الدكتاتورية واليد الأجنبية وأعداء الشعب الجزائري

في 11 كانون الثاني/ يناير 1992، وضع انقلاب عسكري حداً عنيفاً للتجربة الديمقراطية في الجزائر، وافتتح عقداً دموياً من "الحرب القذرة" ضد المدنيين، كانت تجري من أجل الاستحواذ على السلطة والريع.
2017-01-15

عمر بن درة

خبير اقتصادي من الجزائر


شارك
| fr
خلدون عزّام - سوريا

إلى عبد الحميد مهري (1926- 2012)

أصحاب إعلان الانقلاب (أو ما يتعارف على تسميته pronunciamiento)، هم مجموعة من الضباط الجزائريين المجردين من الضمير الذين يتحملون مسئولية حمام الدم المريع، والتعذيب المعمم، والخطف والتصفية بلا محاكمة، وهو ما يصدم حتى اليوم أجيالاً من الجزائريين. وبانتظار التقييم الذي سيأتي لا محالة، فإن الذكرى الخامسة والعشرين لهذا الحدث المأساوي هي مناسبة لدراسة الحالة القائمة، المتميزة بتقهقر القانون وبالمخاطر التي تواجه الجزائر.

بفضل التأييد المستمر والخبيث للغرب، أقْدم النظام المتولد من انقلاب 11 كانون الثاني/ يناير 1992 على أفظع انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك باسم الحرب على مجموعات مسلحة بلا انتماء سياسي واضح وبلا برنامج عدا العنف العاري. وبسبب الافتقاد إلى تحقيق تجريه جهات موثوقة، فإن الغموض ما زال مسيطراً حتى اليوم حول هوية الفاعلين والمنفذين وحول من أعطى الأوامر لارتكاب هذه الجريمة. حاولت أجهزة الدولة الدعائية وصحافتها "المستقلة" ومجموعاتها الإعلامية، المدعومة من المحافظين الجدد ــ فمن لا يذكر ما قاله في ذلك العقد "الفلاسفة الجدد" وقناة "أرته"؟ ــ ووسائل الإعلام الباريسية المدفوعة الأجر.. توجيه المسئولية عن سجل الفظائع هذا بفرض رواية تصف الأمر كمواجهة بين الحداثة "الجمهورية" والظلامية "الأصولية". كما لو أن واقع القوى السياسية الجزائرية يمكن اختزاله بهذه الثنائية المبسطة والكاذبة..

عري النظام المريع

لم يعد لهذه الصيغ أي معنى منذ زمن بعيد، ولذا فإن حصيلة هذه الحملة المكلفة لم تكن مرضية. فقد النظام هالته بسبب بشاعة ما أظهره. وفي الواقع، وعلى الرغم من نشاطية أعوانه والإمكانات الهائلة الموضوعة بتصرفهم، فإن ظلال عشرات آلاف القتلى والمخفيين تسد أفق الديكتاتورية. وعلى الرغم من التركيبات القانونية الهادفة إلى مأسسة فقدان الذاكرة وتجريم الباحثين والباحثات عن الحقيقة بخصوص المجزرة، فإن أطياف الضحايا الأبرياء تجوب أروقة الحكم. إن "نهر الدم" الذي أشار إليه حسين آيت أحمد في 2002 أمام محكمة باريسية، ما زال يغرق في 2017 ضفاف المنظومة البوليسية ــ العسكرية الحاكمة في الجزائر.

