في 21 أيلول/ سبتمبر، غرق مركب رشيد قبالة السواحل المصرية، وعلى متنه ما قدر بـ600 راكب. أعلنت السلطات المصرية بعدها إنقاذ 165 راكباً وانتشال 204 جثث. بذلك يصبح المفقودون 230 راكباً تقريبا. بعد ذلك، نُشرت شهادات عن تقصير سلاح حرس الحدود المصري في مراقبة السواحل، واتُّهم في بعض الشهادات بالتواطؤ مع المهربين.
في 17 تشرين الأول/ أكتوبر التالي، تم إطلاق «الاستراتيجية الوطنية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية»، في أحد الفنادق الفخمة بالقاهرة. تضمنت الفعالية كلمات ومناقشات، واقترحت حلولاً لا تكاد ترتبط بحرس الحدود أو وزارة الداخلية، حتى إنّها جنحت إلى نقل الخبرة المصرية في مكافحة التهريب إلى بعض الدول الأفريقية التي تعاني تدفقات الهجرة غير الشرعية (وكأن الخبرة المصرية يُحتذى بها)، بالإضافة إلى تأسيس حملة إعلامية للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية، قَدّرت اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية ميزانيتها بـ 10 ملايين جنيه.
في بلد يعاني انهياراً اقتصادياً واضحاً، يبدو غريباً أن تتوالى نداءات السيسي للشعب بأن يتقشف ثم تعتمد اللجنة الوطنية ميزانية كهذه. لكنها ستبدو ميزانية تافهة مقارنة بميزانية الأسلحة البحرية التي اشتراها الجيش المصري لهذا الغرض. الأغرب أنه عند شراء أي سلاح بحري، تنهمر تصريحات قائد القوات البحرية الفريق أسامة منير ربيع (عُزل من منصبه في 17 كانون الأوّل/ ديسمبر الجاري وعُيِّن نائباً لرئيس هيئة قناة السويس) متضمنة تأكيداً دائماً منع الهجرة غير الشرعيّة ومحاربة تهريب السّلاح والإرهاب وترسيخ السلام والأمن... وتكرر ذلك عند كل حديث عن أهمية القوات البحرية ودورها الاستراتيجي في تحقيق ذلك.
لكن كيف فهم قادة الجيش هذا الدور؟ فهموه على أنّه شراء أسطول من الغوّاصات الهجومية الألمانية الحديثة، من طراز 209، دون أن يعرف أحد كيف ستقاتل قوارب مهربي المهاجرين ومهربي السلاح بمواصفاتها المعدة للمعارك البحرية: «تعدّ الغواصة «تايب 209» من أنواع الغواصات الهجومية وتعمل بالديزل والكهرباء، كما تزود الغواصة بأنظمة تحكم في إطلاق الطوربيدات وأنظمة تحكم إلكترونية للأسلحة خلال عمليات الإطلاق. ومن مميزات الغواصة طول غاطسها، الذى يصل إلى 62 مترا.. وأقصى عمق للغواصة 500 متر تحت سطح الماء، وتضم 8 أنابيب طوربيد عيار 533 مم، ومخزن يسع 14 طوربيداً، كما أن لديها قدرة على إطلاق صواريخ «الهاربون» البحرية المضادّة للسفن وزرع الألغام البحرية، كما تمتلك حزمة كبيرة من الأجهزة الفنية، والإجراءات الدفاعية المضادّة للطوربيدات، وتبلغ السرعة القصوى لها 40 كم في الساعة تحت الماء» (عن بيان رسمي للقوات المسلحة المصرية نشرته صحيفة «اليوم السابع»).
اشترت القوات المسلحة المصرية أربع غواصات، على مرحلتين، وتكتمت على أسعارها. بدأ الشراء في 2011، حيث تعاقدت مصر مع شركة تيسين غروب الألمانية على شراء أول غواصتين من هذا الطراز، قيمتهما معا 920 مليون يورو، بحسب المواقع الأجنبية المتخصصة بشؤون التسليح. لم تعلق القوات المسلحة ولا الإعلام المصري على هذه الأسعار وقتها.
وفي شباط/ فبراير 2014، اشترت مصر الغواصتين الثالثة والرابعة. وذكرت جريدة الأهرام عرَضاً أن تكلفة كل واحدة من الغواصات الأربع هي 450 مليون يورو.
