من أنساق الحياة الاجتماعية السائدة في اليمن، نسق الطب التقليدي وممارساته الآخذة في الاتِّساع لارتباطه بشبكة من المتغيرات والعوامل التاريخية والاقتصادية والثقافية. هو "مجموعة من الممارسات والتصورات المتصلة بصحة الإنسان ومرضه، يؤمن بها ويعتقد فيها اعتقاداً جازماً لا شك فيه"[1]، حيث يحظى المعالِجون الشعبيون في اليمن بثقة عامة عالية، لما يبرعون فيه من تلبية لحاجة المريض إلى الشفاء المتسق مع مفهومه الخاص للمرض والدواء.
الخدمات الصحية والحرب
من أهم العوامل الفاعلة في الانتشار الملحوظ لممارسة الطب التقليدي في اليمن، حالُ الخدمات الصحية الرسمية المُصابة بجملةٍ من المشكلات والاختلالات، منها النقص الشديد في الأجهزة والمعدات الطبية، وتدني أجور الأطباء بفارقٍ مهول بينها وبين ما يقابلها خارج البلد، ما دفع كثيراً من الكفاءات الوطنية إلى الهجرة الخارجية بحثاً عن حياة كريمة، فترتب على ذلك نقصٌ حادّ في الكادر الطبي العامل في اليمن.
وفي السياق ذاته، يأتي الفقر كإشكاليةً صحية مضافة إلى سابقاتها. فنسبة كبيرة جدّاً من المرضى من ذوي المستويات المالية المتدنية، ليس في مستطاعهم تحمُّل تكلفة الخدمات الصحية الحديثة، سيما تلك التي تقدمها المشافي المملوكة للقطاع الخاص.
وزادت هذه المُشكلات حدّة مع اندلاع الحرب في آذار/مارس 2015، إذ بلغ القطاع الصحي حالاً بالغة السوء والضعف والهشاشة، بعدما انخفض عدد المنشآت الصحية العاملة بكامل طاقتها إلى ما نسبته 50 في المئة، وصار أكثر من 80 في المئة من السكان يواجهون تحديات كبيرة في الحصول على الغذاء ومياه الشرب وخدمات الرعاية الصحية، وانخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 50 في المئة وارتفعت نسبة مَنْ يعيش من اليمنيين في فقر مدقع إلى 58 في المئة قياساً بـ 19 في المئة قبل نشوب الحرب، وفقاً لما ورد في "مذكرة سياسات ــ قطاع الصحة في اليمن" الصادرة عن البنك الدولي في أيلول/ سبتمبر 2021.
تقف هذه المؤشرات والعوامل المتداخلة والمتشابكة وراء التوجه الاجتماعي المتزايد إلى مواجهة المشكلات الصحية بمعالجات سحرية ونفسية، وخبرات عملية كاستخدام "الكي" في معالجة عدد من الأمراض، وتجبير الكسور، وتطبيب الجروح والآلام والحميات والأمراض الجلدية[2]. والتداوي بالقرآن والرقية الشرعية، والتقرب إلى الأولياء والتبرك بأضرحتهم، وغير ذلك من الممارسات المتعددة للطب الشعبي.
الأعشاب الطبية
من أكثر أنواع الطب التقليدي استخداماً في اليمن، التداوي بالأعشاب، لما يتمتع به البلد من تنوع في غطائه النباتي الذي يتجاوز 3 آلاف نوع، منها 800 نوع في محافظة "أرخبيل جزيرة سقطرى" جنوب شرق اليمن، التي تستوطنها أهم شجرة طبية، شجرة "دم الأخوين" منذ آلاف السنين، ويمتد عمر الجيل المعاصر منها إلى أكثر من 530 سنة.
لذلك، اشتُهرت اليمن منذُ القدم باستخدام النباتات في علاج كثير من الأمراض. ولم تزل كثير من تلك النباتات مستخدمة إلى اليوم في علاج الأمراض ذاتها، إذ أثبتت عدد من الدراسات العلمية احتواء عدد من النباتات الطبية التي تنمو في اليمن على خواص كيميائية علاجية فاعلة، من مثل المكونات ذات الفاعلية الحيوية في نبات (اللافندر الزغبي Lavandula pubescens Decne) الذي يُستخدم في علاج أمراض الحساسية. ونبات (الدورستينيا فويتيدا Dorsteniafoetida)، الذي يستخدم في علاج الأمراض الجلدية المختلفة والتهابات الرئة[3].
زادت المُشكلات حدّة مع اندلاع الحرب في آذار/مارس 2015، فانخفض عدد المنشآت الصحية العاملة بكامل طاقتها إلى ما نسبته 50 في المئة، وصار أكثر من 80 في المئة من السكان يواجهون تحديات كبيرة في الحصول على الغذاء ومياه الشرب وخدمات الرعاية الصحية، وارتفعت نسبة مَنْ يعيش في فقر مدقع إلى 58 في المئة قياساً بـ 19 في المئة قبل نشوب الحرب.