ومع مرور الوقت، لم يعد هناك من يهمه تبرير هذه المجازر لأي سبب. الحرب ضد المدنيين قد كانت حرباً من أجل السلطة والريع، فأي رصيد يتبقى للاجتثاث "الإيديولوجي" بينما يسطع بجلاء النهب والاقتناص. وبسبب حرمانه من المؤسسات الشرعية والقانونية، فالمجتمع مباح أمام مشعوذين مكلفين بنزع وعيه السياسي وتحويل انتباهه.  وهكذا وفي ظل قيادة "جمهورية وحديثة" لجنرالات انقلابيين ودمويين، فإن التقهقر وصل الى حد لم تعد معه التعبيرات عن " ظلامية الدولة" تصدم  أحداً ، فراح منافقون جهلة يطلقون بشكل مقزز على التلفزيون مواعظ خرقاء، وإرهابيون تائبون يفتتحون "عيادات" للسحر.  وفي هذا الواقع الفضائحي الذي اختاره نظام فاقد للأخلاق والمبادئ، فإن محتالين يبيعون أدوية سحرية، بتاييد من وزير الصحة مباشرة على التلفاز.

الحرب ضد المدنيين كانت حرباً من أجل السلطة والريع، فلا يتبقى رصيد للاجتثاث "الإيديولوجي" بينما يسطع بجلاء النهب والاقتناص

إنّ التراجع نحو اللاعقلانية والتعصب هي واحدة من أكثر تمظهرات العمل المدمر لهذا النظام وضوحاً. كانت الخمس وعشرين سنة المنقضية زمناً لحرب شاملة ضد الشعب، على المستويات الاقتصادية والأخلاقية والثقافية. سياسة الترهيب وأردية الدم  الناجمة عنها سمحت بالتمويه على المنحى "الليبرالي" المدّعى للاقتصاد الجزائري ، كما صيغ في الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي لعام 1994. إعادة الهيكلة تلك عنت نهاية الاتجاه الاجتماعي وتطوير الإنتاج الوطني لمصلحة "انفتاح" تجاري يستفيد منه زبائن النظام. وعلى الرغم من العوائد المهولة للسنوات ما بين 2001 و2015، وهي من عدة مئات من مليارات الدولارات، فإن المنجز من الاستثمارات المتحققة كوارثي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي: البنى التحتية (الأوتوسترادات وسواها) المشادة بأثمان باهظة تتآكل بسرعة مدهشة، والمدن - المساكن  الجديدة تتداعى وهي غير لائقة إنسانياً وبؤر لكل الانحرافات. هل يجب إضافة نسب البطالة الفعلية والهزال المهول للإنتاج الوطني؟ يكفي زيارة مشفى في أي مكان من البلاد لإدراك حجم الهدر والتخلي.

سمح سوء التدبير غير المسبوق والفساد الفلكي اللذان يصمان عهد بوتفليقة، بتشكل ثروات طائلة بين أيدي رجال تابعين للمقررين والمسيطرين. يظهر أكثر فأكثر رجال أعمال مرتبطون مباشرة بالريع  بوصفهم جزءاً لا ينفصم عن النظام. وهم يستثمرون عبر العالم ويصرِّحون بثقة أكبر مما تفعل المؤسسات الرسمية المنشغلة بالتلويح بأشباح المخاطر لتهدئة نفاد صبر الناس الذين يسقط جزء كبير منهم في هشاشة الأوضاع والفقر. إن جزائر 2017 هي مكان يتباهى فيه بثرواتهم رجال أعمال مشبوهون إلى جانب جموع من البؤساء، ما يجسد تعاظم الفروقات الاجتماعية.

على الرغم من العوائد المهولة للسنوات ما بين 2001 و2015، وهي من عدة مئات من مليارات الدولارات، فإن المنجَز من الاستثمارات المتحققة كوارثي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي

لقد قيل ذلك مراراً وبُرهن عليه: النظام الجزائري استنفد تلاعبه وهربه إلى الأمام، وصار في مواجهة الاضمحلال التدريجي لإمكاناته المالية التي كانت تتكفل بتخدير تصاعد الاعتراضات السياسية والاجتماعية. وهو صار مضطراً لخفض مصاريفه بسبب احتمال تبخر احتياطيه من العملة الصعبة في مدى قريب. وبشكل أوضح، فإن العقم المستمر معطوفاً على قلة كفاءة مشهودة، يتركان هامشاً متزايد الضيق لاحتواء الامتعاض العام المتعاظم.

