أثار تغييب “قمة الأمم المتحدة للمناخ” (كوب 28) للعدوان الإسرائيلي على غزّة أو تأثير الصراعات والحروب في منطقتنا على البيئة والاقتصاد وبالتالي قدرتها على التكيّف مع التغيّر المناخي والانتقال إلى طاقات بديلة، أسئلة إضافية حول العدالة البيئيّة التي غالبًا ما كانت غائبة عن الاجتماعات البيئية العالمية.
وفي هذا الإطار عقد برنامج العدالة الاجتماعية في منتدى البدائل العربي للدراسات، وكجزء من سلسلة الندوات الشهرية التي ينظّمها بالتعاون مع موقع “صفر”، ندوة بعنوان “COP-28 وعدالة التعهّدات المناخية في المنطقة” تناولت جوانب عدّة من قمّة المناخ، منها عدالة التعهّدات المناخية في منطقتنا بشكل عام وممارسة الاحتلال الإسرائيلي لما يعرف بـ “الغسيل الأخضر” (التضليل حول طبيعة أعمالها المُضرّة بالبيئة والمناخ)، بينما ينتهك الحقوق البيئيّة للفلسطينيّين منذ العام 1948 ويساهم عبر الحروب التي يخوضها في تلويث البيئة عالميًا.
وركّز المتحدثون في الندوة التي أدارها الباحث في مجال الطاقة مارك أيوب وهو زميل في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، على البيان الختامي للقمّة الذي تحدث عن الانتقال من الوقود الأحفوري من دون وضع جدول زمني لذلك أو إدراج ما يلزم الدول المنتجة للتخلّي التدريجي عن هذا الوقود، وتمويل التكيّف مع التغيّرات المناخيّة وصندوق الخسائر والأضرار، كما ركّزت الندوة بشكل خاص على الإبادة البيئيّة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين.
الإبادة البيئيّة في فلسطين و”الغسيل الأخضر”
على الرغم من تزامن انعقاد قمّة المناخ مع عدوان إسرائيلي وحشي على غزّة يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية ومن ضمنها الإبادة البيئية، لم يكن هذا العدوان على جدول الأعمال كما كان يفترض. وبينما كان يؤمل أن توضع إسرائيل أمام مسؤوليّاتها لما تسبّبه الحروب التي تشنّها من دمار بيئيّ متعمّد ومن كلفة إضافيّة على الفاتورة المناخيّة العالميّة، كانت تسوّق لابتكاراتها لحلول مناخية تكنولوجيّة، في إطار ممارستها لـ “الغسل الأخضر”.
وللإضاءة على هذا الجانب المرتبط مباشرة بالعدالة البيئيّة التي لا يمكن تحقيقها في ظلّ وجود احتلال وحروب لاسيّما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المتضرّرة بشكل أساسي من التغيّر المناخي، عرضت منسّقة مرصد سياسات الأرض والمناصرة والعمل المجتمعي في استديو أشغال عامة المهندسة يارا عبد الخالق بالأرقام لكلّ الاعتداءات البيئيّة التي ترتكبها إسرائيل منذ العام 1948 إلى اليوم، والتي بات من الممكن تصنيفها كإبادة بيئيّة تُضاف إلى الإبادة المكانيّة واللتين يشكّلان بدورهما جزءًا من إبادة أشمل.
ولفتت عبد الخالق في مداخلتها إلى أنّ الأعمال العسكرية عالميًا مسؤولة عن 5.5% من الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة، وأنّ المختصّين تحدّثوا عن 281 ألف طن من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون سجّلت في الأيام الستين الأولى من العدوان الإسرائيلي على غزة، وعن تكلفة مناخية تُعادل تكلفة حرق 150 ألف طن من الفحم. مع الإشارة إلى أنّ نصف هذه الانبعاثات هي نتيجة نقل الأسلحة والعتاد عبر طائرات ضخمة من بلدان عدة أبرزها الولايات المتحدة الأميركيّة.
ويُضاف إلى هذه التكلفة، كما أشارت عبد الخالق، تكلفة ما ستنتجه عملية إعمار 100 ألف مبنى سكني دمّرته إسرائيل، من غازات دفيئة تُقدّر بـ 30 مليون طنّ.
