مقابلة لإذاعة الوضع مع الباحث فارع المسلمي، الكاتب في السفير العربي، وأحد مؤسسي "مركز صنعاء للدراسات الاستراتجية".
أجرت المقابلة: نهلة الشهال
لماذا هناك تحالف بين الحوثي وصالح؟
بين الحوثي وصالح اجتماع مناطقي وطائفي، ككيانات بدائية في نهاية المطاف تزدهر مع غياب الهوية الوطنية، وهذا أكثر ما يوحدّهم. التفكير بصالح والحوثي يجب أن يكون كما التفكير بداعش والقاعدة. هما متنافسان، حليفان ومتنافسان على أرضية مشتركة، ومتنافسان على نفس الموارد، هوية الصالحي والمؤتمري تتقاطع مع هوية الحوثي أصلاً، وفي مناطق جغرافية معينة. حالياً تجمعهم طموحات غير دستورية وأحلام بدائية، لكن في الوقت نفسه هم جماعات غير متجانسة أصلاً تماماً كما هم القاعدة وداعش.
ما هي مصلحة السعودية تحديداً في شن هذه الحرب المكلفة لهم، وهي بلا أفق؟
لا أعرف الإجابة على هذا السؤال وهو هام. فعلياً وبعد أكثر من سنتين ما زلت اسأل لماذا استمرّت السعودية في هذه الحرب. ممكن أن يكون لأسباب معينة في لحظة إقليمية وتاريخية، وهناك هنا عوامل مهمّة. أولاً كان الغرب يمشي بعيداً مع إيران في الاتفاق النووي، وكان يريد أن يقدّم للسعودية أي بقشيش، فكان في تلك اللحظة المعينة هو اليمن: إعملي ما شئتِ في اليمن! ثانياً، كانت السعودية تعتقد أنها لن تُساءل غربياً بخصوص اليمن. فخلال أول سنة ونصف من الحرب، سُئلت السعودية واستجوبت غربياً عن جلد محكمة سعودية لرائف بدوي على سبيل المثال، أكثر مما استُجوبت أو سُئلت عن حرب اليمن. بل حتى أنّ إيران استثمرت في الدبلوماسية والإعلام العربي والعالمي في مقتل نمر النمر أكثر ما استثمرت في الدفاع عن الحوثيين أو صالح، حلفائها المفترضين في اليمن حالياً. اليمن بلد منخفض الثمن.. هذا أولاً. وثانياً هناك موضوع وجودي وهو أن الحوثيين جماعة تعرف شيئاً واحداً هو الحرب، هم ميليشيا. الحل المثالي هو الحرب، وهكذا لا يعود يواجه أسئلة الدولة، ولا شارعاً. يبقى شيء مهم هو أن تحاربه بمنطق قوته وليس بمنطق قوتك. دعكم من فكرة فشل الدبلوماسية العربية والتنظير لحرب لم تكن لتبدأ.. أمرٌ فاجع عندما تدرك ضحالة العقل العربي في التنظير لحرب دامية، مع كل ما يكشفه ذلك من عجز وفشل للعقل والسياسة والدبلوماسية وحتى للمال. هذه فكرة مكشوفة بشكل مخيف. الهجمة الغربية والابتزاز المكثف للسعودية عبر قانون "جاستا" الامريكي، وعبر الكثير من الأشياء، يجعلها تتعرض لمضايقات كثيرة وابتزازات بخصوص اليمن، ولذلك فواحد من الأشياء القليلة جداً التي يمكن أن تقوم بها السعودية لإنقاذ نفسها بالمعنى العام، والمعنى الخاص مع الغرب، وإنقاذ نفوذها القوي هو إنهاء حرب اليمن على وجه السرعة.
هناك مثل شهير ينقل عن العثمانيين يقول: من لم يربّه الزمن، تربّيه اليمن. بلدٌ صعب، وهذا لا ينطبق على من قدم إليه من الخارج فقط، بل حتى على أبنائه، أي واحد يحاول أن يتعالى على اليمن تكسره. حينما حاول صالح أن ينتهك فكرة الجمهورية اليمنية ويورث ابنه كسرته، حينما حاول الحوثيون أن يوقظوا مخاوف تاريخية معينة لليمن والاستيلاء عليها كأقلية كُسروا، وقد كُسروا محلّيا أكثر مما كُسروا دولياً.