بغداد، طرابلس، دمشق، صنعاء.. الجزائر؟

فبعد محصلة ربع قرن مضيَّع على البلد، لم يعد النظام يمتلك حجة لدعوة مجتمع متشائم إلى الهدوء سوى التلويح بعهد جديد من العنف، مستحضراً الأزمات الليبية والسورية. ولا يجهل الجزائريون أن المسئولين الأُول عن الأحوال التي وصل إليها هذين البلدين هي الأنظمة الديكتاتورية. فبإضعاف الجبهة الداخلية، السياسية والاجتماعية، بعد سحق الحريات، مكنت هذه "الأنظمة الشقيقة" التدخلات الخارجية من الحضور.

الدعوة إلى السكوت والطاعة بلا نقاش تبررها "تهديدات خارجية" مبهمة. إن مفردات الابتزاز فجة: فالاعتراض السياسي يعادل إطلاق نداء للتدخل الخارجي.  ولكن الديكتاتورية في الجزائر تقدم معادلة غير مقنعة. فقد دعت المعارضة الجزائرية مرات عديدة إلى انتقال سلمي ورفضت علناً العنف. ومنذ "العقد الوطني" في 13 كانون الثاني/ يناير 1995 وحتى المبادرات الحالية الداعية إلى توافق وطني عريض للخروج من الأزمة، لم تكف هذه المعارضة عن البحث عن نهاية سياسية وسلمية للعنف الذي أطلقه انقلاب 11 كانون الثاني/ يناير 1992. وأظهر الشعب الجزائري أكثر من مرة رفضه للمنطق الدموي لعقد التسعينات من القرن الفائت. 

وبخلاف ليبيا وسوريا، فإن أنصار الكفاح المسلح في ذلك العقد لم يكونوا مدعومين من فئات ذات وزن في المجتمع الجزائري، كما لم يتلقوا دعما سخياً من ممالك النفط الخليجية أو تأييداً أطلسياً فعالاً.

إن "نهر الدم" الذي أشار إليه حسين آيت أحمد في 2002 أمام محكمة باريسية، ما زال يغرق في 2017 ضفاف المنظومة البوليسية ــ العسكرية الحاكمة في الجزائر

ولأن الأخلاق السياسية ليست ما يحدد خيارات الغرب، وهو قادر على حرق ما أحبه بالأمس بلا رمشة جفن، وأن يدعم بيده اليمنى ما يتظاهر بمحاربته باليسرى.. مما يمكن ملاحظته في سوريا وأمكن كذلك ملاحظته في العراق حديثاً وفي ليبيا واليمن.. فهل يعني ذلك أن الدول السبع وحلف الأطلسي يمكنهم الانقلاب على أصدقائهم في السلطة بالجزائر حين تحين ظروف مناسبة؟ لا شيء يمنع ذلك، بدليل تلك التجارب الأخرى. ولكن لو حدث تدخل خارجي في جزائر مستضعفة، فسيكون ذلك على الأرجح لنجدة نظام يخدم تماماً المصالح الأجنبية. فمن هو المسئول الغربي الذي يتمنى اليوم جزائر ديمقراطية ، قوية، ويمكنها إسماع صوتها ومقاومة الضغوط ومجابهة الأجندات الخارجية في المنطقة؟ وقد قام هؤلاء المسئولون الغربيون منذ عقدين بكل ما يمكنهم لخنق أصوات الذين واللواتي يطالبون بالحقيقة والعدالة حول مصير ضحايا "الحرب القذرة" ــ وتحديداً عائلات المختفين ــ  وبالأخص في أروقة الأمم المتحدة.

اليد الخارجية والمقاومة الشعبية

إن فزّاعة التدخل الخارجي هي خرافة قديمة كصنوها، "القلعة المحاصرة"، التي اشتقها النظام الجزائري في عقد السبعينات من القرن الفائت. سجل الأكاذيب التي يمتاز بها الإعلام السلطوي بخصوص اليد الخارجية لم تعد تثير حتى الابتسام.

