"نحن لا نبرح معبر رفح".. رسائل أهل الحصار والحسرة

كيف تسمحون، والحرب داخل فلسطين تحصد الأرواح وتكوي القلوب، أن يصطف اسم مصر وإسرائيل في جملة واحدة؟ كيف تسمحون أن تسير الشاحنات المصرية 18 كيلو متراً في الصحراء لتصل إلى معبر كرم أبوسالم الإسرائيلي، فتخضع للتفتيش ثم تعود بقرار من الصهاينة، يمنحها أو لا يمنحها الإذن بالمرور؟ كيف تقبلون أن يكون كل ما مر إلى مصر هو مئات الجرحى بينما العدد الرسمي المعلن عنه قد اقترب من السبعين ألفاً أو يزيد؟
2024-01-26

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
ياسين محمد - مصر

نحن أهل مصر التي تملك قرب حدودها الشرقية قطعة أرض ينتشر على أطرافها الجنود ويظللها البحر والنخيل والشجر، وفي نهايتها معبرٌ يسمى باسم المدينة التي غادرها الفرح.

هناك في نهايتها، وقرب نهايتنا، معبر رفح.

انحشرنا جميعاً فيه من غير أجسادنا، اختزلت اللحظة وجودنا في بعض أمتار صغيرة. لم يعد لحاضرنا وتاريخنا المديد قيمة طالما بقيت الجريمة تزكم أنوفنا. جريمة إبادة إنسانية على الحدود التي تفصلنا عن الأرض الفلسطينية. الحدود التي تعيد بناء شكل علاقتنا مع القضية الفلسطينية.

انحشرنا جميعاً؟ لا، انحشر غيابنا. فنحن على الحدود معهم، وهم دوننا بكل تأكيد.
نحن هنا والحرب هناك، ولا يصدر عنا صوت ولا شرر.

مقالات ذات صلة

بيننا عشرات الملايين ممن يتمنون أن يصلوا إلى هناك، ومن غير تردد يعبرون. بيننا عشرات الملايين ممن يتمنون أن يخترقوا ميدان التحرير المدجج بالسلاح ويهتفوا "الشعب يريد". بيننا عشرات الملايين ممن لا زالوا على قيد الأغنية "إلى فلسطين خذوني معكم" بكلمات نزار قباني وصوت أم كلثوم وألحان محمد عبد الوهاب، وبيننا عشرات الملايين الأخرى ممن يقولون "اتركوني لهمي". يقولونها بلا صوت أو وفق نوتة موسيقية كاملة الأنين.

وبيينا "آلاف" يتحكمون بمسارنا، وهم أيضاً ولأسبابهم التي يختلفون فيها عنا، ليست لديهم أية نية للعب دورٍ تجاه قطاع غزة يتخطى الحدود الحالية التي أقاموها.

بيننا عشرات الملايين من الممنوعين، وعشرات الملايين من المطوحنين الصامتين، وعشرات الملايين من المنتظرين، وآلاف من المانعين.

نحن المئة مليون وأكثر، ساوت الحال بيننا ووضعتنا جميعاً على نصل اللحظة الفاصلة. بالتأكيد لسنا سواسية، لكننا انحشرنا رغماً عنا في الخندق نفسه، مناضلون ومدّعون ومطحونون ومتخلون وسلطة، تبلعنا جميعاً النقطة نفسها.

لم يعد لحاضرنا وتاريخنا المديد قيمة طالما بقيت الجريمة تُزكم أنوفنا. جريمة إبادة إنسانية على الحدود التي تفصلنا عن الأرض الفلسطينية. الحدود التي تعيد بناء شكل علاقتنا مع القضية الفلسطينية.

أصبحنا رغماً عنا على الدرب نفسه، تساوينا على ميزان النتائج، من يملكون قلوباً ومن تضخ قلوبهم دوماً من غير نبض. نتساوى الآن، طالما لا زلنا جميعاً نستطيع التقاط أنفاسنا، ونسمع شهيقنا وزفيرنا مختلطَين بالصراخ والفزع والعزة القادمة كلها من قطاع غزة.

هكذا هي الصورة، وهذا مآلنا..

نحن أهل مصر، ممن كشفتنا اللحظة، فصرنا مجرد معبر لا نملك منه أن نعبر، معبر فيه العبرة لمن لا يعتبِر. لا نُراوح ولا نَبرح، فقط نتابع، وبأسلاكه الشائكة نتجرح.

