تحط دلالات المعنى السياسي فوق مضمون الأغنية الدينية بصورةٍ مستترة، إذ تتجاور الكلمات بعضها إلى بعض بقوّة الإيحاء السائد، باعتباره فعلاً مجتمعيّاً معرفيّاً معقّداً يؤثر على التخوم الظاهرة من العمل الإبداعيّ. ولعل كلمات أغنية «لو عرفوه هيحبوه» التي كتبها نهاد درويش وغنّاها الممثل رفيق السبيعي، وهي ذات مضمون ديني، تشهد على مثل هذا التوريط، حين تحوي مقطعاً يقول: «يا حبيبي يا محمّد، الله محيّ اللي نصروه»، ليصير سهلاً ربط الجملة الثانية بكلمات أغنيةٍ أخرى ذات طابع سياسي هذه المرّة، كتبها أكثم جويهرة وغنّاها حسين الديك، وحملت اسم «الله محيّ الجيش»، وتلك تُطرب جمهور السوريين الموالي للنظام القائم. خلال سنوات الحرب الماضية، كان الذهاب إلى بيت الإبداع عملاً ديماغوجيّاً مصاحباً لهيمنة القتال العسكري، حين كتب سرديّات مؤلمة عن حياة السوريين الملتحقين بتيههم الوجوديّ كلّ يوم.
السطوة العسكرية على الأغنية
وجدت اللغة ذات الدلالات العسكرية ملاذاً دعائيّاً داخل الأغنية السورية منذ سنوات، أراد مروّجوها استنهاض مشروع الحرب الطويل داخل عقول الناس، في محاولة جادّة منهم لإعادة تدوين الواقع الموضوعي وفق رؤيةٍ لا تنتسب إلى إرباكاتٍ معرفيّة ضارة. فالأغنية التي تتمحور حول شخص الرئيس صار يصاحب كلماتها الجيش والعسكر. وأغنية «جنودك يا بشار» التي كتبها محمد عمار وغنّاها علي بركات أحد تلك الأمثلة، وأغنية «مبروك نصرك يا أسد» من كلمات فارس صالح وغناء علي بركات مثال آخر أيضاً.
لكن الغنائية الحربيّة لا تنتسب في سوريا إلى السنوات التي أعقبت عام 2011 فقط. لعلّها قديمة منذ إطلاق أهزوجة «زيّنوا المرجة، والمرجة لينا» مطلع القرن الماضي، فيما العرب يطوون حينها صفحة الحكم العثماني الطويل لبلادهم. تلك الكلمات هلّلت سياسياً لانتصار «الثورة العربية الكبرى» بقيادة الملك فيصل بن الحسين. ثم جاء النشيد الوطني لسوريا «حماة الديار عليكم سلام» المعتمدة كلماته منذ عام 1938 (القصيدة لخليل مردم بك، والألحان للأخوين فليفل) كتعبيرٍ براغماتيّ مُنجز الأركان عن المركزيّة الجديدة للجيش والعسكر في الحياة الاجتماعيّة. لكن نشيد حزب البعث «يا شباب العرب هيّا وانطلق يا موكبي» من تأليف سليمان العيسى وألحان الياس الرحباني هو الأكثر تأثيراً من بين كلّ الأغاني السياسيّة داخل الهرم الجديد لبنيّة المجتمع الذي تأسس بعد آذار/مارس 1963، على تعويذات التأميم السحريّة في نقل الملكيات، وعلى توافد الأنساق الاشتراكية إلى مشروع الدولة الاقتصاديّ ثمّ المعرفيّ، إذ جرى تلقين النشيد على نحوٍ واسع وتمريره ما أمكن إلى مستوى الوعي الفردي والجمعي، فحفظه عن ظهر قلب الطلبة في سوريا، وكذلك العمال والفلاحون والحرفيون والعسكريون.. وحتى الرياضيون. نطقوه كـ «ترنيمة» سياسية تطوف حول المناسبات الرسميّة السنويّة، وخلال مسيرات تأييد نظام الحكم المرتّبة في روزنامةٍ معلومة، بأصواتٍ جهورية، وبقبضاتٍ تدقُّ وجه الهواء دلالةَ النصر أو ربما الصمود، أو المعنيين معاً. كما ظلت القناة الأولى من التلفزيون السوري خلال سنوات احتكارها لفضاء البثّ الأرضي تستخدم كلمات النشيد ولحنه في طوفان إعلاناتها، وهي تحثّ الشباب على الانتساب إلى الكليات العسكرية.
غير أنّ الأغنية السياسية بمعناها الظرفيّ لم تنفتح على فكرة الشخص الواحد إلّا بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973، فالنتائج العسكريّة للحرب تمّ صرفها سريعاً في البنيّة الفوقيّة المعرفيّة للمجتمع ــ والأغنية إحداها. وخلال سنوات ما بعد الحرب، غنّت ميادة الحناوي واحدة من قصائد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري «يا حافظ العهد، يا طلّاع ألوية»، وغنّت أصالة نصري قصيدةً أخرى للجواهري مطلعها «حماك الله يا أسدُ».