هناك خليط غير متجانس تتشكل به منظومة سببية واقعية شاملة، وهو الفاعل في توافر بيئة خصبة لانتشار الطب التقليدي في اليمن ونموه المتسارع بلا ضوابط، بكل ما في ذلك من مخاطر وأضرار وتداعيات سلبية، تُغرق جوانب هذا الطب التقليدي المفيدة والضرورية.
ومثل ذلك هي الدراسات التي استهدفت حصر أنواع من النباتات الطبية المستخدمة في علاج أمراض الجهاز الهضمي في اليمن، منها الدراسات التي حصرت 34 نوعاً نباتيّاً، تنتمي إلى 33 جنساً في مناطق ساحل حضرموت[4]، و38 نوعاً في محافظة عدن، و28 نوعاً في منطقة "ذي السفال" من محافظة إب، و30 نوعاً في منطقة "الحنشي" من محافظة أبين.
علاقة اختلال لا تكامل
لقد كانت الخطوة الأولى التي تعاطت الحضارة الإنسانية من خلالها مع المشكلات الصحية، هي ممارسة الطب التقليدي، فكانت لبنةً أولى في بُنية الطب الحديث، كون تاريخ الطب الشعبي هو تاريخ الطب ذاته حسب ما يشير إليه الباحث محمود الجوهري (في "علم الفولكلور")، بما في هذا التاريخ من علاقة شائكة متداخلة حدّ التكامل فيما بين هذين القطبين (الطب التقليدي والطب الحديث). وهو التكامل الذي قامت عليه الدعوات العالمية إلى العودة إلى الطبيعة، ونادت به منظمة الصحة العالمية، في دعوتها إلى الأخذ بعين الاعتبار دور الطب التقليدي في الرعاية الصحية الأولية.
وعلى ذلك، لا ينحو اتّساع ممارسة الطب التقليدي في اليمن منحى تلك الصيغة التكاملية بينه وبين الطب الحديث، وإنما باتجاه الاعتماد عليه وحده في كثير من الممارسات العلاجية. وهو الاتجاه الذي تشير إليه الإحصاءات التي تُجرى من حينٍ إلى آخر على الخدمات الصحية في اليمن، على قلتها ومحدوديتها. فقبل أربعة عقود وصلت دراسةٌ أُجريت عام 1981، إلى أن ما نسبته 20.16 في المئة من الناس يعتمدون على الممارسات الشعبية والتداوي الشعبي الذاتي لمشكلاتهم الصحية([5]). وفي عام 2009، قدّرت دراسةٌ أعدّها الدكتور كمال الشميري بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية عدد ممارسي الطب التقليدي بـ 668 معالجاً، يتركز معظمهم في محافظات تعز، وإب، وصنعاء، منهم 49.4 في المئة لا يجيدون القراءة والكتابة، و7.5 في المئة فقط يحملون مؤهلات جامعية، و44.8 في المئة ورثوا المهنة عن آبائهم وأجدادهم. وفي عام 2014 صدرت دراسة عن مركز الأبحاث والدراسات الاجتماعية اليمني، قدرت عدد الذين يمارسون أنشطة الشعوذة والسحر في اليمن، بحوالي 15 ألف شخص، تُشكّل النساء ما نسبته 70 في المئة مِن المرضى الذين يُقدر عددهم ما بين 250 ألفاً و300 ألف شخص. وفي الفترة ما بين عامي 2015 و2019 ارتفعت العيادات الشعبية من 12 عيادة إلى 1400 عيادة في أمانة العاصمة وحدها، وفقاً لإحصائية أعدّها المجلس الطبي الأعلى بصنعاء.
مخاطر وأضرار
من أهم سمات الطب التقليدي في اليمن العشوائية وغياب المسؤولية لدى كثير من العاملين فيه، وبوجه خاص أولئك الذين يفتقرون إلى التأهيل والخبرة، ويتسببون في إلحاق الضرر بمرضاهم. فمثلاً، في التداوي باستخدام "الكي" كثيراً ما يُصاب المرضى بتشوهات وندبات بارزة يتعذر علاجها. وفي العلاج بالسحر والشعوذة أساليب عنفٍ وإيلام متنوعة، يتفنن فيها المعالجون الشعبيون. وينطوي التداوي بالأعشاب على أضرار وتداعيات سلبية بالغة الخطورة، حينما يكون المُعالج ناقص الخبرة غير عالم بخصائص ما يستخدمه في عمله من نباتات، سيما تلك التي مِن بين مكوناتها مواد سامة وخطيرة، قد تقضي على حياة المريض وفقاً لما ورد في كتاب الدكتور عبد الفتاح الحكيمي "دليل نباتات اليمن الطبية"، الذي استهدف فيه تفنيد المقولة السائدة "العُشبة التي لا تنفع لا تضر".
غياب التشريعات والرقابة
من أبرز عوامل انتشار ممارسات الطب التقليدي في اليمن وتداعياته السلبية بوجه خاص، افتقار المنظومة التشريعية الوطنية إلى قوانين تضبط مسارات العمل فيه وحدوده واشتراطات امتهانه.