نحن أهل مصر، صهرتنا اللحظة وصبّتنا جميعاً في القالب نفسه، يكسونا العار وشعور حارق بأننا قاب قوسين أو أدنى من ملامسة الدمار.

نحن أهل مصر، المعنى المتراكم لوجهَي العملة، خزيُ أم "بساطة"!! غُلب أم لؤم يرتبط بالأرض والفلاحة! "عباية جحا أم وشاح صلاح الدين"، كما قال تميم البرغوثي، ترهّل لما تبقى في يدنا أم أوصال حضارة.

نحن أهل مصر، أصحاب المعيشة فوق حاجز الستين جنيهاً لكل دولار واحد، بعد أن كان ثمنه قبل عشر سنوات لا يزيد عن سبعة. نحن من امتد بنا العمر وضاق بنا الوادي حتى أدركتنا لحظة نتابع فيها ونحن صامتون، تجاوز أثيوبيا وإيغالها في تنفيذ مخططات تُجهز على سر وجودنا، باسم "النهضة".

نحن، هكذا نحن، وهذه هي حالنا، شاء من شاء، وأبى من أبى..

نحن أهل مصر، أهل الحصار والحسرة.

***

يقولون إن عشرين منا قد مروا عبر الحدود، وتقول حكومتنا ومعها إسرائيل، إنهم ليسوا إلا تجار مخدرات وأرباب تهريب. لا نعرف ولا يعرفون، ومن يملك الحقيقة في بلدٍ فيها الحرية منذ عشر سنوات وأكثر تتشوه ذرات تكوينها؟ نعم، تتشوه وليس فقط تغيب.

يقولون إن فتىً منا شارك في مظاهرة لم يتخطَ عددها ـ بكل خجل ـ مئات قليلة أو أقل، وقد هتف: "مصر مشاركة في الحصار"، فقامت الدنيا، قامت وكأنه لم يقل الحقيقة. أو لأن "الحقيقة" في ظل سنوات الكساد العام والمناخ السام هي ـ عن حق ومهما تعاظم بأس السلطة ـ أمرٌ لا يُحتمل، ولذا يُعرب بعض المعارضين أحياناً عن تفهم موقف "السلطة" في البطش والعصف مهما استتب لها الأمر.

يقولون أشياء قليلة مريرة في ظل صمتٍ كثيف، وتقول إسرائيل على الملأ و"الصوت الحياني" إن السلاح يمر بشكل غير معلن من الجانب المصري إلى المقاتل الفلسطيني، ولهذا فخطتها، بعد أن فشلت في القضاء على سلاح المقاومة في القطاع، هي أن تغلق الحدود بينه وبين مصر وتمد جداراً عازلاً فوق وتحت الأرض يبدأ من البحر وحتى معبر كرم أبو سالم.

تقول إسرائيل على الملأ، وفي ساحة محكمة لم تجرها إليها إلا جنوب أفريقيا، لستُ أنا من يمنع المساعدات، تقول لمحكمة العدل الدولية، إنه على عاتق مصر تقع المسؤولية، وكان ينقصها أن تقول فليوجِّهوا لها هي لا إليَّ جريمة الإبادة الجماعية.

تقول المنظمات الإغاثية الدولية إن 800 ألف فلسطيني من أصل ما يزيد عن 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة، قد يلقون حتفهم جراء المرض والجوع، هذا إذا ما نجوا من قذائف العدو، وإذا ظلت يد التقتير والمنع مستمرة، تمرر النزر القليل من العون.

مقالات ذات صلة

أما السلطة المصرية فقالت منذ اللحظة الأولى إنها ضد سيناريو التهجير. قال رئيسها لإسرائيل، فلتُخرجوا الفلسطينيين المدنيين في قطاع غزة إلى صحراء النقب إلى أن تنتهوا من حربكم ضد حركة حماس، ثم أعيدوهم سالمين إلى منازلهم، ولكنهم لن ينزلوا إلى مصر ليسكنوها ويفقدوا وطنهم. وهذا الجزء الأخير من قوله يعكس موقفاً مبدئياً متفقاً عليه مصرياً وفلسطينياً وعربياً. لكن ما معنى وقيمة هذا الشعار المدوي حين يقترن بعدم اكتمال المشهد كما ينبغي له من مبدئية وإنسانية ومسؤولية سياسية؟ ما معنى أن يحضر الشعار ولا تحضر السيادة؟ وهل يكفي أن يخرج موظف في الدولة المصرية، هو رئيس هيئة استعلاماتها لا أكثر، فيقول ليست مصر التي تمنع ولكنها إسرائيل، فهي تشترط ونحن نرضخ لتفتيش كل ما يمر من عندنا لإخواننا!!