الأغنية السياسية بعد عام 2011
تفاءلت مكوّنات الحراك المدني في سوريا بعد انتفاضة آذار/مارس عام 2011 بأكثر أو بأسرع مما ينبغي، فسرعان ما اختارت علم الاستقلال وهو علم الجمهورية الأولى ليكون علامةً فارقة تميّزها إيديولوجيّاً عن مكوّنات نظام الحكم ومؤيديه، وكذلك فعلت مع النشيد الوطني الحالي، حين اقترحت استبداله بقصيدةٍ معروفة كتبها الشاعر عمر أبو ريشة ولحّنها الأخوان فليفل، ومطلعها: «في سبيل المجد والأوطان».
غير أننا لا نجد أغنيةً سياسيّة اقترحت مراجعة آمنة لعلاقات المجتمع الماديّة المتبدّلة بتجلّياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة قبل العام 2011. وهذا طبيعي، إذ إن الأغنية كنصٍّ إبداعي (كلامي وموسيقي معاً) ليست سوى سلعة تنتجها الماكينة المعرفيّة للمجتمع. وهذه تقبض عليها السلطة مباشرةً وتراقب خط إنتاجها لحظةً بلحظة. لذا ظهرت بعض الأغاني السياسية التي اختارت مواضيع خارجية كأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، أو معاناة سكان قطاع غزّة المحاصر، ومثال ذلك هو الألبوم الغنائي الثالث لفرقة «كلنا سوا» السوريّة الذي صدر في العام 2009.
ثمّ تعبت الأغنية السياسية خلال السنوات الماضية، وهي تلاحق وجه الواقع المقنّع لتكون مرآته.. وهي كذلك. وحيث بدأت كنصٍّ عفويٍّ حالم في العام 2012، لاحقت كلماتها اسم البلاد فأكثرت من ترديده، ومن ترديد كلمة «الحرية»، مثل أغنية «إنتِ الحرّة ومهرك دم» التي تحوز على مشاهداتٍ يفوق عددها 1.4 مليون على يوتيوب. وضمن هذا الاشتراط، مرّت أغاني وصفي المعصراني تجوس في هدوء الكلمة واللحن. لديه أغانٍ جميلة أهمها «عيدي لحن مجروح»، و «مشتاق لبلادي». ومرّت أغانٍ أخرى باشتقاقات لحنيّة وإيقاعيّة أسرع، جاءت على خلفيّة الإيقاع المتبدل على الأرض، مثل أغنية «ناديتُ» وكتبها سائد العجيمي ولحّنها يزن نسيبه وغنّاها مع ميس شلش، وحظيت بـ 1.6 مليون متابعة على يوتيوب.
لقد تبدّل مضمون الكلمات وإيقاع اللحن تبعاً لتورّط البلاد أكثر في حمّام الدم، فعادت الأهزوجة البسيطة كرثاء مكثّف للواقع المصلوب عند حدود الهاوية، وهذا يمكن استنتاجه من أهازيج عبد الباسط ساروت التي أخرجتها مدارات حمص المنكوبة بآفة الموت والدمار، ثم ظهرت الأناشيد الدينيّة مع تمكّن الفصائل الإسلامية المتشددة من السيطرة على الأرض. وتلك جاءت أشبه بمدائحٍ ديّنية للجهاد وانتظار الفرج الإلهي. مثل هذه المقولات الإيديولوجيّة، المقفلة والنهائيّة، باتت تحدد مضمون الأغنية السياسية ومساربها، فصرنا نسمع نصوصاً ملحّنة تتمايل مكوّناتها على إيقاع الملحمة الإلغائية في سوريا، ووقودها الاقتتال السنّي ــ الشيعي الطويل وفق رؤى غيبيّة محسومة لاقتراب نهاية العالم، ومثالها أغاني علي بركات كأغنيته الذائعة الصيت «علي مدد»، الحائزة على 912 ألف متابعة على اليوتيوب، وأغنيته الأخرى «نحنا شيعة حيدر».
وما إن استوطن هذا المناخ الراديكاليّ فوق التضاريس الوعرة للظرف السوري المدوّل، حتى انحسر مدُّ الأغنية السياسيّة الحالمة، تلك التي توهّجت بخفة في سماء العام 2012. لم نعد نسمع ما يشبه «بيّاعة الزنبق» التي غنّتها بسمة جبر، أو «ياسمين الشام» التي غنّاها يحيى حوى، أو «سوريا موجوعة» التي غنّاها شادي أسود...
ولعلّ السوريين حاولوا جاهدين خلال سنوات محنتهم الأخيرة أنّ يلمسوا أغنيةً واحدة بين أصابعهم المرتبكة، أو أن يسمحوا للحنٍ واحد أن يلمسهم بين أصابعه المرتبكة، ليتأكدوا فقط من أنهم موجودون، قريبون إلى قلب الأسطورة، تلك التي تتحدث عن نهوضهم، كما لو أنهم طائر الفينيق من بين ركام العدم، كما لو أنهم هم الأسطورة التي لم يغنِّها أحدٌ بعد.