يتحوّل المغرب إلى مكان تجمع للاجئين من أفريقيا السوداء الذين يطمحون للوصول إلى "الجنة"، أوروبا القريبة عبر مدينة طنجة حيث الفاصل البحري لا يتجاوز 14 كلم، أو عبر مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين المحتلتين من إسبانيا.. تتوقف رحلتهم الشاقة نتيجة تشدّد السلطات والتحصينات الحدودية، فيعلقون بلا عبور وبلا رغبة أو إمكانية بالعودة إلى بلدانهم. ويعيشون في المغرب في مجمّعات معزولة وفي ظل شروط بالغة السوء
يجلس مامادو على سور "المعجازين" في طنجة، المطلّ على البحر، في مواجهة حلمه الأوروبي الذي يقف قبالته، ولا يحول بينهما إلّا 14 كيلومتراً، هي المسافة التي تفصل الضّفة الإفريقية التي قدم من أعماقها، والضّفة الأوروبية التي يريد الوصول إليها. يعترف أنّه حين قرر ترك كل شيء والارتماء في مجاهل الطّرق نحو شمال القارة الأفريقية، لم يكن يتوقّع أنّ الرحلة ستكون بهذه الصّعوبة وأن الطريق إلى الجنّة ستكون مفروشة بالجحيم.
استمرت رحلته قرابة أسبوعين، انطلاقاً من بلده مالي، مروراً بالجزائر، وصولاً إلى المغرب على الأقدام. كانت رحلة جماعيّة مع عشرات غيره من الحالمين. بعد وصوله إلى المغرب، آخر نقطة من القارّة التي يريد مغادرتها، اكتشف مامادو حياة ممكنة بعد طول انتظار للعبور، تتكلّل بالحصول على بطاقة إقامة. وإلاّ فيمكنه رهن الأيام للانتظار مهما طال، حتى تتاح الفرصة للهجرة ولو بعد حين. فحين لا يكون لديك شيئٌ آخر غير الوقت، فغالباً ستمنحه بسخاء.
محاولة الاندماج وصعوبة التوافق
تثير وضعية المهاجرين الأفارقة السّاعين للعبور إلى أوروبا من المغرب تساؤلات عديدة حول مستقبل الذين لم يوفقوا في العبور، وهم أغلبية قابلة للتزايد. كيف سيندمجون في المجتمع المغربي الذي لم يتعوّد على استقبال أجانب في وضعية صعبة؟ وكيف ستتعامل الدولة المغربية بمؤسساتها الاجتماعية والإدارية والأمنية معهم؟ وهؤلاء المهاجرون يقطعون مسافات طويلة، والمحظوظون منهم يأخذون حافلات، فيما الآخرون يمتطون الطّريق بأقدام مصمّمة على المشي، مهما كانت وعورة هذه الطريق أو مخاطرها، أو نهايتها المجهولة. ثم بعد الوصول، يقطعون مسافات أخرى من الشّرق، باتجاه شمال المغرب من حيث يأملون بالعبور. وحين يصلون إلى تلك النقطة، يتشتتّون في الغابات بعيداً عن أعين الشرطة، في ظروف قاسية، أو يتوجهون مباشرة إلى المدن الكبرى والسّاحلية التي تقربهم من مكان ذلك العبور.
ينزلون عادة في شقق صغيرة استأجرها أصدقاءٌ لهم عندهم إقامة قانونية، في جماعات تتكوّم في أمتار قليلة، في غياب شروط مقبولة. أو يقيمون في العراء، خارج المدينة، حيث يتدبرون أمورهم بالكاد، فيصنعون خياماً من قصب وكرتون وأكياس بلاستيكية. أو ينامون في أنفاق مجاري لم يتم استعمالها، أو يفترشون الأرض العراء إن تعذرت الوسائل الأخرى. يأكلون بعض ما يجمعونه من حاويات النّفايات، أو ما يمنحه لهم المحسنون.. أو، وكما يفعل مامادو، يأخذون بعض الخضار من البائعين، لقاء مساعدتهم في حمل الصناديق وتنظيف البسطات.
