في مثل هذا اليوم منذ ست سنوات رحل بن علي عن الحكم والبلاد مكرساً انتصار الثورة التونسية. ولكن النظام القديم استعاد سطوته بأشكال وطرق مختلفة، وعلى رأسها الاستثمار في الخوف من الفوضى. وهو ما توفَّر له خصوصاً بسبب افتقاد القوى التي نادت بالتغيير الى التصور البرنامجي والى المنظومة القيمية المتماسكة، واكتفائها بالاحتجاج. ولعل النظام لم يسقط بل أعيد تشكيله وفق صيغة جديدة معدلة
بلغت " الثورة التونسية" عامها السادس. ولكن المفارقة أن الجميع في تونس صار يتردد ويتحرج من وصف ما حدث "بالثورة"، بما في ذلك الذين شاركوا فيها وكانوا "قادتها". فالجميع كانت لهم تخيلاتهم، وانتظاراتهم وأمنياتهم النزقة، وكأن الثورة "بابا نويل" الذي يأتي بالأشياء الجميلة، وليست ذلك الفعل البشري ــ التاريخي الذي تصحبه التقلبات والمفاجآت وكل أشكال اللايقين. فالبعض حلم عند سقوط نظام بن علي بالخلافة الإسلامية، والبعض الآخر عاوده الحنين إلى الحديث عن "كومونة باريس" والانتصار الباهر للبروليتاريا، والعاطلون عن العمل أخذهم الحلم إلى أنهم سيلتحقون بصفوف موظفي الدولة، ويتحصلون على قرض بنكي ويتزوجون وينجبون الأطفال، وعاملات ماخور "زنقة سيدي عبد الله قش" خرجن في مظاهرة تاريخية احتجاجاً على بعض الإساءات، ومطالبات بتحسين أوضاع أقدم مهنة في التاريخ...
حدثت تغيرات كثيرة بعد ست سنوات من ''هروب بن علي" و''تهاوي نظامه"، ولكن ليس في اتجاه الأمنيات الكثيرة التي كان البعض يتوقعها. فالتاريخ لا تصنعه الأمنيات. الأهم هو مقاربة هذه التغيرات بوصفها سيرورة ومساراً معقداً تتشابك فيه سياقات ما قبل "14 جانفي" وما بعده، ويتداخل فيه التاريخ المحلي لتونس ومقتضيات السياق العالمي، خاصة أن المشهد لم يكتمل بعد، واللايقين واللامتوقع لا يزالان سائدين. لهذا يسود الخوف لدى الكثيرين، وهو يأخذ البعض نحو الحنين إلى "النظام القديم". والمؤكد أن الخوف تتم صناعته وتصنيعه في إطار صراع القوى والمصالح للحفاظ على نظام الامتيازات.
هل حدث تغيير؟ نعم، ولكن!
يروج رموز النظام السابق الذين عادوا إلى الواجهة السياسية والإعلامية التي أتاحتها "حرية التعبير"، أن ما حدث في تونس يدخل في إطار الخراب المعمّم الذي جاء به "الربيع العربي" إلى المنطقة عموماً وتونس خصوصاً التي كانت منطلق هذه الثورة. لهذا فهم لا يترددون في وصف التغييرات المنبثقة، وبالأخص منها تلك المتعلقة بالاحتجاجات الاجتماعية والتراخي النسبي لمؤسسات الدولة، على أنّه نتيجة "ثورة البرويطة" (ثورة العربة)، نسبة إلى عربة الخضار التي كان يستعملها محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه أمام محافظة سيدي بوزيد احتجاجاً على الحيف الذي أُلحق به من طرف الشرطة..
