لا بدّ من تخفيف الضوء، لإنصات فذ على دبيب الناس المكتوم. تخفيف الضوء لرؤية ما تُحجبه المصابيح والقناديل. الإحساس باليقظة المذعورة على وقع سنابك الكوابيس، ومن ثم العودة إلى نوم مضطرب على سرير أوجاع المفاصل. معاتبات الأبوين الموزعة على حشد الأمراض التي وفدت إلى أبدانهم بالجملة، والأدوية التي بلا مواد طبية فعالة، تذكير للأغراض التي سيحملونها في رحلة اليوم التالي على ظهر "السوزوكي"، لتفقد الأبناء الموزعين بين الأحياء.
الهمس المخنوق بضرورة التدرب على تقبل العيش في بلاد لها رائحة "درنات البطاطا"، تجاهل بعض الوصايا العائلية المتوارثة كإضافة الملح إلى الطحين، لأنه لم يعد مجدياً. تقديم الخبز والملح والتذكير به كل حين، كعربون كريم للتآخي، وعدم استعجال تقطيع الرغيف قبل رشه بزيت الزيتون ونثر أوراق النعناع على قلبه المفتوح...الاعتياد على حيوات الأهل القصيرة التي تضيء، ولا تلبث أن تنطفئ كمصابيح الزينة.. واعتياد رؤية آخرين يعبرون كأكياس الطحين، أي الناس الذين كانوا يلبسون بزات مكوية على مقاسهم، تظهر من نهايات أكمامها أطراف قمصانهم البيضاء، وتنسدل على صدورهم ربطات عنق نحيلة، توثق بحبسة مذهّبة بين أزرار قمصانهم، ويصبغون شعورهم وحواجبهم وشواربهم بلون أشد سواداً من الليل.. ليؤكدوا لمن يراهم يتقدمون بخطواتهم الثقيلة وقاماتهم المستقيمة، أنه بإمكان الأناقة والأصبغة وقطرات ماء الكولونيا التغلب على نوائب الزمن.
في الصباحات المثقلة بالضباب، لا أحد يخرج يديه من جيبه ويمدهما لمصافحة من هو مقبل نحوه، ولا أحد ينطق بكلمة. يسيرون بصمت ثقّله الرعب والارتياب والتأمل الأبكم في خلود الحجر. يكتفون بهز رؤوسهم للأسفل والأعلى، ملتزمين بهذا النمط المستحدث من التحيات الواقعية.. ما عاد أحد قادراً على تكرار الكلام ذاته، والشكاوى ذاتها، ولا الوقوف لساعات لأجل الحصول على الخبز اليومي، والانتقال بعدها إلى طابور انتظار الشاحنة التي تحمل عبوات الغاز المنزلي، وتعقّب صهاريج المياه، واستئناف مسيرة الغضب التي بدأها أجدادهم من أواخر القرن التاسع عشر بعد ذلك كله.
تختلط الصور في غبش الصباحات الشتوية، أترى سقط الرجل في أحضان رايته، أم سقطت رايته في أحضانه، أمهاجرة أم وافدة أسراب العصافير التي ترتاح على أسلاك الكهرباء، وبماذا تبدأ وليمتها الغربان المنقضة على الجثث المشوية فوق نيران الحرب، من العيون التي انسدلت أجفانها كتروس حديدية، أم من الأفواه، التي حالت الكلمات المتيبسة بين شفتيها دون انطباقها. يجري بصمت تخمين كل ذلك، إذ ليس هيناً الوصول إلى مناهج الغربان في أكل الجثث.
تتباطأ الحركة، يربكها الطين الذي بات أثقل من الأحذية، ومن رؤية وجوه غير مألوفة تعبر الشوارع بصلف.. ومن أحابيل الباعة الجوالين لاستدراج المشترين للحديث عن السلام في بلاد أمست فيها البنادق أكثر عدداً من أشجار الزيتون.
لا شيء واضح في كل هذا، إلا عصير الكرز الحلو الآتي من عهد حيرة الفراشات بزهورها، والبيوت التي تحولت إلى أنقاض. وإن كان لا بد من الدموع، بعد كل ذلك، فلماذا يدفن الموتى بمواكب أشبه بالأعراس.
