الجزء الثالث من سلسلة "تعالَ معي إلى الصعيد"، بعد الجزأَين الأول والثاني اللذين تناولا بالترتيب: تشريح قرية باستعادة ملامح حياة الصعيديين، وتركيبة القرى السكانية وبناها التحتية وأوضاعها المعيشية.. يتطرّق هذا الجزء لحالة مدارس الصعيد وأوضاع الطلاب فيها ومستوى التعليم الذي بلغ دركاً خطيراً، وهي مشكلات يبدو انها مشتركة مع باقي المدارس في الأراضي المصرية..
كنتُ أعتقد أن كثيراً من المشكلات التي ذكرتها هنا (بخلاف طبعاً الخصائص السيئة الملتصقة بالنظام التعليمي المصري بوجه عام، على مستوى المقررات والمعلم وطرق التدريس والتقويم) تخصّ مدارس الصعيد. لكن اتضح أنها موجودة أيضا في مدارس المدن الكبرى، وفي مناطق ليست شعبية أو عشوائية أو نائية (مع التأكيد بالطبع على حق أطفال هذه المناطق في الحصول على تعليم لائق). يبدو أن عجلة "التدهور" تسير بوتيرة أسرع كثيراً مما نتصور، وأنه بدلاً من إصلاح المعطوب فإن العطب يمتد وينتشر ليطال المزيد والمزيد، أما التطوير فليس له وجود إلا على صفحات الجرائد وألسنة المسؤولين.
***
المدرسة
تضم القرية 4 مدارس ابتدائية (إحداها منقولة إلى مدرسة أخرى وتعمل في فترة مسائية لتهدُّم مبناها، وأخرى صغيرة لا يتجاوز عدد تلاميذها 165 تلميذاً بواقع فصل واحد لكل سنة دراسية)، ومدرسة إعدادية واحدة، جميعها حكومية "عادية" )هناك مدارس حكومية "مميزة" (اسماً) بمصروفات أعلى، ومدارس خاصة في المدينة)، ولا توجد مدرسة ثانوية. وهناك معهد أزهري.
إحدى المدارس الابتدائية (كنموذج) تتكون من مبنيين، أحدهما قديم بحاجة إلى ترميم والآخر حديث بُنِيَ بمنحة ألمانية، لذلك يسمّى "المبنى الألماني". وبينما مقاعد التلاميذ في المبنى الأول قديمة مثله، ومتهالكة، فإن مقاعد المبنى "الألماني" مصممة لجلوس طفلين فقط. ومع ارتفاع كثافة الفصول، والعجز في عدد المقاعد (يتجاوز عدد التلاميذ في الفصل ال40 ويمكن أن يقترب من 60)، يضطر التلاميذ للجلوس على الفاصل الحديدي في منتصف المقعد.
تفتقد المدرسة (التي يعدّ مدرسوها قريتهم من القرى "المتقدمة"، ويؤكدون أن هناك مدراس في قرى أخرى حالها أسوء بكثير) كثيرا من التجهيزات، إذ لا توجد مثلا حجرات خاصة بالمدرسين. صارت حجرة الرسم مقراً لمدرسين من تخصصات مختلفة فلم يعد فيها مكان للتلاميذ ولحصص الرسم خاصة بعد توزيع مقاعدها على الفصول لسد العجز. أما باقي المدرسين فيتناثرون في أماكن مختلفة. وبخلاف حمّام يعاني من طفح وآخر مغلق غير موصول بالمياه، لا توجد حمامات خاصة بالمدرّسين. أما حمامات التلاميذ فتعاني مشاكل في الصرف وبحاجة إلى إصلاح، لكن الجهات المختصة جاءت وعاينت وقررت أن "حالتها ليست سيئة للغاية وأنها أفضل من مدارس أخرى".