التغيير الأهم الذي حدث في تونس لحد الآن هو توفر حرية التعبير وانفتاح النطاق السياسي والمدني على إمكانات المشاركة والفعل. المجتمع التونسي استعاد بذا تاريخانيته وإمكانية "الفعل على ذاته"
ولعل التغيير أو الطفرة الأهم التي حدثت في تونس لحد الآن هي حرية التعبير وانفتاح النطاق السياسي والمدني على إمكانات المشاركة والفعل. وهو أمر ليس بالهين. فالمجتمع التونسي قد استعاد على نحو ما تاريخانيته وإمكانية "الفعل على ذاته" (بعبارة عالم الاجتماع الفرنسي ألآن تورين)، بعد أن كان نطاق الفعل مختزَلاً في منظومة الدولة - الحزب ذات النزعة التسلطية، الأمر الذي خنق الصراعات الاجتماعية والسياسية. وهذا ما فتح إمكانات تبلور فضاء عمومي للنقاش والصراع بين الفاعلين. فوسائل الإعلام، رغم ارتهانها للقوى والمصالح المالية، صارت تتيح إمكانية التعبير الحر والنقاش بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين الذين جاؤؤوا من "رحم التغيير". وهذه طفرة نوعية، كانت هي المنطلق الأساسي لإنجاز الدستور الذي خيضت حوله صراعات كبيرة. وساعد انفتاح الفضاء العمومي كثيراً على بروز قوى ضغط مدنية أسقطت بعض الحكومات، كما دعَم أساليب متنوعة ومختلفة للمشاركة السياسية البعيدة نسبياً عن منطق الزبائنية الذي كان سائداً ضمن منظومة "الحزب ــ الدولة" التي حكمت تونس لمدة خمسة عقود. وهو ما يظهره بروز حركات اجتماعية أغلب مكوناتها من الشباب المتعلم وأبناء الطبقة المتوسطة، يطالب أغلبها بمقاومة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية ومزيد من الحرية، وهو ما يمثل ثقافة سياسية جديدة تستند على خلفيات قيمية ومواطنية. فالثورة أتاحت إمكانية الاحتجاج والتعبير والضغط من أجل التغيير الإيجابي.
تكثَّف الإحباط لدى جزء كبير من الشبيبة التونسية التي تمثل ثلث سكان البلاد: 45 في المئة منهم لديهم استعداد للهجرة حتى بطرق غير نظامية، وتقع البطالة في صدارة الأسباب...
وهذا هائل. وهو يجابَه بهجمة ضد تلك المطالبات، وبالسعي لصنع الخوف من التغيير. وتجري محاولات للسيطرة بإحكام من قبل "قوى السوق" على النطاق السياسي، سواء عبر تمويل الأحزاب أو عبر السطوة على مجلس نواب الشعب. تظهر "الديمقراطية الناشئة في تونس" وكأنها تسير لأن تصبح "ديمقراطية للأقوياء"، ولهذا يسود الشعور بأن النظام لم يسقط بل أعيد تشكيله وفق صيغة جديدة معدّلة. فالرموز القديمة قد عادت، واللغة الخشبية القديمة للمجموعة الحاكمة تشبه، وإنْ بعض الشيء، لغة سالفة استُخدِمت.في هذا السياق، تم التطبيع بين الإسلاميين ورموز النظام القديم في إطار ما بات يعرف بـ"ديمقراطية التوافق". أما "الأحزاب اليسارية" فمنهكة وضعيفة ولم تتجاوز بعد النزعة الاحتجاجية، كما أن البعض منها صار يتسم بنزعة إصلاحية تمارس " ثوريتها" تحت قبة البرلمان دون أن تسعى على نحو جدي إلى تشكيل قاعدة اجتماعية لها. التوازن السياسي القائم في تونس لا يزال يشبه ما كان عليه قبل "14 جانفي 2011"، أي قوى يمينية (حزب النداء والإسلاميين مسنودين برجال الأعمال) مرتبطة بالنظام العالمي وبقوى السوق المعولم ومستفيدة من ريع السلطة، يقابلها "الاتحاد العام التونسي للشغل"، المنظمة النقابية القوية والعريقة التي لعبت دوراً حاسما في عملية الانتقال