اليد الخارجية موجودة. ولكنها يد الاحتكارات التي تديرها صناديق ائتمان في سنغافورة وهونغ كونغ أو الجزر ما بين فرنسا وبريطانيا، وتدير حسابات في سويسرا وبنما وديلاور عائدة لأصحاب النفوذ في الديكتاتورية، وهي في خدمة هؤلاء الذين لا يعني هذا البلد الذي يحكمونه سوى كونه أرضاً للنهب.

لم يعد النظام يمتلك حجة لدعوة المجتمع إلى الهدوء سوى التلويح بعهد جديد من العنف، مستحضراً الأزمات الليبية والسورية. ويعرف الجزائريون أن المسؤولين الأُول عن الأحوال التي وصل إليها هذين البلدين هي الأنظمة الديكتاتورية.

لقد أريق دم الجزائريات والجزائريين كثيراً خلال القرنين الماضيين. ولا يمكن لأي سياسي أن يدافع بلا محاسبة عن فتنة مسلحة. ولا يوجد معارض يتحلى بالمسئولية والصدق يمكنه تجاهل أن أي نداء لقلب نظام الحكم بالسلاح هو دعوة لانتحار جماعي. كما لا يمكنه تمني تدخل خارجي في النقاش الوطني وبالأحرى قوى أجنبية على التراب الوطني، أو الادعاء بأن إنشاء دولة قانون في الجزائر يمكن أن يتأسس على مواجهة مسلحة مع النظام. ولكن وبالمقابل، فلا يمكن لأي مناضل يستحق هذه الصفة أن يترك النضال السياسي بكل الوسائل السلمية من أجل الحريات.

وبسبب طبيعتها العنفية وانعدام شرعيتها وممارستها المنحرفة، فإن الديكتاتورية العسكرية ــ البوليسية  هي الخطر الأول على مستقبل البلاد. النظام يستدعي الشغب ويدعو للعنف، حيث يمتلك في هذا المجال خبرة دموية حقيقية. الديكتاتورية نفسها هي التهديد الأكبر الذي يخيم على الشعب الجزائري، وهي عامل التدخل الأجنبي.

الشعب الجزائري الذي لم يراجع  يوماً إيمانه بالقيم الإنسانوية، يعرف قيمة السيادة والوحدة الوطنية. وهو يبقى الحارس الأمين على قيمه تلك، وذلك على الرغم من الاعتداءات التي لا يمحونها الزمن على الجزائر وأجيالها الصاعدة، وعلى الرغم من ربع القرن المضيع هذا بمنظور التقدم والبناء. هذا الشعب الذي أهين واحتقر من قبل مغامرين سمحت لهم ظروف تاريخ مأساوي بالوصول إلى السلطة، برهن دوماً عن قدرته على المقاومة الصبورة والعنيدة. وهو في أغلبيته الساحقة يرفض الاعتباط، وسيعرف كيف يتخلص منه بأقل الأثمان الإنسانية وبواسطة وسائل السياسة اللاعنفية.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟

عمر بن درة 2024-03-07

يقع أصل التحولات الهيكلية الحالية للرأسمالية، في الفصل بين الإنتاج المادي البضاعي وبين الاقتصاد المالي. وقد ترافق هذا الفصل مع التفكيك المتدرج للتدابير التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية وللبورصة في الولايات...

من الكفاح ضد الاستعمار إلى التعبئة من أجل الحريات: كرة قدم الشعب في الجزائر

عمر بن درة 2023-05-30

أصبح الملعب مركزاً للتعبئة الشعبية، ومنتجاً لدلالات سياسية عملية تناقلها الرأي العام بشكل واسع على اختلاف شرائحه الاجتماعية. والتحمس لهذه الرياضة ليس أمرا مستجدا. فقد لعبت كرة القدم دوراً مهماً...