كل الخير فيهم وهم يقفون ويهتفون: "معبر مصري يعني سيادة.. مش هنشارك في الإبادة"، وهم يهتفون: "عيش.. حرية.. إسقاط الاتفاقية"، وهم يهتفون"عايز تمنع التهجير.. لازم تبقى أخ كبير"، وهم يهتفون "عايزين خطوة وفعل حقيقي كله كلامكم سيكي ميكي"، وهم يهتفون: "طول ما الدم رخيص.. يسقط يسقط أي رئيس".

 يقولون أشياء قليلة مريرة في ظل صمتٍ كثيف، وتقول إسرائيل على الملأ و"الصوت الحياني" إن السلاح يمر بشكل غير معلن من الجانب المصري إلى المقاتل الفلسطيني، ولهذا فخطتها، بعد أن فشلت في القضاء على سلاح المقاومة في القطاع، هي أن تغلق الحدود بينه وبين مصر وتمد جداراً عازلاً فوق وتحت الأرض يبدأ من البحر وحتى معبر كرم أبو سالم.

هل كان هذا هو الرد المنتظر؟! هل هذا هو مستوى التمثيل المرتجى؟ لم يسأل أحد هذا الموظف وكل من يتبعه ويفوقه وصولاً إلى رئيس الجمهورية: ولِما تسمحون بمثل هذا الامتهان للسيادة المصرية؟ وكيف لا يكون الرد، الوحيد والفوري، هو السماح بمرور الشاحنات مباشرة من الحدود المصرية إلى الفلسطينية عبر معبر رفح من غير القبول باشتراط يأتي من خارج حدود الاتفاقات والإنسانية والكرم؟

كيف تسمحون، والحرب داخل فلسطين تحصد الأرواح وتكوي القلوب، أن يصطف اسم مصر وإسرائيل في جملة واحدة؟ كيف تسمحون أن تسير الشاحنات المصرية 18 كيلو متراً في الصحراء لتصل إلى معبر كرم أبوسالم الإسرائيلي، فتخضع للتفتيش ثم تعود بقرار من الصهاينة، يمنحها أو لا يمنحها الإذن بالمرور؟ كيف تقبلون أن يكون كل ما مر إلى مصر هو مئات الجرحى بينما العدد الرسمي المعلن عنه قد اقترب من السبعين ألفاً أو يزيد؟

إن مجرد القبول بالإذعان هو مشاركة في إنزال الدمار، فلما تهاجمون من يهتفون ـ والحزن يعصر قلوبهم ـ "مصر مشاركة في الحصار"؟

فـ "دومة" الخارج من الجب بعد عشر سنوات في سجون طرة وبدر والقناطر الخيرية والنطرون، التي ما زالت تبتلع عشرات الآلاف غيره، هذا الشاب الذي ارتبط اسمه بالثورة، لم يهتف وحده، ولكن هتف معه ثوريون آخرون ممن لبوا دعوة من نقابة الصحافيين للتظاهر بمناسبة مرور 100 يوم من الحرب على قطاع غزة وكل فلسطين. تجمّعوا في شارع عبد الخالق ثروت في القاهرة، ليعود "السلّم" الاستثناء على استحياء، عاد ليكون منفذاً لمن لا زالوا يملكون جرأة الهتاف، دونما خوف، دونما اكتئاب.

هتفوا، وهم يريدون بهتافاتهم عزة مصر بقدر نصرة فلسطين، فلا تخرجوهم من الملة والدين، ولا تسلطوا عليهم سيوفكم.

كل الخير فيهم وهم يقفون ويهتفون: "معبر مصري يعني سيادة.. مش هنشارك في الإبادة"، وهم يهتفون: "عيش.. حرية.. إسقاط الاتفاقية"، وهم يهتفون: "عايز تمنع التهجير.. لازم تبقى أخ كبير"، وهم يهتفون: "عايزين خطوة وفعل حقيقي كله كلامكم سيكي ميكي"، وهم يهتفون: "طول ما الدم رخيص.. يسقط يسقط أي رئيس".