انطلاقًا من هذه الأرقام التي تبيّن الكلفة البيئية للحرب بدءًا من التحضير لها مرورًا بخوضها وصولًا إلى مرحلة إعادة الإعمار، اعتبرت عبد الخالق أنّه لا يمكن الحديث عن عدالة بيئية ومناخية في ظلّ احتلال أو صراعات تؤثّر ليس فقط على المناطق الدائرة فيها بل على العالم أجمع. وتساءلت كيف يمكن التوقّع لشعب تحت الاحتلال أو متأثر بصراعات عسكرية أن يتأقلم أو يفكر في البيئة، وهو غير قادر على الوصول إلى موارده أو البقاء على قيد الحياة. واعتبرت عبد الخالق أنّه من الضروري جدًا العمل على تصنيف الإبادة البيئيّة كجريمة حرب بشكل واضح.
وفي حين أوضحت عبد الخالق كيف تستهدف إسرائيل الزيتون والأراضي الزراعية بشكل عام في جنوب لبنان وكيف تستخدم القنابل الفسفورية، فنّدت الانتهاكات والاعتداءات التي ترتكبها إسرائيل منذ العام 1948 والتي تشكّل مجتمعة إبادة بيئيّة. وذكرت في هذا الإطار نقل المصانع الملوِّثة والمقالع التي تغطّي الاحتياجات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية، ووضع سياسات بيئية وتسهيلات ضريبية تشجّع المزيد من الصناعات فيها وتسريبها للنفايات الكيماوية ونقلها لمكبّات مخلّفات المستوطنات إلى الأراضي الزراعية في الضفة الغربية. هذا فضلًا عن قيامها بتبوير الأراضي الزراعية (تحويلها إلى أراضٍ بور) واقتلاع الأشجار المحلية وفصلها الأراضي الفلسطينية عن بعضها عبر بناء المستوطنات والجدار الفاصل، وتقييدها وصول الفلسطينيين إلى أراضيهم الزراعية. كما ذكّرت عبد الخالق بسرقة سلطة الاحتلال أكثر من 80% من مياه الضفة الغربية وتطويرها أسلحة وذخائر باستخدام مادة اليورانيوم والفوسفور الأبيض وتجربة استخدامها بالقرب من المواطنين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.
اللاعدالة في الانتقال من الوقود الأحفوري
يُضاف جانب اللاعدالة البيئيّة التي تطرّقت له الباحثة يارا عبد الخالق إلى جوانب أخرى من هذه اللاعدالة تناول إحداها مدير الحملات الدولية في شبكة العمل المناخي أحمد الدروبي وهي اللاعدالة البيئيّة في المسؤولية المشتركة. وأشار الدروبي في الندوة إلى نقطة رأى أنّها بقيت ثانوية في مؤتمرات الأطراف منذ التسعينيات، والمتمثّلة بأنّ جميع الشعوب لديها مسؤولية مشتركة في حماية مستقبل العالم، ولكن المسؤولية متباينة بين منطقة وأخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر القارة الإفريقيّة التي تضمّ 45 دولة لا تتجاوز انبعاثاتها 2% من انبعاثات العالم سنويًا في حين أنّ دولة كالولايات المتحدة والتي تمثل 4% من عدد سكان العالم مسؤولة عن 25% من الانبعاثات العالمية.
ولفت الدروبي إلى أنّ اللاعدالة البيئيّة ستظهر عند تطبيق الانتقال من الوقود الأحفوري، والذي لا يمكن تطبيقه في كلّ الدول بالطريقة نفسها، إذ إنّه لا بد من الأخذ في الاعتبار عامل القدرة النسبية لكلّ دولة ونمّوها الاقتصادي وتنوّع مصادرها الانتاجيّة. ومن المفترض أن يحصل الضغط للتخفيف التدريجي لاستخدام الوقود الأحفوري، بشكل أساسي على الدول المسؤولة عن النسب الأكبر من الانبعاثات تاريخيًا ولديها القدرة المالية والإنتاجية التي تتيح لها ذلك، وهذا ما لا يحصل.
فعلى سبيل المثال لا يمكن الانتقال بالطريقة نفسها من الوقود الأحفوري، في دولة غنية مثل النرويج وتتمتّع بالتنوّع الاقتصادي وفي مصادر الدخل وفي دولة كالسعوديّة غنيّة أيضًا ولكن معتمدة على الوقود الأحفوري بشكل أساسي في الناتج المحلي، فكيف الحال عند الحديث عن دولة مثل الجزائر تُعاني من صعوبات اقتصادية كبيرة وتفتقر إلى التنوّع في مصادر دخلها.
____________
من دفاتر السفير العربي
التغيّر المناخي.. لقد آن الأوان!
