تتمهّل الكلمات وهي تخرج من أفواه السوريين إذ تستوقفها الحواجز العقليّة، تدقق في هويتها بغية فهم هويّة ناطقيها. فالموالون لهم كلماتهم، ومثلهم المعارضون. كلاهما استخرج من اللغة ألفاظاً ونعوتاً أعانته على إعراب الواقع وإسكاته داخل صورٍ معرفيّة موازية يقتنيها المنحازون إلى مزاجها وإلى تناغم مكوّناته. وخلال سنواتٍ قليلةٍ فقط، نهضت مجموعة مفردات لغويّة استحثّها الظرف الموضوعيّ ودلالاته المتبدّلة. وهي علاوة على ذلك أنجزت فرضاً أساسياً من فروض التمايز الاجتماعي، باعتباره أحد المشتقات السياسيّة لفهم طبيعة السلطة. خرجت تلك الدلالات اللغوية من صفوف اللغة وتجاوزت وظيفتها الأساسيّة، فصارت بمثابة الهويّة، ومارست في آن دوراً تقريعيّاً في مجابهة الآخر. وباتت قائمة من المصطلحات تُعين على فهم المتغيّر الاجتماعي بخصائصه الزِلِقَة، وتُنبئ بمقدار الانقسام الاجتماعي الحاصل حول السلطة القائمة منذ حراك آذار / مارس 2011.
نعوت بمثابة عناوين عريضة
استعانت المواقف السياسيّة من النظام القائم في سوريا بنصوصٍ لغويّة وصفيّة بادئ الأمر، تضافرت فيها المفردات وصاغت لوازمَ إنشائيّة لا تتبدّل، إذ لم يألف المجتمع السوري لفظة "معارض" إلا بعد العام 2011، وكانت قبله تحمل مدلولات التهمة السياسية أكثر من كونها موقفاً إيديولوجياً مشروعاً من السلطة، حتى أن المعتقلين السياسيين كانوا يُعرَّفون اجتماعيّاً بأسماء أحزابهم، فيقال بأن فلاناً معتقل من "حزب العمل الشيوعي"، أو لأنه من "تنظيم الإخوان المسلمين" ولا يقال بأنه معتقل لأنه معارض. وبين العام 2000 و2010 استبطنت كلمة "معارض" معناً يدّل على الحالة النخبويّة المقفلة، أو "معارضة الصالونات الفكريّة"، وهو حراك محدود اقتصر على "الأنتلجنسيا" بمعناها الضيّق، إذ سرعان ما بعثرته الدولة الأمنية بأقفالها تلك المنتديات تباعاً، وكان آخرها "منتدى الأتاسي" عام 2005، وهؤلاء عُرِفوا اجتماعيّاً بـ"نشطاء المجتمع المدني" لا بالمعارضين.
بين العامين 2000 و2010 استبطنت كلمة "معارض" معناً يدّل على الحالة النخبويّة المقفلة أو "معارضة الصالونات الفكريّة"، وهو حراك محدود اقتصر على "الأنتلجنسيا" بمعناها الضيّق
ثم تلوّن مصطلح "معارض" داخل منظومة التفكير الاجتماعيّ بأكثر من صبغة خلال الأعوام الماضيّة، مع أن المصطلح استمال إليه أفراداً كثيرين كانوا قبل العام 2011 بعيدين عنه، لكنّه ظلّ إشكالياً في مضامينه الاجتماعيّة، مثله في ذلك مثل مصطلح "الموالي". فالفئة الاجتماعية المعارضة للنظام الحالي تستنبط من كلمة "معارض" مرادفات لغويّة عديدة منها الحرّ، والثائر، وصاحب الكرامة، وترى في كلمة "موالي" دلالات دونيّة المعنى مثل العبد، والذليل، والخانع، كما تجد الفئة الاجتماعيّة الموالية للحكم الحالي دلالات مريبة في كلمة "معارض"، منها العميل، والمتآمر، والخائن، بينما تُلصِق بكلمة "موالي" نعوتاً إيجابيّة عدّة، منها الشريف، والوطنيّ.. ومن الجائز هنا قبول نعتيّ "المعارض" و"الموالي" على أنّهما مجرّد استنتاجان لغويان لمتغيّر سياسي اجتماعي، إذ لم يكن لهما وجود دلالي متماسك قبل انتفاضة آذار / مارس 2011. فبدلاً منهما ساد مصطلح "الجماهير" فيما مضى، دالاً على تجانس المجتمع ضمن حالةٍ قطيّعيّة منقادة يبتزّها السكون السياسيّ المديد.