كل الخير فيهم، هم وغيرهم ممن يدفعون الأثمان سجناً وغربة. ولا خير في سياسي، من السلطة كان أو من المعارضة، يقول نحن ضد التهجير ويصمت، كمن يقرأ نصف آية الخمر، فيقبل بالأمر ولا يدين هذه المشاركة عبر الامتناع.

كل الخير فيهم، هم وغيرهم، ممن يدفعون الأثمان سجناً وغربة، ولا خير في سياسي، من السلطة كان أو من المعارضة، يقول إن مشروعه قائم من أجل بناء القادم، ويتوارى عن ذكر حقيقة موقفه من استمرار تكبيل الدولة المصرية بهذه الاتفاقية المسماة كذباً ب"السلام" بينما على الحدود تدور جريمة إبادة إنسانية.

كل الخير فيهم، هم وغيرهم، ممن يدفعون الأثمان سجناً وغربة، ولا خير في سياسي، من السلطة كان أو من المعارضة، يستخدم كلمات الحنكة والحكمة و"مقتضيات الواقع" و"طبيعة اللحظة" ليبرر بها مشاركته في التسلط أو التبرير أو الالتفاف.

هتفوا، وكان لهم كل الحق في الهتاف، فلا تزكّوا ـ أهل السلطة ـ أنفسكم وتستعرضوا وطنيتكم، أنتم ومن يصطف معكم ويصطفيكم، باسم الحرص والحيطة والإنصاف.

هتفوا، وهم يريدون بهتافهم عزة مصر بقدر نصرة فلسطين، فلا تخرجوهم من الملة والدين، ولا تسلطوا عليهم سيوفكم.

هتفوا ولتسألوا أنفسكم، كم من أهل مصر لا زال في صفّ هؤلاء العشرات، ممن لا يملكون حتى الآن غير الهتاف؟

هتفوا، وهم لا يملكون الحل ولا مطلوب منهم التوقيع وحدهم على صكوك انتحار. لكنهم كانوا ولا زالوا يحتسبون أنفسهم أهلاً للسعي والانتقاد.

هتفوا، ولا زال هناك على البعد، من يشبههم ويفوقهم، لا زال هناك، ومن غير حضور في مسيرات ومسارات غالباُ، هناك قليلون، قليلون جداً، ممن هم ـ عن حق ـ بشر استثناء وأهلٌ للفداء وليس بالضرورة أن يصبحوا شهداء، ويبقى المجد لهم. ولهذا كانت وتبقى صورة البطل المجنّد المصري "محمد صلاح" رمزاً معلقاً على جدران تهدمت في قطاع غزة، وأخرى مُنع أصحابها من التعليق عليها في مصر.

الخير كله هو "الفدائي"، وتبقى الحياة تجود ـ بعد حين ـ بمن مثله وتفيض.

***

قد تنتهي الحرب، ولا يفلح المصريون في فتحٍ حقيقي محق لمعبر رفح، لكن من قال إن المشهد سيمر؟

علّها الأيام تُعين الحالمين يوماًعلى المرور، وعلى التحرير.

علّها الأيام تُعين الحالمين يوماً على التمييز بين من يدفعون الأثمان وبين مَن يتاجرون بها، بين من يقولون العبارات كاملة، وبين مَن يقصفونها عن قصد وعن علة، بين من هم "زبائن" الحلم وبين من هم له "زبانية"، بين من يؤمنون به عن صدقٍ تشوبه بعض خيبة فيتجرعوا بعض الخديعة، المرة تلو المرة، وبين من يتغذون على دمائه الحلوة والمرة.

نحن أهل مصر، صهرتنا اللحظة وصبّتنا جميعاً في القالب نفسه، يكسونا العار وشعور حارق بأننا قاب قوسين أو أدنى من ملامسة الدمار. نحن أهل مصر، ممن كَشَفتنا اللحظة، فصرنا مجرد معبرٍ لا نملك منه أن نعبر، معبر فيه العبرة لمن لا يعتبِر. لا نُراوح ولا نَبرح. فقط نتابع، وبأسلاكه الشائكة نتجرح.

علّها الأيام تُعين الحالمين يوماً على مواجهة كل "سطو" وكل "سلطة" وكل "استيطان بغيض".

علّها الأيام تُعين الحالمين يوماً، مهما تمادى منتقدوهم في قصفهم بالبارود والسجن ووصفهم بالخيال المريض.

فنَخب الحالمين مهما طال بهم العناء، مهما بدوا أغبياء في عيون الآخرين، كل الآخرين، وطوبى لما دفعوه ولما سيدفعونه من ثمنٍ.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...