوجد عامل نظافة هنا. "ماعندناش عامل نظافة من سنة 2000" يقول أحد العاملين وهم يستقدمون سيدة لتقوم بالتنظيف (بالقدر الذي تحدده هي إذ لا توجد متابعة أو رقابة عليها) مقابل مبلغ زهيد يجمعونه لها من مالهم الخاص. تغلق الوحدة أبوابها في الثانية ظهرا. ولا يوجد طبيب مقيم ليلا لعدم توافر الحماية الأمنية اللازمة. وبالنسبة لهيئة التمريض، فالعدد في هذه الوحدة يعد أفضل منه في وحدات قرى أخرى.

أما فيما يتعلق بالأدوية، فالمفترض أن تتيحها صيدلية الوحدة للمرضى مدعّمة، ليحصلوا عليها بسعر أقل، ولكنها في الواقع غير متوفرة، فيضطرون لشرائها من الصيدليات الخارجية بسعر أعلى، ومنها أدوية أساسية للأطفال أو المضادات الحيوية. الكميات المتوفرة أقل كثيراً من احتياج الأهالي، فحصة الشهر قد لا تكفي ليوم واحد!
 

ما يحدث أن الندوات الصحية تسجّل على الورق فقط دون أن يكون لها وجود حقيقي على الأرض، وتسجّل أسماء المرضى المترددين على الوحدة في قائمة أسماء حضور هذه الندوات "الوهمية"

الرائدات الريفيات العاملات في الوحدة هن حلقة الوصل بين الهيئة الطبية وأهالي القرية، إذ من المفترض أن يتولين مسئولية نشر الوعي الصحي بينهم، وهي مسألة مهمة للغاية هنا في ظل انتشار الجهل والعادات الصحية الخاطئة. ولكن ما يحدث أن الندوات الصحية تسجّل على الورق فقط دون أن يكون لها وجود حقيقي على الأرض، وتسجّل أسماء المرضى المترددين على الوحدة في قائمة أسماء حضور هذه الندوات "الوهمية"، على الرغم من وجود قاعة مخصصة للندوات في الطابق العلوي للوحدة. إنها "مهارة" الموظف المصري دائما في "تستيف" الورق. يعكس هذا كيف أن البناء المادي لا تكون له قيمة ما دامت نظم الإدارة غير فعالة وظروف العمل لا تتيح للعاملين تأدية واجباتهم على الوجه المطلوب. وقد بدت لي الوحدة من الداخل بالفعل حديثة البناء أو مجدّدة من حيث الشكل، أما مضمون ما تقدمه من خدمات فشيء آخر.

والطبابة في "الخاص"

وإلى جانب الوحدة الصحية، تنتشر الصيدليات والعيادات الخاصة في القرية والقرى المجاورة، عيادات ذات أثاث بسيط بعضها لأمراض النساء وأخرى للأسنان وثالثة تحمل لافتات  تشمل أكثر من تخصص: "باطنة، أطفال، حميات"، "وهو ما يعني أن الطبيب غير متخصص في أي منها لأنها تخصصات مختلفة تماما"، تعلق إحدى الطبيبات التي تؤكد أن هذا النوع من اللافتات الذي يحمل تخصصات مختلفة موجود في المدينة (نجع حمادي) أيضاً. يثير هذا أسئلة كثيرة حول مستوى خبرة ومهارة هؤلاء الأطباء وأهليّتهم. ولعله يفسر اضطرار المرضى (القادرين) في أحيان كثيرة للسفر إلى سوهاج أو أسيوط أو حتى القاهرة أو الإسكندرية بحثا عن تخصص غير موجود وطلباً لعلاج أنجع وطبيب أكثر مهارة وقدرة على التشخيص السليم. بينما آخرون تستمر معاناتهم وتنقلهم من طبيب لآخر دون أن يحدث تحسّن في حالاتهم.

.. والبؤس كما هو في المدينة نفسها

نصل الى قصة مستشفى نجع حمادي التي تبدأ عند عدم توافر بعض التخصصات الطبية ولا تنتهي عند تردي مستوى النظافة وعجز الإمكانيات المتاحة عن تقديم خدمة طبية لائقة تستوعب جميع المرضى. يقول أحد أطباء القرية: "عملت لفترة في مستشفى نجع حمادي، ومنذ عام ونصف قررت التوقف وتقديم إجازة، لأني لن أستطيع مواصلة العمل في هذه الظروف السيئة للغاية، من مشكلات إدارية ونقص في الأدوية والمستلزمات الطبية، أو الصوت العالي من أهالي المرضى لأنهم يعلمون حجم الإهمال الموجود ويرون أنهم لن يأخذوا حقهم إلا بهذه الطريقة. وقد سبق لي العمل أيضاً في مستشفى أسوان التعليمي ووجدت الوضع نسخة كربونية. الوضع سيئ في كل المستشفيات الحكومية على مستوى الجمهورية، لكنه أشد سوءاً في محافظات الصعيد لأنها مناطق مهمّشة".

