تعالَ معي إلى الصعيد.. تشريح قرية (1)

رحلة إلى قرية في الصعيد بمصر. في هذا الجزء: القطار يصاحب مجرى النيل لإحدى عشرة ساعة، ويمر بمحطات عديدة وبالأراضي الزراعية التي يكدّ فيها رجالٌ ونساءٌ طول اليوم
2016-12-27

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
رهام الشامي - مصر

رحلة إلى قرية في الصعيد بمصر. في هذا الجزء: القطار يصاحب مجرى النيل لإحدى عشرة ساعة، ويمر بمحطات عديدة وبالأراضي الزراعية التي يكدّ فيها رجالٌ ونساءٌ طول اليوم. هنا استعادة لذكريات الطفولة ورسم لملامح الريفيين، وعلى رأسهم الجدة الرشيقة العاملة بلا كلل، والمشرفة بصرامة على نظام الحياة...

بعد انقطاعٍ دام 15 عاماً أو يزيد، أعود لزيارة قرية الأجداد، "الشَّاورِيّة"، إحدى قرى مركز "نجع حمادي" بمحافظة قِنا. المناسبة: حضور حفل زفاف أحد الأقارب، وهي أيضا فرصة لرؤية أناس تجمعني بهم قرابة وذكريات، أو لي بهم سابق معرفة. التواصل المباشر بالتأكيد سيكون مختلفاً عن التواصل الهاتفي أو الفيسبوكي، وهذه السّنوات الطويلة قد تركت آثارها على الوجوه والأجساد والشخصيات ربّما، وعلى المباني والبيوت، وجوانب أخرى كثيرة تستعصي على الحصر. يبدو الأمر مثيراً للاهتمام وللمشاعر أيضاً.

الذكريات

"الصعيد" الذي كنا نزوره صغاراً في الإجازات الصيفية، وكانت زيارته مصدر فرح، فهي تعني اللّعب واللهو والانطلاق في طرقاته الترابية الآمنة من مرور السيارات إلّا فيما ندر، وفي الحقول، حقول الشمّام والبطّيخ والقصب الذي كنا نستمتع بمصّ أعواده وتزعجنا أوراقه الحادة التي تؤذي وجوهنا ونحن نسير. نشارك بنات وأولاد في مثل أعمارنا في اللعب بالطين، أو في لعبة السبع طوبات، أو في ألعابٍ أخرى اخترعت هناك وجرى توارثها، تعتمد على موادّ من البيئة المحيطة كالحصى، أو البوص (وهو نبات من نباتات المستنقعات المعمَّرة من الفصيلة النجيليّة على هَيئة القَصَب والغاب)، الذي كنا نصنع منه عرائس، أو الأغطية المعدنية لزجاجات المياه الغازية المستعملة. تحت "النخيل" نبحث عن البلح الطازج أو ننتظر أصحاب المهارة في التصويب ليقذفوه بالطوب ثم نتسابق على البلح المتساقط على الأرض، أصفر أو أحمر أو أخضر لم يطب بعد. بائع "شَعْر البنات" الذي كنا ننتظره بلهفة عصر كلّ أربعاء (ما زلت أذكر اليوم جيداً)، يقف في مكانه المعتاد ونذهب فرحين لنشتري منه حلواه المميزة التي تختلف عن تلك التي كنا نبتاعها من الدُّكّان، ودكاكين القرية ملحقة ببيوت أصحابها، وأحيانا يجري الشراء من البيت مباشرة. حظيرة البهائم أو "الحُوش" كما تسمى هناك، وما تحويه من جاموس أو بقر، وأغنام تـُؤخذ للرعي في الحقول، وحَمير كنا نسعد بركوبها الذي لا يكون ــ مثل اللعب ــ مسموحاً للبنات بعد سن معينة.. وطيور متنوعة: حمام، وأوز، وبطّ يسمّى هناك "بُحّ"، وجمل وحيد في منطقتنا كان يخصص له أصحابه مكاناً يراه منه الذاهب والآتي.