عرف الأعداء، أي الطامعون بهذه الأرض وخيراتها وتسخير شعبها، أن حماية التخوم تحتاج إلى ما هو أشد فاعلية من غراس الصبّار. لم تحتج البلاد إلى حيل عسكرية حاذقة. تمكنوا من الوصول إلى أنهارها ومزارعها ومدنها وقلاعها، واقتنع شعبها بالعبودية، واعتبرها من الامتحانات الإلهية في هذه الحياة الفانية، وسيجري تعويضها في الحياة الأخرى المنتظَرة. لم نأخذ بالكيفيات التي تحمي بلادنا، أي أرضنا وشعبنا، إذاً يجب التدرب على جرهما خلفنا، كعربات في قوافل القرباط (اسم الغجر في سوريا).
***
لم تك أكلاف الزعامة باهظة، دبابة لا ترى بكاملها، كاف بروز برجها أو سبطانتها، بزّة مكوية وحذاء لامع، وكلمات نارية تسوق الناس لمواجهة الاستعمار في النهار، في حين يتكفل الزعيم وزمرته طلب معونته في الليل، وهي طريقة معلومة ومتقنة، وهناك إجماع على مساراتها الأساسية. يجري التحريض في الخفاء، وتسهيل نزول الناس إلى الشوارع، لا بغاية مواجهة الاستعمار ودحره وتقويض مرتكزاته، وإنما لتذكيره بجنرالاته الأيتام، وبعض من قدراتهم على إيقاظ الشعوب من نومها، ودفعها إلى الساحات العامة، وقذف الحجارة على بيوت القناصل ومراكزهم، وحرق بضع مؤسسات وشركات تعود إلى ما يذكِّر به، وهذا في عهد النهوض القومي، أما في عهد نكوصه، أي عهد المتاجرة بالأديان، والمزايدة بها، فغدت "المواجهة" أسهل بكثير.
"ضاعت الطاسة"! لسنا في حمام عمومي، لكن الطاسة متاحة في الحمام وخارجه، ويمكن ضياعها في كليهما. وهي الوسيلة المتبقية لغرف الماء النظيف، وإزالة رغوة الصابون المنسدلة على العيون، التي تحجب الرؤية وتكوي باطن الأجفان.. "ضاعت الطاسة" من حين بات رقباء الشرطة السرية يحصلون على شهادات الدكتوراه في الفلسفة والنقد الأدبي والتنمية المستدامة.. ويتحدثون على شاشات التلفزيون عن عصر الأنوار.
لا تزال هناك إمكانية للوقوع في الأوهام التي وُقِع بها قبل قرن، كتحميل الهواء رسائل الإغاثة، والتربيت على كتفه كحال التربيت على كتف فتى انتزع مرتبة متقدمة في نجاحه المدرسي، استفتاء الموتى لاستبيان أرائهم في الأحياء.. واستدراج هطول الأمطار بقرع الدفوف، عدم التيقن من أن كلام الشتاء يجففه الصيف، وعدم الانتباه إلى أن النضال ضد الاستعمار يبدأ عند من ينادون بمقارعته بعد إيداع أموالهم المنهوبة في مصارفه.
عبثاً البحث عن أدوار متميزة في التاريخ، لقوم خارج التاريخ، ولن يعوضهم ذلك بقراءات للأشعار والمقامات التي تبرز الشجاعة والمروءة وإغاثة الملهوف.. واعتبارهم ميزات فريدة لا تحوز عليها الشعوب الأخرى الجبانة، الجاحدة، البخيلة. استسهال طرح الأسئلة، لا بغاية تطويق المشكلات، بل لاستقبال كسول للأجوبة، وتكرار بلا طائل للعبارات الانهزامية، كـ "الذي يتزوج أمي اسميه عمي"، من دون إصغاء لتبدلات الزمن وقسوة الخيارات. ترى ما الاسم الذي سنطلقه على من يطمع بأمنا من دون إظهار أي نية للزواج منها؟ وكأن هذا الكلام لا يصل أهله الذين ناموا كما أطفالهم، قبل الانتهاء من سرد الحكاية.