ولا توجد حجرات خاصة لممارسة الأنشطة المدرسية "المتاحة" كالاقتصاد المنزلي أو النشاط الصناعي، إذ تجرى ممارستها في الطـُرْقة (أمام الفصول) مثلاً أو في فناء المدرسة الذي اقتطع جزء منه للمدرسة الإعدادية المجاورة. لا توجد أدوات رياضية لنشاط الألعاب "كان فيه كورتين، الأستاذ جايبهم على حسابه أخدهم معاه لما مشي"، يشير أحد التلاميذ، الذي يشكو أيضاً من ضرب أساتذة للتلاميذ في المدرسة وسبّهم. أما نشاط الموسيقى فغير مدرَج أصلا في الأنشطة، فلا أدوات، سوى طبلة و"كسيليفون" غير مستعملة، ولا يوجد أصلا مدرِّس موسيقى. وإن أقيمت حفلات في بعض المناسبات تكون بمبادرات وجهود ذاتية من المدرسين. أما نشاط الحاسب الآلي فيجري اختيار التلاميذ "المتميزين" فقط للاشتراك به لعدم كفاية الأجهزة، إذ يدرّب الجميع على جهاز واحد من أصل 3 أجهزة، أحدها مخصص لملفات المدرسة والآخر عاطل عن العمل، مثله مثل شاشة العرض الكبيرة والجهاز الملحَق بها.
تعمل هذه المدرسة بنظام الفترتين منذ عامين بعد ضمّ مدرسة أخرى إليها كفترة ثانية، لأن هذه الأخيرة مبناها آيل للسقوط (وهذا وضع متكرّر في قرى أخرى)، وهو ما أدى إلى ضغط وقت الحصص الدراسية وأثقل كاهل التلاميذ الصغار (6 - 11 عاماً) الذين صاروا مطالبين بقطع مسافة أطول للوصول إلى المدرسة البديلة، خصوصاً بالنسبة للتلاميذ الذين ينتمون إلى أسر منخفضة الدخل، فهناك من يذهب سيراً على الأقدام أو على عربة خشبية يجرها حمار أو وسائل أخرى مكشوفة يتكدس فوقها الأطفال.. "الفترة المسائية تنتهي قبيل المغرب وبعض التلاميذ تقع بيوتهم وسط حقول القصب مما يشكل خطراً عليهم" يقول أحد المدرسين. وخلال عامين لم يحدث أي تقدم في عملية إعادة بناء المبنى المتهالك هذا، وهناك خلاف بين هيئة الأبنية التعليمية وأسرة من الأهالي هي المالك الأصلي للمبنى حول تفاصيل البناء الجديد وحدوده.. ولا يوجد أصلاً موعد محدد للانتهاء من هذه الأعمال. دفع هذا الوضع التلاميذ وأولياء الأمور، الذين يخافون على أبنائهم من حوادث الطرق، إلى تنظيم وقفة احتجاجية بمقرّ المدرسة مطلع العام الدراسي الحالي للمطالبة بالعودة إليها. لكن الوضع في النهاية استمر على ما هو عليه.
فوضى التخصّصات
ومع وجود أساتذة متخصصين في المواد التي يدرّسونها أو حاصلين على دبلوم معلّمين/ معلمات يدرّسون للصفوف الأولى، فإن هناك أيضاً قدراً كبيراً من فوضى التخصّصات. لا يقتصر الأمر على الأنشطة (التي تعيق الميزانية وطرق صرفها المعقّدة ممارسة فعالة لها) بل يشمل كذلك المواد الأساسية كاللغة العربية والرياضيات، سيراً على مبدأ "الزيادة تسد العجز" الذي يبدو أنه سياسة عامة اتخذتها الوزارة مؤخراً. فأحد مدرسي الرياضيات بالمدرسة تخصصه الأصلي دراسات اجتماعية، ومن تدرّس اللغة العربية متخرجة في كلية التربية شعبة العلوم، وهي تسدّ عجز مدرس متخصص نقل إجبارياً إلى مدرسة أخرى (تنفيذا لقرار الوزارة الأخير بإعادة توزيع المعلمين على مستوى الجمهورية، وهو القرار الذي نُفِّذ بصورة لا تراعي صالح العملية التعليمية بل لا تراعي المنطق، وعلى إثره نقل معلمون (ومعلمات) في القرية إلى مدارس بعيدة تقع في قرى تتبع مراكز أخرى!).