وهناك بعض العادات الخرافية، منها "البِيسِيوِي": تصطحب الأمهات أطفالهن المرضى، وقت صلاة الجمعة، إلى مكان معيّن حيث توجد صخرة يتبرّكون بها طلباً للشفاء، حيث توقِف الأم طفلها على الصخرة عارياً وتصب على رأسه الماء من زجاجة ثم تكسرها، وتلقِي الحلوى المغلّفة على الأرض. فيتسابق الأطفال الحاضرون على التقاطها بحذر خوفاً من قطع الزجاج المتناثرة. لم تكن تلك الهالة التي تُضفى على الآتين من "مصر" أو "الإسكندرية"، مختلفي المظهر واللهجة، تمنعنا من الإندماج والمشاركة في كل نشاط، كملء مستوعبات المياه من صنبور عمومي قريب أو طلمبة (مضخة) أو بِركة بعيدة، أو الخروج مع البنات في الصباح الباكر في رحلات "الحشيش" إلى الحقول البعيدة، وبأيدينا غالباً أو بالمِحَشّ نقطع حشائش الأرض ونملأ بها أكياساً متفاوتة الأحجام. كنت أختار أصغرها، ولم أقدر يوما على ملئها، فقد كانت المهمة صعبة للغاية، ولذلك كنت دائما موضع سخرية من الرفيقات الماهرات، ونسير بها، ونحن نضعها على رؤوسنا إلى البيت حيث تُقدَّم للبهائم. كانت بالنسبة لنا نزهة ولهواً أكثر من كونها مهمة جديّة كما كانت للرفيقات.. ذكريات كثيرة جداً مع أماكن وأشخاص تفرقت بهم سبل الحياة، أو رحلوا عنها دون وداع.

الآن أستطيع أن أستمتع بمشاهدة الحقول والنخيل والشجر والدوابّ. كانت تلك المشاهدة ونحن أطفالاً تزيدنا تحمساً للرحلة، ولا تزال عندي موضع اهتمام

جدتي أو "سِتِّي" كما كنا نناديها، أو "امرأة الحاج" كما لُقِبَتْ بعد أن أدّى جدي الفريضة منذ زمن بعيد، كانت الأكبر سنّاً، في عقدها السابع أو الثامن (فأعمار هذا الجيل تُقدّر ولا تعرَف على وجه الدقة)، والأكثر نشاطاً بين قاطني البيت الواسع العديدين. كانت تسير في يومها وفق نظام دقيق لا تغيّره. أول من تنام مساء وأول من تستيقظ فجراً، تُطعم الطيور والبهائم وتُحوّل المياه من الصنبور العمومي لتملأ جميع الأواني، الفخارية والمعدنية، وتعدّ لنا في بعض الصباحات إفطاراً لذيذاً عبارة عن معكرونة أو أرز باللبن والسكر. تغضبها الطيور إن تخطّت حدودها إلى ساحة الدار ويغضبها الصغار إن رأتهم وهي جالسة على العتبة، كعادتها، يعبثون بالصنبور فتنهرهم من بعيد بصوت مرتفع. وفي صفوها توزّع عليهم الحلوى التي لم يكن دولابها الخاص يخلو منها، ولا أعرف من أين كانت تأتي بها. تصر على قضاء حوائجها بنفسها ولا تستهويها أبداً مشاهدة التلفاز، فقد كانت على ما يبدو متمسكة بعالمها القديم. ترك الزمن انحناءة على الظهر ولكنه لم يسلب المقدرة والإقبال على الحياة. وعلى الرغم من أنّها كانت تغطّي شعرها طوال الوقت، فقد كانت حريصة على صبغه بالأسود أو بالحنّاء. ملابسها عبارة عن فساتين قاتمة اللون، ذات أكمام طويلة، تضيق عند الخصر ثم تتسع مما يناسب قوامَها الرشيق، وتُظهر جزءاً من الساقين. كانت ترتدي خَلخالاً فضيّاً عريضاً، أو ما يسمونه بـ"الحِجْل"، لا تخلعه حتى عند نومها. في وجهها كان البِشْر، وعلى لسانها كانت الدعوات.

على أيّة حال، الطفلة أو المراهقة التي كنتُها، والتي لم يكن يهمّها سوى التنزه واللعب والمزاح مع الأقران، أو الشجار معهم إن لزم الأمر، صار همها الآن التأمّل والسؤال.

الرحلة

رحلة السفر طويلة جداً ومرهقة. كانت رحلة ليليّة، لا نوم متصلاً أو عميقاً، بكاء الأطفال مزعج للغاية، المرور المتكرر لعامل الـ"بوفيه" وهو يجرّ عربته أمامه عبر عربات القطار: شاي، نسكافيه، سندويتشات.. وآخرون يصعدون في كل محطة: مشبّك.. عيش، فلافل.. أحاول النوم وتفادي صرصار صغير، ليس الوحيد هنا، يسير بجانب مقعدي المجاور للنافذة. كيف يكون الحال في قطارات الدرجة الثالثة إذاً؟

ما أجمل وقت الفجر، وذاك الضوء الخافت الذي يفصل عتمة الليل عن سطوع الشمس في نهار حارّ. الآن أستطيع أن أستمتع بمشاهدة الحقول والنخيل والشجر والدوابّ. كانت تلك المشاهدة ونحن أطفالاً تزيدنا تحمساً للرحلة، ولا تزال عندي موضع اهتمام.