يقطع المهاجرون مسافات طويلة، والمحظوظون منهم يأخذون حافلات، فيما الآخرون يمتطون الطّريق بأقدام مصمّمة على المشي، مهما كانت وعورة هذه الطريق أو مخاطرها، أو نهايتها المجهولة
في طنجة، التي يعتقدون أنها بوابة ذلك العبور، يوجد مهاجرون من كافّة الأعمار، معظمهم شباب، لكنّ بعضهم تجاوز الأربعين. أكثريتهم من الرجال مع تزايد مستمر في أعداد النساء اللّواتي تُثرن العجب لأنهن تنجبن وتتحملن مسؤولية أطفال في وضعهن الصعب. لكن وكما يقال، فإذا عُرِف السبب بَطل العجب، إذ يمكن للمهاجرات السّريات اللواتي يُنجبن في المغرب الحصول على بطاقة إقامة بشكل أسهل وأضمن، كما أن الشرطة لا تضايقهن إجمالاً وهن يحملن أطفالهن.. الذين هم أيضاً وسيلة للحصول على رزق من التّسول.
وإذا كان المهاجرون الأفارقة لا يجدون ما يقتاتون به، فهم بلا شك يعيشون من دون رعاية صحيّة. لذا يشتكي معظم المهاجرين السّريّين من صعوبة العيش في المغرب، فلا مأوى ولا عمل ولا أكل ولا معاملة جيّدة. الشّرطة تطاردهم وتدفعهم إلى الحدود، مكدّسين في شاحنات. والسّكان لا يتقبلونهم جيداً، ويرمقونهم بتوجّس، فاطيماتا من غينيا بيساو تقول "حتى الأطفال يضايقوننا". فعلى الرغم من انفتاح المجتمع المغربي، إلّا أنّ الأجانب الذين استقبلهم في العقود الأخيرة هم أوروبيون ميسورو الحال، أو عربٌ أثرياء.. باستثناء اللاجئين السوريين الذين، على الرغم من صعوبة وضعهم، إلا أنّهم لا يواجهون نظرات الرّيبة لأنهم آتون من مكان يشبهه إجمالاً. فيما يصعب عليه تقبّل المهاجرين الأفارقة السود الذين بالكاد يعرف عنهم شيئاً، ويراهم غرباء يشكّلون تهديداً لأمنه ومصدر رزقه، مع أنّهم في نهاية المطاف جيرانه في الجغرافيا.. وهو يرى هؤلاء الأفارقة الذين لا يملكون شيئاً عبئاً إضافياً عليه، خاصة أنّه يدرك، وهو الخبير في شؤون الهجرة، أنّ معظمهم سيعلق هنا ولن ينجح في عبور المتوسّط، ولن يمكنه العودة إلى بلاده كذلك. وهذا أمرٌ لا يستطيع تقبّله بينما هو غارق في مشاكل اجتماعية واقتصادية لا حصر لها. كما أنّه، وعلى الرغم من التّعايش الذي يتميز به المجتمع المغربي، إلا أن هناك فئات عريضة من العنصريين داخله.
هناك "فئة محظوظة" من الأفارقة السود استطاعوا إيجاد عملٍ بسيط يكفيهم للحاجات الأولية، وهو يتراوح غالباً بين بيع المجوهرات المزوّرة بالتقسيط، وأعمال يدوية إذا وجدوا من يقبل تشغيلهم. وهناك بعض أصحاب الشهادات، أو المهاجرون بشكلٍ قانوني، استطاعوا إيجاد عملٍ حقيقيّ في المدن الكبرى حيث المجتمع أكثر استعداداً لتقبّلهم. وعلاوة على شبكات بيع المجوهرات المزيّفة التي يختصّون بها، فهناك استيراد الملابس الإفريقية المتنوّعة، وخاصة مع اتّساع عدد المقيمين منهم في المغرب بشكل قانونيّ، بما فيهم الطّلبة الذين يستفيدون من منح دراسية تقدّمها لهم الدولة المغربيّة في إطار شراكات مع دولهم.