____________
وفي حين أُعلن عن الاتفاق على الانتقال التدريجي إلى الوقود الأحفوري كانتصار للدول الأطراف نهاية العام الماضي، رأى الدروبي أنّ الاتفاق هو “عنوان عظيم خال من المحتوى” فهو يتحدّث عن انتقال بطريقة عادلة ومنظّمة من دون جدول زمني وهو غير ملزم للدول المنتجة. وتحدّث الدروبي في هذا الإطار عن الدور الذي أدّاه لوبي شركات النفط الذي حضر بقوّة في القمة، لجهة عدم وضوح البيان الختامي في ما خصّ الانتقال أو حتّى التخلّص من الوقود الأحفوري، مشيرا إلى ضرورة المطالبة بإبعاده عن هذه القمم.
اللاعدالة البيئيّة ستبرز أيضًا بحسب الدروبي في تنفيذ الاتفاق المتعلّق بمضاعفة الاعتماد على الطاقة المتجددة 3 مرّات، متسائلًا إن كان هذا سيُطبّق في أوروبا وتخرج هي كمن التزم ونجح في الأمر بينما تبقى بعض الدول الإفريقيّة مكانها إذ إنّها أصلًا تعاني لتأمين الكهرباء. ولفت إلى ضرورة تحديد إطار العدالة والمساواة الغائب بيئيًّا، ووضع مبادئ لديمقراطية الطاقة في القرارات المقبلة، وإلّا سنكون نعمل على إعادة الاستعمار وهيمنة الأغنياء على الصناعة ولكن هذه المرّة عبر الطاقة المتجددة.
وتحدّث الدروبي في هذا الإطار عمّا أسماه “استعلاء الرجل الأبيض”، مذكرًا أنّه في الحادي عشر من شهر أيلول الماضي قُتل في ليبيا 11 ألفًا و300 شخص في الفيضانات وهم ضحايا رسميون للتغيّر المناخي لم يكترث لهم أحد، متسائلًا إن كان سيحصل الأمر نفسه لو كان هؤلاء الضحايا أوروبيّين.
عدالة التمويل
اللاعدالة البيئيّة أيضًا واضحة جدًا عند الحديث عن التمويل المناخي وصندوق التعويضات والخسائر “فالتمويل هو جزء أساسي من الخلاف بين دول الشمال والجنوب في مؤتمرات المناخ” كما ذكر الباحث في العلوم السياسية ومدير برنامج العدالة الاجتماعية في منتدى البدائل العربي للدراسات عمر سمير خلال الندوة. وأشار إلى أنّ التمويل المناخي موجود في اتفاقيات دوليّة وقمّة كوبنهاغن 2009 خرجت بتعهّد الدول الغنية بـ 100 مليار دولار للدول النامية للتكيّف مع التغيّر المناخي. وأوضح سمير أنّ المبلغ يبدو ضخمًا إلّا أنّه وبحسب الباحثين في اقتصاديات المناخ ضئيل جدًا فالتقديرات تتحدّث عن الحاجة إلى تريليون دولار في هذا الجانب. وعلى رغم من ضآلة المبلغ المحدّد لم يُحقّق بالكامل إلّا بحلول العام 2022.
وذكّر سمير بأنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستكون الأكثر تضررًا من التغيّر المناخي، إذ إنّه وحسب السيناريو الأسوأ للتدهور المناخي في حال لم تف الدول بالتزاماتها، ستخسر دول هذه المنطقة 27% من ناتجها المحلي بينما المعدل العالمي لهذه الخسارة بالسيناريو نفسه لن يتجاوز 18%. ويوضح هذا الأمر بشكل بارز عدم العدالة في توزيع الخسائر، ما يقودنا إلى الحديث عن صندوق التعويضات والخسائر وعن فعاليته وعدالته.
وذكّر سمير بأنّ مقاربة الصندوق والالتزامات المالية كانت غير واضحة خلال المؤتمر إذ إن الأمم المتحدة ذاتها انتقدت تناول التمويل المناخي “بلغة ضعيفة” معتبرة أنّ “الأهداف بشأن التكيّف المتعلقة بالالتزامات المالية غير كافية أو بدون برنامج عمل لقياسها”.
وانطلاقًا ممّا تقدّم اعتبر سمير أنّ دولنا محتاجة للتركيز على تمويل تكيّفها مع التغيّر المناخي والعمل على إيجاد لوبي للدول غير النفطيّة.