جدتي أو "سِتِّي" كما كنا نناديها، أو "امرأة الحاج" كما لُقِبَتْ بعد أن أدّى جدي الفريضة منذ زمن بعيد، كانت الأكبر سنّاً، في عقدها السابع أو الثامن، فأعمار هذا الجيل تُقدّر ولا تعرَف على وجه الدقة، والأكثر نشاطاً بين قاطني البيت الواسع العديدين

الأراضي الزراعية ممتدة أمام ناظريّ، بعض رجال يعملون بها ونساء. يصحبنا النيل حيناً وحيناً نفترق. أرقب حركة الناس في الطريق وأتأمل وجوههم على كل محطة: أسيوط، طِما، جِرجا.. في الصباح الباكر لكلّ مقصده، فرادى أو جماعات: المدرسة أو الجامعة أو الغيط، وهناك من يذهب للعلاج. كتلك المرأة الستينية التي قابل مقعدي في القطار مقعدها في محطة أسيوط حيث يكون التوقف لمدة أطول، ممتلئة القوام دون الوجه الذي بدا جامداً مضطرب العينين، لا تدري إن كان جموده يعكس شخصية صارمة أم يعكس ضيقاً طارئاً سوف يزول. كانت تحمل أوراقاً يبدو أنها تحاليل طبية، ومعها أيضا كيس بلاستيكي شفاف يضم علب الأدوية. لا أعرف لماذا استوقفتني واستأثرت بانتباهي؟ ألوجهها الأسمر الذي ينبئ بملامح صعيدية أصيلة؟ أم لطرحتها السوداء المطرزة بالتركواز والملفوفة بإتقان فوق طرحة أخرى مكوّرة أعلى الجبهة بطريقة تلفت النظر؟ أم لحركات يديها التي تصحب حديثها مع شاب يجلس بجوارها، مما ذكّرني بحركات نساء الصعيد اللائي كنت أراهن في القرية وهن يثرثرن معاً؟ بعض الوجوه أشعر نحوها بمشاعر ود ورغبة في التواصل ولكنّ زجاج نافذتي المحكم لن يوصل صوتي، وددت لو التقت عينانا كي ألوّح لها بيدي وأبتسم.

"شاي، شاي" ينادي الرجل ذو الجلباب الذي صعد القطار للتو حاملا برّادا كبيرا يتبعه طفل بأكواب بلاستيكية. فتيات وسيدات وطفلات صغيرات تصعدن للتسول من الركّاب (ظاهرة لم تكن موجودة).

ما زلت أرقب البشر والمنشآت التي تمر سريعاً وتمثل واجهة تُخفي وراءها القرى البعيدة. رجال بالجلباب والعِمامة على حمير، وهناك من يركب التوكتوك، مقر أحد الأحزاب، قاعة أفراح، جمعية السيدات القبطية، شونة غلال طَهْطَا، كنيسة تجاور مسجداً.. من على بُعدٍ يظهر مبنى مدرسة، وأمامها طفلان، ليس بزي مدرسي في طريقهما إليها، بل على عربة خضروات خشبية تمتلئ بالباذنجان.

بعد إحدى عشرة ساعة تقريباً استنفدت الليل كلّه وساعات من النهار، وصلنا إلى محطة "نجع حمادي"، ومدينة نجع حمادي وقراها تقع في محافظة قِنا على بعد 80 كيلومترا شمال غرب الأقصر. بعد السلام والترحاب، توجهنا إلى سيارة مخصوصة تنتظرنا لتنقلنا إلى القرية، لا مواصلات نقل عام هنا، سيارات تؤجر بالراكب أو مخصوصة يمتلكها بعض رجال القرية ويعملون عليها بتوصيل الأهالي عند الطلب، أو توكتوك للمسافات القصيرة، ولها أيضا الحمير يركبها الرجال. بعد نصف ساعة أو أزيد قليلاً وصلنا القرية. مرحبا! هنا عالم آخر.

مقالات من الصعيد

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...