التكتّل كوسيلة لتعويض الاندماج
ولانعدام فرص الاندماج في غياب إقامة قانونية، وعمل قار يتيح لهم فرص إثبات وجودهم كأفراد متحضّرين وقادرين على توفير حياة كريمة، يتكتل المهاجرون الأفارقة في انتظار الحلم الأوروبي في جماعات، وينتقلون في جماعات... باستثناء من جاؤوا المغرب للدراسة والعمل، الذين يتمكنون من الاندماج بشكل أفضل، ويتقبّلهم المغاربة أكثر. وهؤلاء أيضا يفتحون أبوابهم للمهاجرين السّريين من بلدانهم، ويسمحون لهم بالإقامة معهم مستفيدين من وضعهم المستقر، لكن في أحياء هامشية معينة حيث يتساهل أصحاب الشقق فيها معهم. أما في وسط المدينة، فذلك غير ممكن أبداً، بل يصل الأمر ببعض أصحاب الشّقق إلى منع مستأجريهم الأفارقة من استقبال زوار، تفادياً لتحوّل الضّيوف إلى مقيمين خلسة عندهم. لذا يجد المهاجرون الأفارقة (القانونيون والسريون) في التّجمع في أحياء معينة وسيلة لخلق حياة ممكنة، وتعويض صعوبة الاندماج بخلق مجتمع أفريقي مصغر.
في طنجة، كانت البداية من حي بوخالف المجاور لكلية الحقوق، مستفيدين من بُعدِه عن وسط المدينة، ووجود طلبة أفارقة مقيمون هناك. ومع الزمن، ازداد العدد فأصبحوا نصف ساكنة هذا الحي، بشكل قانوني بالإيجار، أو غير قانوني من خلال اقتحام شقق خالية تركها أصحابها لسبب ما، وحين يعودون يجدونها مكتظّة بأكوامٍ بشرية من المهاجرين، ما يؤدي إلى صدامات عنيفة أحياناً. وحالياً، يعتبر هذا الحي من أكبر تجمّعات المهاجرين الأفارقة في المغرب وأشهرها خاصة بعد وقوع أحداث عنف ومواجهات بينهم وبعض السّكان المحليين.
أكثريتهم من الرجال، مع تزايد مستمر في أعداد النساء. ويمكن للمهاجرات السّريات اللواتي يُنجبن في المغرب الحصول على بطاقة إقامة بشكل أسهل وأضمن، كما أن الشرطة لا تضايقهن إجمالاً وهن يحملن أطفالهن.. الذين هم أيضاً وسيلة للحصول على رزق من التّسول
ومن الحلول التي وجدها المهاجرون الأفارقة، اللّجوء إلى الكنيسة خاصة في الآحاد، حيث لم تعد الكنائس خاوية بفضل وجودهم. فيلتقون هناك ويتوحّدون ويتشاركون التّجارب والنصائح. وهناك أيضاً يتلقى المهاجرون السرّيون معوناتٍ غذائية وملابس من رعيّة الكنيسة، حيث تُخصّص أيام الإثنين والخميس لاستقبالهم ومنحهم بعض المساعدات العينية. كما استطاعوا تأسيس نادٍ ثقافي، ويقيمون مهرجاناً موسيقياً أسبوعياً في فندق "فيلا فرنسا" الذي شهرته لوحة ماتيس "النافذة" المرسومة فيه.
ومع قطع كلّ الطّرق المؤدّية إلى الهجرة، يبقى خيار الاستقرار في المغرب لهؤلاء المهاجرين حلًا لا خيار فيه، أمام تشديد السّلطات الإسبانية المحتلة للمدينتين المغربيتين سبتة ومليلية، اللتان يحاول المهاجرون جاهدين الوصول إليهما، ولكنّ المحاولات تلك عادة ما تفشل، لأن التّحصينات الحدودية، منذ تعرّضها مع بداية القرن الحالي لتدفّق كثيف ومنظم، باتت مؤمّنة بثلاثة صفوف من الأسلاك الشّائكة الخطرة للغاية، التي يتعرّض بسببها المهاجرون لإصابات بليغة. وهم الذين يتنقلون في جماعات تضمّ مئات منهم نحوها. فإذا استطاعوا النّفاذ من الشرطة المغربية، تواجههم هذه الأسلاك كنهايات قاتلة للحلم العزيز. ولأنّ اجتياز هذه الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي بات الآن أمراً مستحيلاً، يحاول المهاجرون الوصول بسفن بدائية وبقوارب مطاطية أو حتى سباحةً إلى المدينتين، أو التّسلل في شاحنات بضائع من ميناء طنجة. قليل منهم من ينجح، فيما يعيش الباقون على إيقاع انتظار طويل لتحقّق حلم قد يؤدّون حيواتهم ثمناً له