التعليم الخاص في تونس يستقطب الطلبة من أبناء الطبقة الوسطى بعد أن كان محصوراً بالأثرياء. السبب في هذا الانتشار هو تردي منظومة التعليم الرسمي الذي كان مميزاً ومصوناً حتى وصول بن علي الى السلطة وتبنيه لتدابير نيوليبرالية. ويساهم انتشار التعليم الخاص بضرب مبدأ المساواة، وبإعادة إنتاج النخب على أساس طبقي حصرياً، وبإضعاف مكانة المدرّس، وبنهاية الأمر بتردي التعليم عبر تسليع المعرفة والشهادات..
تُعتبر نسب التمدرس ومحو الأمية في تونس جيدة. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. وحتى سنوات قليلة ماضية، كان التعليم يحتلّ مراتب عالمية متقدّمة من حيث الجودة. ربما تعتبر السياسة التعليمية واحدة من الحسنات القليلة في حساب الدولة التونسية منذ استقلالها. التعليم العمومي في تونس مجاني وموحّد وتمتد مؤسساته على كامل تراب البلاد (وإن كان هناك تفاوت بين المناطق). على الرغم من كل ذلك، فإن هناك ظاهرة جديدة (نسبياً) ما انفكت تتعاظم وتفرض نفسها في السنوات الأخيرة: التعليم الخاص. يندر أن تتجوّل في شوارع المدن التونسية الكبرى فلا تعترضك إعلانات عن افتتاح مدرسة أو كلية خاصة جديدة، وكلها تَعِد التلاميذ والطلبة بتوفير تكوين مثالي وضمان نجاح باهر.
التعليم الخاص لم يعد حكراً على الأثرياء، بل بدأ يجذب طبقات أخرى وينافس التعليم العمومي. كل المعطيات والأرقام تؤكد ذلك. ما هي أسباب هذا الإقبال على التعليم الخاص، وما هي تأثيراته المستقبلية؟
أرقام ومعطيات
حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كانت الدولة هي "المدرِّس" الوحيد للتونسيين، وكانت نسبة عالية من الميزانية تذهب إلى الوزارات المعنية بالتعليم. مع قدوم الجنرال بن علي، بدأت الأمور تسوء، فهو تبنّى خياراً اقتصادياً قائماً على التخلي التدريجي عن "الدولة الراعية" والسير نحو نظام نيوليبرالي ساهم في "سلعنة" التعليم وإخضاعه لمنطق السوق. في حزيران/يونيو 1992 أصدرت الدولة قانوناً يسمح للمستثمرين بإنشاء مؤسسات تربوية وتعليمية خاصة. في البداية، لم يُنظر إلى هذه المؤسسات بجدية، لكن وبمرور السنوات، بدأ التعليم الخاص في جذب أعداد متزايدة من المنتسبين. هذه المؤسسات تنشط في كل مراحل التعليم من الحضانة إلى الماجستير.
- التعليم الابتدائي: توجد في تونس اليوم قرابة 200 مدرسة ابتدائية خاصة تتوزّع أغلبها على الولايات التونسية الكبرى: العاصمة وصفاقس وسوسة ونابل (أكثر من 150 مدرسة في هذه الولايات فقط)، فيما تتناثر البقية في الولايات الأخرى. عدد التلاميذ المسجلين في التعليم الابتدائي الخاص يتجاوز الـ50 ألفاً. قد تبدو الأرقام عادية، خصوصاً إذا ما قارنّاها بعدد المدارس الابتدائية العمومية الذي يفوق الأربع آلاف ويتجاوز عدد تلاميذها المليون. لكن إذا ما علمنا أن عدد المدارس الخاصة كان إلى العام 2000 لا يتجاوز الأربعين مدرسة، وعدد التلاميذ المسجّلين فيها كان لا يتجاوز العشرة آلاف، عندها فقط سنفهم أن قدرة هذه المؤسسات على استقطاب التلاميذ في تصاعد سريع ومستمر.
- التعليم المتوسط (إعدادي وثانوي): يبلغ عدد الإعداديات والمعاهد الثانوية في تونس 1700 مؤسسة منها أكثر من 300 تتبع القطاع الخاص، أي بنسبة تقارب الخُمس. أما أعداد التلاميذ فيتجاوز الـ80 ألفاً (مقابل 800 ألف في القطاع العمومي). نصف المؤسسات الخاصة تتوزع على أربع مدن كبرى (العاصمة، صفاقس، سوسة، نابل) فيما تتوزّع البقية على المدن الأخرى.