ولكي تكتمل الكوميديا (السوداء بطبيعة الحال)، فإن هذه المدرِّسة التي تقول إنها تعتمد على زميل لها متخصص يشرح لها كل درس قبل الحصة لتتمكن من شرحه للتلاميذ.. تدرّس أيضا الألعاب (التربية الرياضية): "عندي الحصة الأولى عربي والثانية ألعاب" ومن قبل كانت تدرس التربية الفنية! أما المسؤول عن المكتبة التي تحتل حجرة ضيقة للغاية، فحاصل على مؤهل غير جامعي وهو أصلاً لا يحضر إلا نادراً، فتحولت المكتبة إلى مكان لجلوس أحد المدرسين للاستراحة بين الحصص مثلا أو لتحضير درس. كما لا يوجد مسؤول طبي في المدرسة.
تلميذ وأجير
وبينما ترتدي البنات مريلة فاتحة اللون، فإن الأولاد لا يلتزمون بزي موحد "بالرغم من قرار الوزارة بتوحيد الزي، فنحن نتساهل في الأمر لأننا نعلم أن هناك مستويات اقتصادية لن تستطيع توفير الزي المطلوب لأبنائها، وإذا ضغطنا عليهم قد يؤدي الأمر إلى توقفهم عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة" تقول الأخصائية الاجتماعية. وفي موسم حصاد القصب ترتفع نسبة غياب التلاميذ الذين ينتمون إلى أسر فقيرة لانخراطهم في أعمال الحصاد كأجراء، يتقاضون أجوراً زهيدة مقارنة بالكبار. كما تدفع الأوضاع الاقتصادية السيئة البعض، في مراحل تعليمية مختلفة، إلى عدم إكمال تعليمهم إذ يتجهون إلى العمل سواء في الزراعة أم سواها وكلها دنيا بطبيعة الحال.
الغش وأشياء أخرى
تنتشر الدروس الخصوصية، كما توجد حالات غش تجري أحيانا بصور فجة (وهذا يفسر أن يكون الطالب قد وصل إلى نهاية المرحلة الابتدائية أو في المرحلة الإعدادية وهو غير قادر على كتابة اسمه!). وتتدخل هنا بالطبع علاقات القرابة والمعرفة. وفي سبيل تحقيق الغاية المتمثلة في أن تكون نسبة النجاح مرتفعة، تكون كل الوسائل مبررّة. وهذه النسبة المرتفعة بالطبع لا تعبّر عن المستوى الحقيقي (المنخفض) للتلاميذ.
أحد مدرسي الرياضيات بالمدرسة تخصصه الأصلي دراسات اجتماعية، ومن تُدرّس اللغة العربية متخرجة من شعبة العلوم، وهي تسدّ مكان مدرِّس متخصص نقل إجبارياً إلى مدرسة أخرى
أما المعهد الأزهري فيشمل المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية (للجنسين). وقد قلّ الإقبال عليه بدرجة كبيرة، فعدد تلاميذ المرحلة الابتدائية على سبيل المثال أقل من ثلث عددهم قبل بضع سنوات. هناك أيضا نقص في التجهيزات، فالمعامل مثلا تخلو من الأجهزة المطلوبة. وينتشر الغش أيضا ("لو ما غشوش مش ها ينجحوا" يقول أحد العاملين في المعهد). وفيما يتعلق بالأنشطة، نجد أنه بينما تتسع حجرة نشاط الاقتصاد المنزلي (للبنات)، فإنه لا يسمح لهن بممارسة نشاط التربية الرياضية بعد المرحلة الابتدائية (فقد كبرن!) وذلك على الرغم من اتساع مساحة المعهد وتعدد مبانيه. ويتساوى الجميع في الحرمان من نشاط الموسيقى، والمسألة هنا ليست مسألة إمكانيات بقدر ما هي منع واستبعاد، وهو أمر ليس غريباً في نظام تعليمي تسيطر عليه عقول سلفية.
