العدالة الانتقالية بتونس: صراع الإرادات (1)

على الرغم من كل محاولات النظام القديم/الجديد وأد مسار العدالة، فإنّ جهود العديد من الحركات الشبابية والأحزاب الوطنية والمنظمات الحقوقية نجحت في آخر الأمر. الضغوط التي جابهها المجلس التأسيسي اضطرته (بعد مماطلة طويلة) إلى دسترة العدالة الانتقالية
2016-12-29

شارك
علاء بشير - العراق

العدالة الانتقالية هي مسار تنتهجه بعض الدول منذ أواخر القرن العشرين، إما لتصفية إرث نظام ديكتاتوري أو لمعالجة الجروح التي سببتها حرب أهلية. ويقسم دارسو العدالة الانتقالية المسار المثالي لأربع مراحل: كشف الحقيقة، ردّ الاعتبار للضحايا وجبر الضرر الذي لحق بهم، اعتذار المسؤولين عن الانتهاكات، وفي آخر المطاف المصالحة. وأهداف هذه الآلية هي: تحديد المسؤوليات، القطع مع الماضي، بناء السلم/ الديموقراطية ومنع تكرار الانتهاكات. يعتبر البعض العدالة الانتقالية مجرد ذرٍّ للرماد في العيون، وإعفاءً للمجرمين من مسؤوليتهم الجنائية والأخلاقية، فيما يعتبرها آخرون السبيل الوحيد للمضيّ قدماً دون أحقاد دفينة.
ومع موجة الانتفاضات الشعبية التي شهدها الوطن العربي سنة 2011، كان من المتوقع أن نشهد عدة تجارب عدالة انتقالية، لكن الأمور انحرفت نحو حروب أهلية وإقليمية/ دولية في كل من سوريا واليمن وليبيا، ونحو حكم عسكري في مصر. وحدها تونس بقيت «ثابتة» بعض الشيء، واستطاعت أن تدخل مسار العدالة الانتقالية. وهو مسار بدأ منذ سنوات وتعثر كثيراً ولم يعطِ أولى ثماره إلا منذ أسابيع قليلة، مع تنظيم «هيئة الحقيقة والكرامة» لأولى الجلسات العلنية للاستماع إلى ضحايا الديكتاتورية.
على الرغم من أنّ أغلب المنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية نادت مباشرة بعد سقوط الرئيس الأسبق بن علي بتكريس العدالة الانتقالية للانطلاق في بناء تونس جديدة، إلّا أنّ المسار تعثّر طويلاً نظراً لانعدام الاستقرار السياسي وغياب المؤسسات القادرة على تولي المهامّ من جهة، وللمقاومة الشرسة التي أبداها المتورطون مع النظام الديكتاتوري من جهة أخرى. ونتيجة لجهود المجتمع المدني وبعض الأحزاب السياسية، أُقرّت في آخر الأمر مسألة العدالة الانتقالية في دستور تونس الجديد، وخصص لها إطار قانوني وهيئة تسعى لتحقيقها.

 

عقبات كثيرة

 