تغوّل التعليم الخاص وتكريسه كأسرع وأنجع طريق نحو "المستقبل الباهر" سيعيد إنتاج الفوارق الطبقية بل وسيعمّقها. فالثروة والوظائف المهمة وإنتاج النخب ستكون كلها مقصورة على طبقة واحدة
- التعليم العالي: حتى العام 2001، لم يكن عدد المؤسسات الجامعية الخاصة يتجاوز الستة، أما اليوم فتبلغ 66 مؤسسة، أي أن عددها تضاعف عشر مرات خلال 15 عاماً فقط. وهو مرشح للارتفاع بحكم أنّ هناك مؤسسات جديدة طور الإنشاء نتيجة الإقبال المكثف. يتجاوز عدد الطلبة المسجلين الـ35 ألفاً (مقابل 300 ألف طالب في القطاع العمومي يتوزعون على 190 مؤسسة). القطاع الخاص يستقطب 10 في المئة من الطلبة التونسيين ويدير أكثر من 25 في المئة من مجموع مؤسسات التعليم العالي في البلاد. أهمّ الاختصاصات التي يوفرها التعليم الخاص: الهندسة، الإعلام والتكنولوجيا، المحاسبة وإدارة الأعمال، الاختصاصات شبه الطبية وبدرجة أقل التصميم والموضة.
أسباب انتشار الظاهرة
لكل عائلة أسبابها التي قد تدفعها إلى نبذ المدارس والجامعات العمومية والذهاب إلى القطاع الخاص. يعتبر الكثيرون أنّ تدنّي مستوى التعليم العمومي في السنوات الأخيرة هو السبب الرئيسي، لكن في الواقع هناك أسباب أخرى أكثر تأثيراً، وهي تختلف حسب المرحلة العمرية للتلميذ وحسب الطبقة الاجتماعية التي تنتمي لها العائلة.
- التعليم الابتدائي: المدارس الخاصة لديها قدرة جذب قوية بفضل عوامل عدة. عادة ما يكون عدد التلاميذ في صفوف هذه المؤسسات ما بين 15 و20 تلميذاً، أي تقريباً نصف ما هو عليه في المدارس العمومية المكتظة (25-35 تلميذاً في الصف الواحد)، مما يعني أن ظروف الدرس والتركيز أحسن، والوقت الذي يخصصه المدرس لكل تلميذ أكبر. كما تمتاز هذه المدارس بتركيزها على اللغات الأجنبية وتخصيصها وقتاً أكبر للأنشطة الفنية والترفيهية. الفئات المتوسطة تعتبر مصاريف المدارس الخاصة نوعاً من الاستثمار في تعليم أبنائها وتدعيم قدرتهم "التنافسية" التي ستمكنهم من التفوق لاحقاً في المستويات الأعلى والتوجه إلى الاختصاصات العلمية "المرموقة" ذات الآفاق التشغيلية العالية. أما الفئات الميسورة فترى في هذه المدارس أمكنة ينشأ فيها أبناؤهم مع تلاميذ "يشبهونهم"، كما أنّ الأمر لا يخلو من التميّز أو ما يُقال له "البرستيج".
حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كانت الدولة هي "المدرِّس" الوحيد للتونسيين، وكانت نسبة عالية من الميزانية تذهب إلى الوزارات المعنية بالتعليم. مع قدوم الجنرال بن علي، بدأت الأمور تسوء
- التعليم المتوسط (إعدادي وثانوي): الحقيقة أن مؤسسات التعليم المتوسط الخاصة لا تحظى بسمعة طيبة لدى التونسيين، فعادة ما يعتبرونها حاضنات للتلاميذ "الفاشلين" الذين طردتهم المؤسسات العمومية إمّا لرسوبهم المتكرر أو لارتكابهم أخطاء فادحة. الكثير من هذه المؤسسات تعمل كمحال لبيع "النجاح": يمكن مثلاً لتلميذ في القطاع العمومي رسب في السنة الأولى إعدادي بمجموع متدنٍ جداً أن يسجل نفسه في مؤسسة خاصة فيجد نفسه في السنة الثانية إعدادي ثم يمر سالماً غانماً إلى السنة الثالثة. في هذه المؤسسات لا يرسب أحد تقريباً، ليس لأنها تصنع المعجزات أو تكتشف المواهب والقدرات الكامنة لدى التلميذ، لكن لأن "صاحب المحل" يسعى لإرضاء الزبائن فيضغط على المدرسين لكي يزيّنوا النتائج.