في 10 كانون الاول/ ديسمبر 2015 تسلمت مصر الغواصة الأولى، وبعد ذلك بعام بالتمام تسلمت الثانية، وعند تسلّم كل منهما كرر الفريق قائد القوات البحرية المعاني السابقة نفسها دون أن يشرح لنا فائدة هذا التسليح في مواجهة قوارب المهاجرين، وما إذا كانت الغواصات ستدمر القوارب بمن فيها! كما أعلن تسلّم الغواصة الثالثة في 2017.
ربما كان النظام المصري في 2011 أكثر ثقة بموقفه الاقتصادي، لكن من المدهش أن يصرّ في 2014 على التعاقد على غواصتين أخريين. وقد رفضت الشركة المصنعة الإجابة على أسئلة موقع «the local» عن تلك الصفقة. وإذا افترضنا ثبات السعر يكون المبلغ الإجمالي للغواصات الأربع قرابة ملياري يورو، وهو ما يقارب 20 مليار جنيه. هنا انفتحت شهية القوات البحرية، حيث أعلن وزير الاقتصاد والطاقة الألماني في مؤتمر صحافي أثناء زيارته للقاهرة في نيسان/ إبريل 2016 عن مفاوضات مع مصر لبيعها غواصتين: خامسة وسادسة! ولا توجد أي تفاصيل أخرى عن تلك المفاوضات.
ويُلاحظ بشأن الغواصات تضارب التصريحات بشأن أعدادها، فعند تسلّم الثانية كان الفريق منير يصرح بأنها الأولى، وعند إعلان تسليم الثالثة ذكر أنها الثانية.
لكن ست غواصات لم تكن كافية أيضاً. ففي 2014، تعاقدت مصر مع فرنسا على شراء أربع قطع «كورفيت» (نوع من السفن الحربية) بمبلغ إجمالي هو مليار يورو، بالإضافة إلى 400 مليون يورو أخرى لتسليحها. كما دفعت مصر مليار يورو ثمنا للفرقاطة الفرنسية «فريم» ولخدمات تجهيزها وتدريب طاقمها، ولا ننسَ حاملتي الطائرات «ميسترال» اللتين اشترتهما مصر من فرنسا أيضاً، بمبلغ 950 مليون يورو في 2015. والفرقاطة وحاملتا الطائرات كانت صفقاتهما معلنة في وسائل الإعلام.
عند هذه الصفقات كلها، وفي حفلات التوقيع والتسلّم كلها، يحدثنا المسؤولون المصريون عن محاربة الإرهاب وتأمين الحدود ومنع تهريب السلاح والهجرة غير الشرعية.. مع أن الفريق منير ومرافقيه سافروا لتسلّم الغواصة من ألمانيا في اليوم ذاته الذي فجّر فيه الإرهابيون الكنيسة البطرسية، موقعين 26 شهيداً، دون أن يراجع الفريق تصريحاته في اليوم التالي أثناء الاحتفال..
مواضيع
الغوّاصات المصرية وملياراتها السرّية
مقالات من مصر
ثمانون: من يقوى على ذلك؟
إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.
الباب المُقفل: معضلة تعليم الفلسطينيين في مصر
هناك إصرار متزايد في أوساط أطفال وشباب جيل النكبة الفلسطينية الجديدة على حقهم في التعليم، وتشكيل مستقبلهم بأيديهم من جديد، على الرغم من الظروف القاسية عليهم. إلا أن ذلك، بالمقابل،...
في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر
تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...
للكاتب نفسه
لواءات وزارة التربية والتعليم في مصر
يترأس ستة ضباط برتبة لواء مناصب حساسة في القطاع التعليمي في مصر، بلا خبرة بالمجال. وأما الفساد فتسبب مؤخراً بتسمم الأطفال بسبب الوجبات الغذائية، وبإهدار الملايين في شراء ألواح بأضعاف...
مغامرات وهدان في البرلمان
مافيا وضع اليد على أملاك الدولة تمتلك ركائز في البرلمان المصري والشرطة. في الأول يقنّن الأمر الواقع ليصبح شرعياً وفي الثاني لا تنفَّذ أوامر إلقاء القبض على البلطجية. هنا سيرة...
"خراب مصر": مصير المَحاجر نموذجاً
مؤخراً، نشرت وكالات ومجلات اقتصادية عالمية تقارير كاشفة عن تدهور حاد في أداء الاقتصاد المصري. مجلة الإيكونوميست الشهيرة، مثلًا، عنونت إحدى مقالاتها في آب/ أغسطس الماضي بـ"خراب مصر" الذي رأته...