إحصاءات مرتبطة بالمقال:
وفقاً للمسح الشامل لخصائص الريف المصري لعام 2015 الذي أجراه "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء":
95.3 في المئة من القرى بها مدارس ابتدائية حكومية
18.2 في المئة فقط بها مدارس ثانوية
82 في المئة بها مدارس إعدادية
85 في المئة بها مدارس ابتدائية وإعدادية
أقرب جامعة للقرية هي جامعة "قنا" أو "جنوب الوادي"، وهناك أيضا جامعتا سوهاج وأسيوط. وبوجه عام فهناك 7 جامعات في الصعيد. وباستثناء جامعة أسيوط التي تعد ثالث أقدم جامعة في مصر (بعد القاهرة والإسكندرية)، فإن هذه الجامعات ظلت لسنوات طويلة فروعاً لجامعات أخرى (القاهرة وأسيوط) قبل أن تصبح جامعات مستقلة. يقول أستاذ بإحدى الكليات النظرية بجامعة المنيا: "جامعات الوجه البحري، وعلى رأسها القاهرة والإسكندرية أفضل حالاً منا بكثير. ويتسع الفارق في التخصصات العملية. نحن في جامعة المنيا على سبيل المثال نعاني من ضعف المكتبات وغياب الفعاليات الثقافية. نفتقد مراكز تعليم اللغات وغيرها من المراكز الثقافية وكذلك المكتبات العامة، إذ توجد مكتبتان في مدينتنا، مكتبة مجلس المدينة ومكتبة قصر الثقافة، وكتبها عتيقة متهالكة وموظفوها غير متخصصين. كنت في مرحلتي الماجستير والدكتوراه أضطر للسفر إلى القاهرة والإسكندرية وغيرهما للاطلاع على الكتب التي أحتاجها. الآن سهّل الإنترنت الأمور لكن تظل المكتبة الورقية مهمة لا يمكن الاستغناء عنها". كما يشكو طلاب وباحثون من النظرة الفوقية لبعض الأساتذة المعينين من خارج الصعيد إليهم ومن غياب المراكز البحثية التي تستوعب طاقاتهم.
ويضيف الأستاذ: "يعكس وضع جامعات الصعيد الأوضاع العامة في هذه المحافظات المظلومة تعليمياً وثقافياً وصحياً وإعلامياً. وظلم الصعيد درجات. فالمدينة مظلومة بدرجة والقرية بدرجة أكبر بكثير. المشكلة أن الدولة دائماً تركز على الإجراءات الشكلية للاستهلاك الإعلامي، وتلجأ للحلول الوقتية أو العُرْفية وليس الحقيقية الجذرية. الإصلاح ليس مستحيلاً ويمكن تحقيقه ولو بصورة تدريجية لو كانت هناك إرادة حقيقية وقوية من قبل الدولة. حتى أشد عادات وتقاليد الصعيد تغلغلاً وقسوة مثل الثأر يمكن معالجتها والتغلب عليها بالتوعية المكثفة والمستمرة، وبتطبيق القانون بصورة صارمة وسريعة حتى يستعيد الناس ثقتهم فيه، وبنشر المؤسسات الثقافية لبث الوعي والتنوير.
تبلغ نسبة سكان الصعيد الوجه القبلي، بحسب التعداد الأخير الذي أجري عام 2006، 33 في المئة من مجمل المصريين. ويشمل الوجه القبلي محافظات الجيزة، بني سويف، الفيوم، المنيا، أسيوط، سوهاج، قنا، أسوان، والأقصر.