- التعليم العالي: في هذا المستوى، تصبح الأمور أكثر تعقيداً، فملامح طلبة المؤسسات الخاصة متنوّعة جداً. هناك الذين يقصدون هذه الجامعات - أساساً أبناء الطبقة الوسطى - لأنها تَعِد بتشغيل المتخرجين منها بحكم علاقتها مع شركات عدة أو حتى شراكتها معها. عدد من الطلبة يقصدون هذه الكليات، لأنها تمكِّنهم من تحقيق حلمهم بالدراسة في شعبة لم يسعفهم مجموعهم في امتحان البكالوريا من الذهاب إليها في القطاع العمومي، لأن المقاعد محدودة وتمنح بحسب الكفاءة. بالطبع هناك الذين يختارون "الخاص" لأنه أكثر مرونة في الامتحانات وشروط الارتقاء من سنة إلى السنة التي تليها. أما أبناء الطبقات الثرية، فعادة ما يكون هدفهم الأساسي هو الحصول على شهادة "اعتبارية" وليس التحصيل العلمي في حد ذاته أو تأمين عمل.
التأثيرات المستقبلية
منذ ربع قرن، ومع بداية ظهور التعليم الخاص، كان عدد منتسبيه لا يتجاوز العشرة آلاف على أقصى تقدير. اليوم يتجاوز عدد تلاميذ المؤسسات التعليمية الخاصة وطلبتها 170 ألفاً من جملة مليونَي تونسي يتابعون الدراسة، أي بنسبة تقارب العُشر. وكل المؤشرات تؤكد أنّ الظاهرة ما زالت تتعاظم. ونلاحظ أن تغوّل التعليم الخاص ستترتّب عليه تأثيرات سلبية جداً على المديين المتوسط والطويل:
- تهديد منظومة التعليم العمومي: وهي واحدة من ضمانات الوحدة الوطنية، وتدخل في باب الأمن القومي.. منظومة بنيت عليها تونس الحديثة وأخرجت ملايين التونسيين من دائرة الجهل والفقر. بالتأكيد، ليست الأمور في القطاع العمومي مثالية، لكنه يبقى ضمانة لأبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة الدنيا، كما أنّه مراقَب من طرف الدولة، ويتميّز بحضور قوي للنقابات في صفوف أساتذته وطلابه، عكس ما هو عليه الأمر في التعليم الخاص.
القطاع الخاص يستقطب 10 في المئة من الطلبة التونسيين ويدير أكثر من 25 في المئة من مجموع مؤسسات التعليم العالي في البلاد
- ضرب مبدأ المساواة: يمنح التعليم الخاص أفضلية لمن لديه الثروة، فطالب فقير مثلاً لم يمكّنه مجموعه في امتحان البكالوريا من التوجّه إلى شعبة الهندسة، سيختار شعبة أخرى والسلام، أما الطالب الثري، وبالمجموع نفسه، فيمكنه أن يدرس الهندسة في جامعة خاصة، ويصبح مهندساً معترفاً به. مراهق في الإعدادي طُرد بسبب ارتكابه حماقات وطيشاً، سيُحرم من التسجيل في كل المؤسسات العمومية، وسيجد نفسه مجبراً على قبول عمل بأجر بخس أو الانحراف. أما التلميذ الذي ينحدر من عائلة ثرية، فبإمكانه التسجيل في مؤسسة خاصة، وعفا الله عما سلف.
- إعادة إنتاج وتعميق الفرز الطبقي: تغوّل التعليم الخاص وتكريسه كأسرع وأنجع طريق نحو "المستقبل الباهر" سيعيد إنتاج الفوارق الطبقية بل وسيعمّقها. فالثروة والوظائف المهمة وإنتاج النخب ستكون كلها مقصورة على طبقة واحدة. يكفي أن نقول إنّ رسوم التسجيل الشهري في "أرخص" جامعة خاصة تتجاوز الأجر الأدنى المضمون في تونس.
- إضعاف مكانة المدرِّس: المدرس ركيزة أساسية في التعليم العمومي، له حقوق ولا يمكن للأولياء أو الإدارة الضغط عليه أو ابتزازه، فهو يتمتّع بضمانات قانونية ودعم نقابات قوية تضمن كرامته وحقوقه. في المؤسسات الخاصة هو "موظف" في خدمة صاحب العمل. الذين عملوا في التعليم الخاص يعرفون جيداً "جحيم" دلال التلاميذ وأوليائهم وسط سكوت بل وتواطؤ الإدارة.