في صنعاء هناك واحدة من أقدم و أهم المدارس الحكومية، هي "مدرسة الكويت"، والكويت بنتها منذ عشرات السنين وهي من أوائل المدارس في البلاد. منذ سنة ذهب محمد الحوثي رئيس اللجنة الحوثية الى المدرسة لتجنيد الطلاب وأخرجه الطلاب.. طُرد من الطابور الصباحي بترتيلهم النشيد الجمهوري. فكرة مهيبة فعلاً وسياق وطني مباشر وتلقائي.. طبعاً في ذلك اليوم أعاد الحوثيون تشكيل اللجنة العليا للمناهج، وهذا خطير. الشاهد هنا أن هذه المدرسة دافعت عن الجمهورية اليمنية وعن الخليج وعن فكرة العيش في 2016 خلال عشر دقائق فقط أكثر من كل ملايين الدولارات التي صرفتها دول الخليج على الأسلحة التي اشتراها علي عبد الله صالح. الطريق واضح، فيما لو كنت تريد أن تنقذ بلداً أو تدمره.
بغضّ النظر عن السياقات التي أشرتَ لها، بعد خروج الحوثيين من منطقتهم تحالفوا مع علي عبد الله صالح واحتلوا صنعاء، هل كان هناك طريقة أخرى غير شن الحرب التي قامت بها السعودية، لمنع اليمن أن تسقط بأكملها بين أيديهم أو من أن تشتعل حرب بين مختلف مكوّنات المجتمع اليمني؟ هل كان أمام السعودية ذات النفوذ الكبير والتاريخ العريق من العلاقة باليمن أسلوب آخر وكيف يمكن أن تُحلّ مسألة صالح- الحوثيين؟
الاستدراك بخصوص السعودية واليمن مهمّ. نفوذ السعودية في اليمن أكثر من نفوذ الدولة اليمنية. للأسف هذا واقع. ثانياً، قصة الحلّ والنجاة من الحرب تعتمد بشكل أساسي على شيء مهم وهو من المنتصر هنا ومن القويّ. يستطيع القوي فقط أن يقدّم هذه التنازلات أو يمتلك هذه المظلة الرعائية، والقوي كان في لحظة من اللحظات ما بين أيلول/ سبتمبر2014 وكانون الثاني/ يناير2015 هو الحوثيون، ويوجد مثل يمني يقول "الله لا يجمع بين شرّين: قلة عقل وكثرة بنادق". وهؤلاء جماعة بلا عقل ولديهم الكثير من السلاح، وتوفّرت لهم فرصة التغيير أكثر ما توفرت في 2011 لسبب مهمّ هو أن مراكز القوة في 2011 لم تفكك إنما قفزت إلى الأمام، لكن في 2014 انهارت فعلياً. المشكلة أن الحوثيين لم يهدفوا الى فكفكة هذه القوى في اليمن بل كانوا يريدون استبدالها بأنفسهم.
وثانياً، كان يمكن للسعودية إذا أرادت أن تخلق شراكة وطنية أهم من كل السياقات الماضية وبالرغم من كلّ شيء. لم يتمّ الاستثمار في السلام في اليمن بشكل حقيقي من قبل السعودية. ابن علي عبد الله صالح ما يزال حتى اليوم يعيش في الإمارات وتحت رعاية الدولة الرسمية، فكيف كنتم تخوضون حرباً مع اليمن؟ هذا واقع، ولم توجد نية حقيقية لإنهاء الحرب. يوجد مشكلة حقيقية في اليمن، هي الجمهورية الوحيدة في جنوب شبه الجزيرة العربية وهذا يمثّل إرباكاً مهماً، بغض النظر عن النوايا، ووجود اليمن الجغرافي يجعل الكل متوتراً منه، حين صوّت صالح في الـ90 على إقرار أرعن مؤيداً احتلال صدام حسين للكويت ومستهتراً بمصير الملايين من اليمنيين، ماذا فعل الخليج؟ السعودية والخليج طردوا ما يقارب مليون عامل يمني في اليوم الثاني من دول الخليج . كان هناك توجّه لمعاقبة اليمنيين وليس معاقبة صالح. اليوم يحصل نفس الشيء، ما تزال هناك وسائل ممكنة لمعاقبة صالح والحوثيين إذا كان هناك رغبة في إنهاء هذه الحرب أو في الوصول إلى ضوء ممكن في اليمن.