كان لوزارة الصحة والسكان محاولات في هذا الاتجاه، قبل اندلاع أحداث 2011 في اليمن، إذ أعدت مشروع "قانون الطب الشعبي البديل والتكميلي"، وكانت من اشتراطاته على مَنْ يمارس الطب البديل أن يكون حاصلاً على درجة الدبلوم في طب الأعشاب على الأقل، بعد حصوله على درجة البكالوريوس في الطب العام من جامعة معترف بها، والحصول على ترخيص رسمي بمزاولة مهنة وفتح منشأة (مركز أو عيادة). لكن مشروع هذا القانون لم يُكتب له النجاح، فقد حالت الأحداث دون تقديمه إلى البرلمان لإقراره.
من أهم سمات الطب التقليدي في اليمن العشوائية. فأولئك الذين يفتقرون إلى التأهيل والخبرةيتسببون في إلحاق الضرر بمرضاهم. فمثلاً، في التداوي باستخدام "الكي" كثيراً ما يُصاب المرضى بتشوهات وندبات بارزة يتعذر علاجها. وفي العلاج بالسحر والشعوذة أساليب عنفٍ وإيلام متنوعة. وينطوي التداوي بالأعشاب على أضرارمحتملة بالغة الخطورة، فالمقولة السائدة "العُشبة التي لا تنفع لا تضر" خاطئة تماماً.
لا ينحو اتّساع ممارسة الطب التقليدي في اليمن منحى الصيغة التكاملية بينه وبين الطب الحديث، وإنما باتجاه الاعتماد عليه وحده. وهو الاتجاه الذي تشير إليه الإحصاءات التي تُجرى من حينٍ إلى آخر على الخدمات الصحية في اليمن، على قلتها. وفي الفترة ما بين عامي 2015 و2019 ارتفعت العيادات الشعبية من 12 عيادة إلى 1400 عيادة في أمانة العاصمة وحدها!
وإلى هذا الفراغ التشريعي في هذا النوع من الطبابة، يُضاف غياب الرقابة الرسمية على تنفيذ التشريعات الخاصة بالصحة العامة، إذ تشترط المادة 5 من القانون اليمني رقم 26 لسنة 2002 الخاص بالمهن الطبية والصيدلانية على ممارس المهنة "أن يكون حاصلاً على شهادة البكالوريوس في الطب البشري أو طب الأسنان أو الصيدلة من إحدى الجامعات اليمنية المعتمدة أو ما يعادلها من إحدى الكليات الخارجية والمعترف بها، تكون مجازة من المجلس الطبي". كما تحظر المادة رقم 21 من هذا القانون بيع أدوية بصورة شخصية أو عينات أو مستحضرات صيدلانية مجانية أو غير حكومية للمرضى. وفي المادة رقم 59 من قانون الصحة العامة رقم 4 لسنة 2009، يُحْظر على غير الصيادلة المرخص لهم بمزاولة المهنة تحضير أي عقاقير أو مستحضرات صيدلانية.
لكن المعالجين الشعبيين، يمارسون مهنتهم بمعزلٍ تامّ عن هذه الضوابط القانونية، في سياقٍ تتضافر في تشكيله عدد من المتغيرات والعوامل، بما فيها ازدواج هاتين الحالين التشريعيتين (الافتقار إلى قانون خاص بالطب التقليدي/ وغياب الرقابة على تنفيذ التشريعات الصحية النافذة).
وبذلك، فإن هذا الخليط غير المتجانس الذي تتشكل به منظومة سببية واقعية شاملة، هو الفاعل في توافر بيئة خصبة لانتشار الطب التقليدي في اليمن، ونموه المتسارع بكل ما فيه من مخاطر وأضرار وتداعيات سلبية، تُغرق جوانب هذا الطب التقليدي المفيدة والضرورية.
1-ماجد السيد حافظ، "دراسات في علم الاجتماع الحضري"، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1987، ص279. ↑
2- عبد الرحمن إسحاق، "الطب الشعبي في الجمهورية العربية اليمنية"، مجلة الصحة، وحدة البحوث الصحية بجامعة صنعاء، العدد (1)، فبراير 1984، ص7. ↑
3- عيشة محمد علي محسن وآخرون، "التحليل الكروماتوغرافي ــ الكتلي لبعض المركبات الفعالة حيويّاً في اثنين من النباتات الطبية اليمنية"، المجلة العربية للبحث العلمي، العدد (2)، 2021، ص2. ↑
4- سالم محمد بن سلمان وآخرون، "النباتات الطبية المستخدمة لعلاج أمراض الجهاز الهضمي في المنطقة الساحلية حضرموت، اليمن" - مجلة جامعة عدن للعلوم الطبيعية والتطبيقية، العدد (1)، المجلد (11)، نيسان/إبريل 2017، ص45. كما توجد مراجع عديدة ودراسات علمية حول النباتات الطبية في الاماكن المذكورة في هذا النص، لا يتسع لها المجال هنا. ↑
5- عبد الرحمن إسحاق، "الطب الشعبي في الجمهورية العربية اليمنية"، المرجع السابق، ص7. ↑