صفة "المنْحبكْجيّة" التي ينعت بها المعارضون كل من "يحبّ الرئيس"، هي في أصلها كلمة عامّية حديثة العهد جرى اشتقاقها من كلمة "نُحبّك" ومثّلت الشعار الترويّجيّ الذي تلازم مع وصول الرئيس الحالي إلى السلطة
كلمات تبدّلت مضامينها
يُعرّف ابن خلدون "اللغة" بأنَّها عبارة المتكلم عن مقصوده، ويعتقد "أنطوان ميي" بأن اللغة هي ظاهرة اجتماعية بامتياز، والظاهرة الاجتماعية عند "دوركايم" هي كلّ فعل من شأنه ممارسة إخضاع خارجي على الفرد. لكنّ المفردات ومعانيها تغيب أو تحضر تبعاً للحاجة الاجتماعيّة لتداولها، بعضها يصير بمضامين مختلفة عن التي عُرف بها. فكلمة "شبّيح" التي قد يعود أصلها اللغويّ إلى "شبح" أي الكينونة غير المرئيّة، وهو اصطلاح بدلالات طبقيّة ضيقة كان يُطلق قبل العام 2011 على رموز السلطة وذويّهم ممن هم فوق القانون والمحاسبة، وكان مُعادلهُ الواقعيّ هو سيارة المرسيدس من فئة "شبح" ومن يركبها. ثم تبدّل معنى "شبّيح" فصار وصفاً يطلق على كلّ من يدافع عن النظام بغلو ومن دون تبصّر، إذ صار للمصطلح دلالات اجتماعيّة واسعة تتجاوز معناه الوصفيّ لزمرةٍ من رؤوس السلطة، ليصير ملتصقاً بمن يناصر تلك الزمرة. و"الشبّيحة" باتوا من عامة الناس، يمارسون أيضاً "البلطجة" الفكريّة والماديّة على السواء. كما أن صفة "المنحبكْجيّة" التي ينعت بها المعارضون كل من "يحبّ الرئيس"، هي في أصلها كلمة عامّية حديثة العهد جرى اشتقاقها من كلمة "نُحبّك" ومثّلت الشعار الترويّجيّ الذي تلازم مع وصول الرئيس الحالي إلى السلطة.
المؤلم أن تصير اللغة في سوريا مجرّد خطابٍ تعبويٍّ سياسي في مقاصده النهائية، يعجز عن الانفتاح على الآخر ومداواة مخاوفه، أو ربما لا يراه في الأصل
ولعلّ كلمة "حريّة" هي أكثر الكلمات التي راجت خلال السنوات الماضيّة وحملت تعنيفاً إداركيّاً لا تستحقه، لكنه تعنيفٌ ارتبط بالمنظومة الفكرية الاجتماعيّة التي تحاكم ذاك المصطلح مثلما تحاكم غيره، حيث يعود نسب كلمة "الحريّة" في أذهان عامة الناس إلى هدفٍ مركزي لدى حزب البعث ولدى غيره من أحزاب شبيهة به. ولما استعصى على إدراك العامة إيجاد تفسير إيديولوجيّ لائق بالكلمة بعد آذار / مارس 2011، أكيلت لها التفسيرات الديماغوجيّة التي لا تبيّن حقيقة مضمونها السياسي. وهذا يشبه محدودية تعامل الوعي الاجتماعي العام مع شعار "إسقاط النظام"، وفهمه حيناً على أنه رغبة البعض بنشر الفوضى. ثم أنّ هذه الفئة الاجتماعيّة هي التي رأت في كلمة "حريّة" ضدّاً في المعنى والمضمون لكلمة "نظام"، والنظام عندها هو الأمان، والدولة هي التي تسيّره وترعاه.
الرماديّ لونٌ وصفة أيضاً
كلمة "رمادي" مجرّد كلمة تُترجم درجة لونية محددة، لكنها امتدت في سوريا منذ أعوام لتصير وصفاً لفئة اجتماعيّة ليس لديها موقف راديكالي واضح من النظام السوري. كما يَصحّ أن تضاف إلى لفظتي "موالي" و"معارض" فتصير دلالة تبويبيّة اجتماعيّة ثالثة.
والمؤلم أن تصير اللغة في سوريا مجرّد خطابٍ تعبويٍّ سياسي في مقاصده النهائية، يعجز عن الانفتاح على الآخر ومداواة مخاوفه، أو ربما لا يراه في الأصل، إذ لم يؤسس أحدٌ من أطراف الاستقطاب السياسيّ لغةً جامعة، بمفردات بسيطة لا يمتحنها التأويل، ولا تستفزّ قناعات الآخر ومسلّماته. لذا استمرّت اللغة المتداولة في أحاديث السوريين، وفي تدبيج مواقفهم العقائديّة تترجم بأمانة البراغماتيّة السياسية المغلقة بوجه الآخر المختلف بقناعاته وبخطابه، وظلّت فصول الانقسام المجتمعيّ تتعاقب ضمن متوالية تخلّف وراء تمدّدها الحسابيّ ركاماً من الأشلاء، ويوّميّاتٍ مضجرة لحياةٍ رديئة لا تتبدّل ظلمتها وبردها وعوزها، ومدناً منكوبة، وأحياءً محترقة، وآلاف القتلى والمشرّدين، ومصير بلادٍ أنهكتها الهزيمة، ووثّقتها في كلامٍ عابرٍ.