في كلّ هذا المشهد، أين اليمنيين؟ هل يعبّرون عن أنفسهم؟ (عدا عنكم كمجموعة شباب)، هل ممكن أن يعبّر عن نفسه هذا المجتمع بأشكال أخرى قد لا تكون واضحة أو جليّة أو تحمل يافطة، لكن أن يعبّر عن رغبة بمنحى ما، حتى إن لم يكن هذا أمراً متبلوراً سياسياً؟ أنت تقول جرى تجاوز 2011، هل كان 2011 بصفته أحد محطات الربيع العربي في اليمن يحمل فعلاً بذور خيارات أخرى؟ كانت ولا شك لحظة تاريخية مهمة بالنسبة لمستقبل اليمن، ليس فقط كانتفاضة وتمرّد واعتراض وشيء جميل.. لكن ماذا غير ذلك؟
السؤال الثاني يجيب على الأول، وهو "أين اليمنيون؟" كانت2011 من اللحظات التاريخية المهمة التي خرج فيها اليمنيون إلى الساحات وحاولوا تشكيل عقد اجتماعي جديد فيما بينهم. لكن تمّ العمل بشكل ممنهج على إعادة تعريف اليمنيين، وكانت حالة من الديمقراطية المربِكة حتى للغرب نفسه. كانت الحالة الثورية في 2011 مما لا يمكن حتى مأسستها بالمعنى الخشبي للديمقراطية أو للحالة التعبيرية للمجتمعات. كانت هذه اللحظة الخيار الوحيد أمام اليمن وقتها. كان اليمن رجلاً سجيناً لمدّة 33 سنة على الأقلّ، وخرج في 2011 من السجن، لكن إلى أين يريد أن يذهب، فهذا سؤال ثان.. لكنها كانت حالة ولادة ممكنة ليمن جديد، وفّرت له القوة والحالة السياسية، والأهمّ من هذا كله العمل السياسي الذي كسر أكثر نظام قمعي / احتيالي في المنطقة. العمل السياسي فيما بعد قام على السعي الى التوافق المطلق وهذا أسس لحالة من تقاسم الحصص الغنائمية ما بين الأطراف السياسية على حساب المجتمع.. نفور اليمنيين من هذا "التداول السلمي للفساد" هو ما بنى عليه لاحقاً الحوثيين لإسقاط صنعاء أيضاً. كانت هناك حالة من الرفض، ليس لعودة علي عبد الله صالح، بل لعودة زمنه. كان علي عبد الله صالح يحاول أن يعود كشخص وكان الرئيس هادي وتحالفه الجديد مع الإخوان المسلمين وصعودهم على الثورة الذي أتى بفاتورة باهظة جداً، هي محاولات لإعادة زمن علي عبد الله صالح. وهذه هي الحالة السياسية الموجودة إلى اليوم في اليمن. سئم اليمنيون من الحرب ويأخذ هذا أشكالاً كثيرة للتعبير عن نفسه. الاستقطابات السياسية تتمّ اليوم على قاعدة طائفية ومناطقية. رئيس البلد في مقابلة من فترة قريبة قال هؤلاء "أصحاب أزال"، هو يتكلم عن مواطنيه وكأنهم أعدائه. هذا الخطاب السياسي التي تفرضه الحكومة من المنفى والخطاب الطائفي السلالي الذي يفرضه الحوثيون من الداخل هو ما يمنع تشكيل حل. ماذا تبقى من اليمنيين؟ سؤال صعب وأنا اكذب إذا قلت أن لديّ إجابة.
قلت سئم اليمنيون من الحرب.. هل هناك سأم أم هناك حماس للاصطفاف بالخنادق؟
العمل الممنهج ضدّ فكرة أن هناك سأم عام من الحرب يجري من قبل الأطراف كلها، لأنّها تعرف أنها حالة تعبيرية حقيقية عند الناس، وأنها تمثل شيئاً.. ما هي السياسة؟ هي تعبير عن مصالح الناس. وأي أحد يعبر عن هذه المصالح سيمشي معه الناس بشكل أو بآخر، لأن الناس لا ترى أنّ هذا الصراع هو تعبير عن الحالة الحقيقية لليمنيين: "لا شفنا خيركم يا هادي ورجاله ولا سلمنا شرّكم يا حوثيين وصالح"، هذه هي الحالة بشكل عام على الرغم من الموارد التي تغري والأيديولوجيات التي تُمنح كغطاء لليمنيين. اليوم أغلب اليمنيون في حالة سأم أو أكثر من ذلك بحالة توق لانتهاء هذه الحرب. وبالنهاية أيضا الحديث عن الحرب سُوّق له أول شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، لكن بعدها الناس اكتشفوا أن هذا منطق احتيالي خادع. حالة عموم اليمنيين تقول بإنهاء هذه الحرب، أو بإنهاء هذه الحروب، وهذا أمر ممكن. يجب فقط إعادة تسخير الموارد له إقليمياً ودولياً. وعلى الصعيد المحلي يجب السماح لـ2011 أن تأخذ اعتبارها السياسي. 2011 ليست فكرة رومانسية بل هي لحظة سياسية تجاوزها غير ممكن، مثل فكرة الخروج من الاستعمار. ولا يمكن الكلام على نصف استعمار.. الفرصة الوحيدة لأن يعود اليمن السعيد هي البدء من 2011 وما بعد وليس العودة لما قبله بأشكال مختلفة وملتوية وبشعارات متنوعة.