منذ خروج بن علي من الحكم، بدأت المطالبة بإرساء عدالة انتقالية تمكِّن البلاد من تصفية الإرث القمعي، ومن ضمان عدم عودة النظام إلى شكله الديكتاتوري. اتُخذت عدة قرارات في الأشهر الأولى، بحكم الضغط الشعبي والسياسي، فتمّ إصدار عفو تشريعي عام (شباط/ فبراير 2011) أسقط كل التهم عن السجناء السياسيين، بل شمل المتورّطين في عمليات إرهابية. كما حُلَّ الحزب الحاكم القديم بأمر من القضاء (آذار/ مارس 2011) وسُلِّمت مقارّه للدولة، وقُبض على عدة مسؤولين سابقين بتهم فساد وغيرها. لكن، ومع عودة الهدوء إلى الشارع، وانخراط المعارضة التاريخية في مسار تسوية مع أركان النظام السابق ومؤسساته، خفتت الأصوات المطالِبة بالعدالة، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات الحرة الأولى في تونس. وقفزت مسائل الهوية والحداثة والنمط المجتمعي فوق كل القضايا، لتصبح في الصدارة وتحتكر السجال السياسي والنقاش العام. وعلى الرغم من فوز الإسلاميين في الانتخابات، وهم عانوا كثيراً زمن الديكتاتورية، فإنهم لم يولوا اهتماماً لمسألة العدالة الانتقالية، بل كانوا سبباً رئيسياً في تعطيلها، سواء بطريقة مباشرة أو جراء سياساتهم. فمثلاً، كانت قيادات التيار الإسلامي تغازل علناً رجالات الديكتاتورية وتحاول استمالتهم إليها، حتى إنّ نواب حركة النهضة أسقطوا مشروع قرار يقضي بإقصاء المنتسبين إلى الحزب الحاكم القديم من المشهد السياسي. التعويضات المادّية والامتيازات التي نالها العديد من السجناء السياسيين السابقين (وخصوصا الإسلاميين) خارج إطار مسار العدالة الانتقالية، قلّلت كثيراً من صدقية المعارضة التاريخية، وجعلت الكثيرين يعتبرون الأمر تقسيماً للغنائم بين «المنتصرين». كما أن انحرافات الحكام الجدد في مجالات عديدة، علاوة على قمعهم للاحتجاجات الاجتماعية وتضييقهم على الحريات الفرديّة، قلل من النقمة الشعبية على النظام «السابق»، خصوصاً بعد دخول البلاد في موجة اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية.
المتورطون في جرائم النظام الديكتاتوري كانوا يراقبون عن كثب. وعندما أيقنوا أن الأنفس قد هدأت، وأنه لا نيّة حقيقية للمحاسبة وفرض العدالة لدى الحكّام الجدد، عادوا إلى النشاط تحت أوجه عدة، وأعادوا تشغيل دواليب آلتهم القديمة/ الجديدة: بادروا بإنشاء حزب «نداء تونس» سنة 2013 كمظلة لأبناء الحزب القديم، وسعوا إلى استقطاب جزء كبير من اليساريين والحقوقيين المتخوّفين من تعاظم سلطة الإسلاميين. قدّم الحزب «الجديد» نفسه كضمانة لحماية البلاد من الإرهاب و«الظلاميين»، وللمحافظة على «النمط المجتمعي» التونسي. وتمكن من الفوز في الانتخابات التشريعية والرئاسية أواخر 2014. لم يخفِ قادة الحزب عداءهم للعدالة (التقليدية والانتقالية معاً!)، وسعوا للالتفاف عليها عبر محاولة تمرير مشروع قانون «مصالحة» في البرلمان، مضمونه تبييض صفحة رجال أعمال كانوا مقربين من النظام وموظفين فاسدين. تصدى المجتمع المدني للمحاولات المتكررة عبر إطلاق حملة «مانيش مسامح» (لن أسامح) التي ضغطت على البرلمان وأحرجت النواب، فسقط مشروع القانون.

 

إليكَ أشكو منك

 

هناك خلل منهجي جسيم في مسألة العدالة الانتقالية بتونس. المفترض أن يبدأ مسار كهذا مع نهاية نظام ديكتاتوري أو نزاع مسلح، والحال أنّه في تونس، وحتى اليوم، ما زال النظام التونسي القديم ودولته قائمين، على الرغم من «عمليات التجميل» والمساحيق «الديموقراطية». ما زال الذين خدموا الديكتاتورية بتفانٍ فاعلين في المشهد السياسي، بل ويتصدرونه. قادة الحزب الذي حكم تونس لأكثر من نصف قرن عادوا بقوة إلى الواجهة، و «أزلامهم» منتشرون في كل المناصب الحكومية، ومفاصل الدولة، وفي أجهزة الإعلام المؤثرة. رئيس الجمهورية الحالي، الباجي قايد السبسي (90 سنة)، شغل منصب وزير الداخلية خلال ستينيات القرن الماضي، وهي واحدة من أحلك فترات التاريخ التونسي. خلال تلك الفترة، تمّ تثبيت المنظومة الديكتاتورية، حيث مُنعت جميع الأحزاب والصحف المعارضة وحُوِّلت منظمات المجتمع المدني إلى ملحقات للحزب الحاكم، ونُفّذت عشرات الإعدامات في حق معارضين، واعتُقل وعُذِّب المئات من اليساريين والبعثيين.
السيد محمد الناصر (82 سنة)، رئيس مجلس النواب الحالي، هو الآخر من فرسان «الزمن الجميل»، ومن مآثره أنّه في أواسط سبعينيات القرن الماضي، كان في الوقت نفسه مسؤولاً حزبياً ورئيس بلدية ونائباً في مجلس الشعب، ووزير الشؤون الاجتماعية.
وزارة الداخلية التي كانت روح النظام التونسي، وبؤبؤ عينه، ما زالت إلى اليوم بقاعاً مقدسة يحظر الحديث في حضرتها. الولوج إلى أرشيفها يعتبر من ضروب المستحيل، خصوصاً بعد إنشاء «نقابات أمنية»، جعلت عزل وزير أسهل من مساءلة شرطي مرور.
حتى الإعلام أغلبه معادٍ لمسار العدالة الانتقالية، وهو أمر عادي. فالقناتين الأكثر شعبية حالياً في تونس حصلتا على رخص البث زمن حكم بن علي، ومالكاهما كانا مقربين من النظام، وإلى اليوم ما زالت تتعلق بهما قضايا فساد.
فهل يمكن الحديث عن عدالة انتقالية حقيقية في ظروف كهذه؟ هل يمكن أن تتم محاسبة المجرمين وهم يمتلكون كل السلطات؟ الصراع مفتوح!

