تطلُّ بعض القرارات الحكوميّة من خلف المتاريس، تبدو وكأنها مشتقّة من حربٍ مرادفة للتي تطحن عظام البلاد. والناس اعتادوا أنّ يناموا تحت قصفٍ حكوميٍّ ناعم يخلو من شوائب البارود والموت، لكنه يأتيهم من أعلى، يهطل فوق رؤوسهم متخفّياً داخل تلك التشريعات التي تخيط لهم على عجالة أثواباً ضيّقة للعيش، تصير مع مرور الوقت على مقاس الجميع، ولا سبيل أمام الناس سوى التودد من حياةٍ معلّقة، حدودها التقنين من الجهات الأربع، وفسحة الممكن فيها ضيّقة بفعل تبعات الحرب وسوء الإدارة وتقاسم المنفعة بين مكونات السلطة القائمة، في وقتٍ يعيش فيه المواطنون العاديّون على ضفّة أخرى غالباً ما تكون خارج حسابات القرارات الاقتصادية والاجتماعية المتّخَذة.
حكومتان للتقنين والغلاء
في شهر تموز / يوليو من العام الحالي تنصّبت حكومة جديدة، أغلب مكوّناتها هم وزراء جاؤوا من الحكومة التي سبقتها. وعلى الرغم من التغيير الطفيف في مجلس الوزراء باعتباره أحد الأذرع التنفيذيّة للسلطة وليس أحد مكوّناتها، فإن الكثير من وسائل الإعلام المحليّة احتفت به، وسوّقته بصورة ديماغوجيّة لائقة، مُحيلةً أسباب معاناة السوريين إلى قرارات الحكومة السابقة، مستبشرةً بالحكومة الجديدة. وخلال نصف عام لم تصحّح هذه الحكومة مسار الحياة الملتوي، بقي التقنين هو العرف اليومي لحياة الناس، وبقي الغلاء. وكأن تبديل بعض أسماء الوزراء يزيح كتلة المشاكل الأساسية تلك باتجاه برزخ الحلّ، فلا السلطة تنوي أن تغيّر منهجيّة تفكيرها في إدارة الشأن العام، ولا الناس قادرون على استنتاج طرق إضافيّة لمواصلة البقاء، فالغلاء والتقنين هما مجرّد إظهار فوتوغرافيّ بائس للواقع، وهما أيضاً بعض المنتجات النهائية للأزمة الاقتصادية المركّبة الشاخصة بدلالاتها الدامغة عبر غياب التمويل الحقيقي لبنود الإنفاق الجاري، وتعطّل الإنفاق الاستثماري فعليّاً، وارتفاع معدّل التضخم، وانخفاض القيمة الشرائية لليرة، وتآكل احتياطي القطع الأجنبي، بالإضافة إلى فجاجة العقوبات الغربيّة. ثم أنّ هذه المعطيات عادت وتحوّلت في لحظةٍ ما إلى متراسٍ تحتمي به أغلب القرارات الصادرة خلال سنوات الحرب، والتي دفع كلفتها المواطن البسيط.
سيرة الرغيف الأسمر
مطلع العام 2015، قررت السلطة رفع سعر الخبز للمرّة الثانية بنسبة 40 في المئة، بالإضافة إلى تخفيضها لوزن الربطة الواحدة بنسبة 11 في المئة. ومع هذا فقد تبدّلت جينات رغيف الخبز كليّاً اعتباراً من شهر آذار / مارس من العام الماضي، ليظهر مشوّهاً بلونٍ أكثر قتامة وبرائحة غير مستحبّة، أيّ أنه لم يعد مطابقاً للمواصفات القياسيّة المألوفة. امتزج طحينه الأبيض بالنخالة السمراء ودخلت إلى قلبه خمائر فاسدة فأفسدته، وبالرغم من ذلك ظلّ الناس يأكلونه، أكثرهم إيماناً يقول غيرنا مات جوعاً في مضايا وفي الغوطة الشرقية وفي غيرهما، وأقلهم إيماناً يأكله فقط لانتفاء الخيارات البديلة. ثم تبدّل لون الرغيف على نحوٍ مفاجئ مطلع شهر تشرين الأول/ اكتوبر من العام الحالي، فظهر أبيض وكأنه تخلّص من محنة لونه وطعمه، ثم عاد مطلع الشهر التالي إلى سيرته السمراء البائسة، عاد لونه قاتماً كما ألفهُ السوريون خلال الحرب. ولعلّ هذا التحسّن القصير خلال شهر في مسيرة الرغيف السوري تزامن مع دخول كمية من القمح الممزوج بمادة "الأوكراتوكسين" المسرطنة والذي كان مخزّناً داخل عنابر مطاحن "لبنان الحديثة" المقفلة بقرار قضائي لعدم استيفائها الشروط الصحية، فالقمح المسرْطن طرده لبنان من أرضه، وأدخلته السلطة في سوريا إلى أرضها عبر معبر العبوديّة الحدودي! وهذه المعطيات كشفتها صحيفة لبنانية.
