ليس مستغرَباً ذلك الخبر الحزين: تنظيم داعش قام بهدم جامعة الموصل العريقة، بعد نهب جميع محتوياتها، يوم 22 كانون الأول / ديسمبر 2016، ليجد أهالي الموصل مدينتهم من دون جامعتها صباح اليوم التالي، لأول مرة منذ تأسيسيها عام 1959. الجامعة خرّجت آلاف العلماء والأطباء والمهندسين والأدباء، من عراقيين وعرب وأجانب. وكان تنظيم داعش قد فجّر من قبل كلية الزراعة التابعة لها في تشرين الأول / أكتوبر الفائت، عندما قرر الانسحاب منها بعد استخدام مبناها كثكنة عسكرية.
سبقت هذا اعتداءات أخرى فادحة على امتداد الفترة التي سيطر فيها التنظيم على الموصل. وكانت المديرة العامة للأونيسكو قد عبّرت عن ذعر المنظمة من تدمير أعداد هائلة من الكتب في متاحف ومكتبات وجامعات الموصل، مشيرة إلى أنّ هذا التدمير المهول "حدّد مرحلة جديدة من التطهير الثقافي والحضاري الممارَس في المناطق التي وقعت في فترة من الفترات تحت سيطرة المتطرفين في العراق".
وهذا الحدث الأخير جزء من التدمير الممنهج للتراث، وهو يمثّل ـ بالإضافة لاضطهاد الأقليات - سعياً لإنهاء التعددية الثقافية في بلد مثل العراق، تشكل تعددياته، وما يتبعها لزاماً من انفتاح عام، هويته وجوهره الحقيقي.
آلاف كتب الفلسفة والقانون والعلوم والشعر تمّ حرقها عمداً، ببساطة وبدون رمشة عين، في إحدى أكبر "المجازر الثقافية" في التاريخ، وقد أصابت إحدى أقدم الحضارات البشرية إن لم يكن أقدمها إطلاقاً.
وإذا كانت المنظمات الثقافية والأونسكو تعيد التأكيد عند كل محطة أن استهداف التراث الحضاري لا ينفصل عن مأساة استهداف البشر، وهو بذاته استهداف للبشر أصلاً، فإن المشروع المتفلّت والمجنون لداعش بإهدار ومحو الأدلة على وجود أية حياة ثقافية، يبدو مقصوداً تماماً: اعتداء صريح على الذاكرة، وهي بالمناسبة ذاكرة تخصّ العالم أجمع وليس فقط المناطق المعتدى عليها..
وداعش بهذه الأفعال ربما يمارس "التشفّي" من أهالي المدن الذين لا يتعاونون معه (أو ليس كما يريد ويتصور، أي بالالتحاق به). والمأساة لم تقتصر على العراق.
لكن سياسة "الأرض المحروقة" التي يدأب داعش على اعتمادها، بحيث لا يُبقي ولا يذر في الأماكن التي يتركها (أو حتى يستوطنها)، قد تعود أيضاً لكون التنظيم غريبا، بمعنى أنه فكرياً ونفسياً "غير منتمٍ" فعلياً للأماكن التي يقوم بإيذائها، حتى لو كان عناصره من أهلها. داعش يفصل نفسه عن المكان والمجتمع، ويبدِله بانتماء لآخر اخترعه وصاغه هو.. كوهم. وهذا ما يجعله يبدو نابتاً بلا جذور، ومحلقاً في الهواء، ومنفصلاً عن أي واقع .. من هؤلاء؟ إنهم حتماً ليسوا "أهل البلد".