 

هيئة الحقيقة والكرامة

 

على الرغم من كل محاولات النظام القديم/الجديد وأد مسار العدالة، فإنّ جهود العديد من الحركات الشبابية والأحزاب الوطنية والمنظمات الحقوقية نجحت في آخر الأمر. الضغوط التي جابهها المجلس التأسيسي اضطرته (بعد مماطلة طويلة) إلى دسترة العدالة الانتقالية في (الفصل 148 من الدستور التونسي)، وإفرادها بإطار تشريعي خاص (القانون الأساسي عدد 53 لعام 2013)، من ثَمّ تجسيدها على أرض الواقع من خلال بعث هيئة مستقلة في أيار/ مايو 2014. هذه الهيئة حقوقية بالأساس، وهدفها كشف الحقائق والسعي نحو المصالحة، لا إصدار أحكام قضائية. ومن أهم النقاط في القانون المنظِّم لعمل «هيئة الحقيقة والكرامة» أنه يمكِّنها من تقصّي كلّ الانتهاكات خلال الفترة الممتدة من أول تموز/ يوليو 1955 (قبل الاستقلال بأشهر) إلى آخر كانون الأوّل/ ديسمبر 2013 (سنتان بعد الانتفاضة)، بعد أن أراد كثيرون أن يقتصر عملها على فترة حكم بن علي (1987 ـ 2011). كما أنّه يمكِّنها (نظرياً على الأقل) من الولوج إلى الأرشيف الوطني، وإلى كل وثيقة تحتاج إليها في إطار مهامّها. لم تكن بدايات الهيئة سهلة، فاختيار أعضائها تطلّب مدة طويلة ومفاوضات شاقّة، بحكم حالة التجاذب السياسي في المجلس التأسيسي وخارجه. كما أنّ وسائل الإعلام المقربة من الحزب الحاكم القديم وورثته، شنّت عليها منذ البداية حملة تشويه ضارية. والإمكانيات المادية التي رُصدت لها في البداية كانت غير كافية أبداً لتركيز مقارّها والقيام بمهامّها. الكثير من أجهزة الدولة حاولت مرات عديدة منعها من الوصول إلى المعلومات والوثائق اللازمة، حتى إنّ الأمن الرئاسي منعها في كانون الأول/ ديسمبر 2014 من تسلّم أرشيف قصر قرطاج، على الرغم من موافقة رئيس الجمهورية السابق، المنصف المرزوقي، على ذلك.
ولكن، على الرغم من كل هذه العقبات، صمدت الهيئة، وبدأت عملها، واستطاعت أن تجمع أكثر من 62 ألف ملف (شكاوى ومطالب صلح) وعقدت 14 ألفا و828 جلسة استماع سرية. وإضافة إلى كشف الحقائق، فإن الهيئة مكلفة إصلاح مؤسسات الدولة حتى تمنع العودة إلى الممارسات الديكتاتورية، وضبط أشكال رد الاعتبار للضحايا وجبر الضرر. وهي حققت مكسباً كبيراً في الأسابيع الأخيرة، عبر البدء بتنظيم جلسات استماع علنية لضحايا الانتهاكات، تبثها القنوات المحلية والأجنبية...

مقالات من تونس

للكاتب نفسه