دراما ارتفاع أسعار المحروقات
تألقت الحكومة السابقة على مسرح رفع الدعم أكثر من سواها في سلسلة عروضٍ متواصلة استمرّت أربع سنوات (2012- 2016)، تبنّت خلالها قراراتٍ برفع سعر المازوت خمس مرّات بنسبة 620 في المئة، ورفع سعر البنزين ست مرّات بنسبة 462.5 في المئة، ورفع سعر الغاز ثلاث مرّات بنسبة 700 في المئة، ما جعل المستويات العامّة للأسعار ترتفع إثر كلّ زيادة. وعلى الرغم من ذلك، بقي الطلب على المشتقات النفطيّة أكثر من العرض المتاح، الأمر الذي أثمرَ أسواقاً سوداء خرجت تدريجيّاً من تهمة الاستتار في الظلّ إلى فضيلة العلن، وكأنها أيضاً حالة موضوعية لا مفرّ من بلوغها، وهي ليست كذلك، بل إن موسم الحرب ينضج ثماراً لا ينضجها موسمٌ آخر، وقلّةٌ فقط تقطفها.
وشهد شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام الحالي على مراوغة حكوميّة طويلة اتخذت من باخرة الفيول الراسية في ميناء بانياس مقرّاً لها، بحيث ظلّت حمولة الباخرة المقدرّة بنحو 80 ألف طن حبيسة قرارٍ واضح لم يصدر لإفراغها دفعةً واحدة. لكن وسائل إعلام مقرّبة من السلطة تناقلت خبر تفريغها على دفعات، دون أن تقدم شرحاً وافياً لهذا الإجراء سوى التأخر في دفع قيمة الفيول. إلا أن فهم امتدادات السوق السوداء، وسيطرة أقطابها الأساسيين على معظم حركة تداول السلع داخل سوريا يبيح التكهن بأن التفريغ التدريجي لمحتويات الباخرة من مادة الفيول يذهب ليباع إلى المعامل التي تحتاج هذه المادة كوقود، أو إلى غيرها، إذ إن ساعات التقنين الكهربائي بقيت على حالها، فهي لم تقلّ عن 16 ساعة في اليوم كدليل على عدم وصول هذه المادة إلى محطّات التوليد الكهربائيّة كما هو منتظرٌ منها.
قطاع الاتصالات يقتصّ أيضاً
انضمّت أجور المكالمات الخلويّة إلى جوقة الغلاء هذا العام، بعدما قررت وزارة الاتصالات السوريّة رفع ثمن المكالمات الخلوية والانترنت التي تقدّمها شركتي "سيرياتيل" و "أم تي إن" بنسبة 100 في المئة تقريباً، وهذا قرار إضافي ابتزَّ جيوب الناس ولا مبرر اقتصاديا له، باعتبار أن كلفة وأجور تشغيل هذه الخدمة لم يطرأ عليها أيُّ جديد. مثله في ذلك مثلُ القرار الصادر عن الوزارة في منتصف العام الحالي، والذي يُلزم كلّ من اشترى هاتفاً محمولاً بعد تاريخ 19 تموز/ يوليو 2016 غيّر مصرّح به جمركيّاً أن يدفع قيمة تعريفه لدى إحدى شركتي الخلوي والبالغة 10 آلاف ليرة (20 دولارا)، وإلا يخرج هاتفه عن الخدمة، وكان أحرى بالوزارة الحريصة على تحصيل ضرائب الدولة أن تستوفي قيمة التعريف من أصحاب المحلات التجارية التي تبيع الأجهزة، لا من المواطنين الذين اشتروها، إذ كيف لهم أن يعرفوا إن كان الجهاز المعروض للبيع قد استوفى الرسوم الجمركيّة لإدخاله أم لا. وبحسب الأرقام المتوفّرة، فإن محلات الهواتف الخلوية باعت في دمشق وحدها قرابة 90 ألف هاتف خلوي خلال العام 2015.
غير أن هذه السلطة تستقوي في قراراتها على الناس العاديين فقط، فهم ليسوا سوى حلقة الاستهلاك النهائي بالنسبة لها، وهم أيضاً الحلقة الأضعف أثناء إجراء حسابات التشريع والتقرير في سوريا، الحلقة التي يمكن كسرها بسهولة على الدوام.