مستشفى نجع حمادي ليست في حالتها تلك استثناء بين المستشفيات الحكومية، بل هي جزء من منظومة طبية مهترئة وغير إنسانية، تتوالى أخبار ضحاياها يومياً

وكانت النيابة الإدارية قد قامت خلال الشهر الماضي  بمعاينة مقر المستشفى الكائن بقرية "بَهْجُورة" (وهو المكان الذي نُقِلَ إليه المستشفى منذ فترة)، بعد شكاوى من انتشار القمامة والروائح الكريهة. وكشفت المعاينة عن تدني مستوي النظافة بقسم الاستقبال والطوارئ وأقسام النساء والتوليد والباطنة والجراحة العامة، كذلك تعطل جهاز الأشعة العادية بالمستشفى من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بالإضافة إلى وجود بركة من مياه الصرف الصحي الطافح تقع بين مبنى المستشفى وسورها الخارجي، تؤدي الى انتشار الأوبئة داخل المكان المخصص لعلاج المرضى.. مع حالة مزرية لحمّامات المستشفى. وكل ذلك هو وفقاً لما نُشِرَ بموقع النيابة الإدارية.

مستشفى نجع حمادي ليست في حالتها تلك استثناء بين المستشفيات الحكومية، بل هي جزء من منظومة طبية مهترئة وغير إنسانية، تتوالى أخبار ضحاياها يوميا. فقد نشرت إحدى الصحف الحكومية خلال الشهر الماضي تحقيقا حول حضّانات الأطفال حديثي الولادة في المستشفيات الحكومية بالمحافظات، ومعاناة الآباء والأمهات في البحث عن مكان لأطفالهم في هذه الحضّانات. ذكر في التحقيق أن سوهاج مثلا "التي يصل تعدادها إلى 5 ملايين نسمة، لا يوجد في مستشفياتها المركزية (13 مستشفى في المراكز)، ولا في المستشفى العام بمدينة سوهاج حضّانات تنفس صناعي، ولا يوجد سوى 140 حضَانة عادية، 35 منها لا تعمل والأخرى بها مشاكل بسبب العجز في الأطباء والتمريض، فلا يكون أمام المواطن سوى الانضمام إلى قائمة انتظار طويلة بالمستشفى الجامعي الذي تتكدس به 90 في المئة من الحالات، أو الذهاب إلى حضانات المستشفيات الخاصة ذات التكلفة الباهظة التي لن يقدر عليها بالطبع معظم الآباء في محافظة تعد نسبة الفقر فيها من أعلى النسب على مستوى الجمهورية. أما القصة الأكثر مأساوية (من القصص المذكورة) فقد جاءت من الإسماعيلية حيث فقد أب أبناءه التوائم الأربعة (بعد أن فقد زوجته التي توفيت عقب الولادة) بسبب عدم وجود أماكن لهم في حضانات المستشفى الجامعي بالمدينة.

وبين مريض الضيق في التنفس الذي لا أعرف مصيره، وهذا الأب الذي فقد أسرته بالكامل، ثمة ملايين، في طول مصر وعرضها، يتألمون ويُنتَهَكون.


إحصائيات

وفقا لنتائج نتائج المسح الشامل الذي أجراه جهاز الإحصاء عام 2015 لبيان خصائص الريف المصري فإن:
69.7 في المئة من القرى بها وحدات صحية،
14.3 في المئة بها نقطة إسعاف،
6 في المئة بها مستشفى حكومي،
2.1 في المئة بها مستشفيات خاصة،
7.3 في المئة بها مستوصف تابع لجمعية أهلية،
60.2 في المئة بها عيادات طبية خاصة،
53.4 في المئة بها معامل (مختبرات) تحاليل،
51.5 في المئة بها مراكز تنظيم الأسرة
أقل من 40 في المئة بها مراكز رعاية الأمومة والطفولة
83.8 في المئة بها صيدليات خاصة

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...