الديمقراطي. وبين رحى هذين القطبين تناضل الحركات الاجتماعية الجديدة وقوى المجتمع المدني من أجل الدفع في اتجاه "تحقيق مطالب الثورة" المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، وتحقيق التنمية في المناطق الداخلية المحرومة. وهي المطالب التي يتم القفز عنها بين الحين والآخر بطرق متعددة، لعل أبرزها التعامل مع الحركات الإجتماعية عبر سياسات أمنية، أو عبر خطابات إعلامية توجه الرأي العام للاعتقاد بأنّ ما يحدث من احتجاجات يدخل في إطار الفوضى. وقد تكثف الإحباط لدى جزء كبير من الشبيبة التونسية التي تمثل ثلث سكّان البلاد. ففي دراسة جديدة قام بها باحثو "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، تبيّن أنّ 45 في المئة من الشباب التونسي عنده استعداد للهجرة حتى لو بطرق غير نظامية. وتقع البطالة في صدارة الأسباب. وهو ما يحدث فعلا، حيث ينخرط الكثير من الشباب في "الهجرة السرّيّة" نحو أوروبا، في حين اتخذ البعض الآخر "الحركات الجهادية" التي تقاتل في سوريا وفي العراق ملاذاً له، ويقبع جزءٌ آخرٌ في السجون بسبب استهلاك القنب الهندي، وتعول البقية على اقتصاد التهريب والاقتصاد اللانظامي للاستمرار في العيش.. بالمقابل تسعى بعض الحركات الشبابية المكونة من الطلاب وخريجي الجامعات لإسماع مطالبها ووجهة نظرها، لكن فعلها لا يزال هشاً وضعيفاً وغير مؤثر.
بين عدم سقوط النظام و"خيانة الثورة"
رحل بن علي، لكن النظام لم يسقط، بل إن قدرته على التأقلم وحصانته قد زادت من خلال النخب السياسية الجديدة التي لم تتمكن من تقديم بدائل حقيقية ولم تستطع بلورة مشروع مجتمعي مغري، حيث بنت فعلها على منطق التحالفات والتفاوضات دون أن تمتلك مشروعاً سياسياً وقيمياً مشتركاً وفعلياً.
"تحقيق مطالب الثورة" يتعلق بالعدالة الاجتماعية وبتحقيق التنمية في المناطق الداخلية المحرومة
"فالاستثناء التونسي" يُنجَز دون رؤية وفلسفة يمكنهما إعطاء الأمل للفئات المحرومة والطبقات المتوسطة. وذلك هو ما عمق الإحباطات وفتح المجال واسعاً أمام '' قوى النظام القديم" لتدارك الموقف والعودة من الأبواب الواسعة. القطيعة بين الحكام الجدد والقدامى لم تكن جذرية، ولعل من المفارقات أن "ثورة 14 جانفي" التي استندت إلى القيم الكونية المتعلقة بالحرية، أتت فعلياً بالقوى الدينية إلى الواجهة وجعلتها تحتل الصدارة. ففي ظل تزايد الفقر والتهميش الاجتماعي يرتفع منسوب التدين لدى الفئات الشعبية، ويغزو الحجاب الفضاءات العامة، وتستعاد القيم المحافظة.
وفي سياق آخر فوجئ التونسيون أن الفساد الذي ثاروا ضده قد تزايد منسوبه بحسب عدة تقارير دولية ومحلية، وأن مرتكبيه القدامى والجدد قد تم الصفح عنهم، وأنه ثمة "طائفية سياسية" تتستر على هؤلاء وتحميهم حتى مسميات عدة. فالتهرب من المحاسبة والعقاب صار ممكناً بعد الثورة. كما تشعر الطبقة المتوسطة أن التهاوي لمجاورة الفقراء صار واقعاً. في ظل هذا صعدت "النخب الجديدة للعولمة" المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقوى العالمية وصناديق الاقتراض الكبرى، لتوجه مسار الخيارت السياسية والاجتماعية نحو أفق نيوليبرالي، في حين تجبر أغلبية السكان على الانخراط في عالم الشغل والإنتاج اللانظامي، وهو عالم يصاغ خارج الدولة وخارج المؤسسات.