الشتاء يعود إلى المخيم

5600 خيمة في مخيم واحد، عشرات المخيمات، آلاف الأطفال، عشرات آلاف النساء، آلاف الرجال، كلهم يرقدون تحت خيام نايلونية فيما ينهشهم البرد. عالم كامل من الخيام، يرقد مريضاً وتذيب قلبه ليالي الشتاء، وإنْ ضحك أحدنا، وإنْ فرح أحدنا، وإنْ رقص، فإن العالم الذي يراقب معاناتنا كما فعل شمش العالي، يوهم نفسه ويوهمنا أننا بخير.
2023-11-30

فؤاد الحسن

كاتب من العراق


شارك
مخيم في سنجار - العراق

عاد الشتاء إلى المخيم، وتَخفّى "شمش العالي" (1) وراء جدران من ضباب يزحف نحو اللامكان، مستعيناً بأرواح هائمة على أبواب الجِنان، لاجئة تبحث عن بيتٍ بديل، لأن بيوتها اللحمية تعفنت في المقابر الجماعية التي لم تُكتشف بعد في قرى "شنگال" (أو "سنجار"، وتلفظ "شنگال" لدى الأزيديين). أجساد صبغها البرد بزرقة جنائزية في شوارع المخيم، بعضها ركضاً، والآخر ماشياً... لا يبالي أحد بما سيحصل، لن يجيء موسم اسوأ مما رحل، فأكيد أن السماء لن تسقط على الأرض، بل هي تسقط كل شتاء على المخيم.

سماء من رماد أشبه بغابة محترِقة فوق المخيم، كائناتها وحوش برؤوس أطفال وأجنحة مقصوصة يقبضون على ريشها بمخالبهم، لهم عيون طيبة، لكن أجساد مخيفة، وكل دمائهم تصب في أعينهم، فتبدو في الليل حمراء. تقول لي عجوز تبادلنا السجائر، لمحتُ الموت وخوفاً في شيب ضفيرتها: إن أطفال المخيم عندما يموتون يتحولون إلى هواءٍ نقي تتنفسه كائنات السماء، بعد كل التلوث الذي يحمله الكبار بموتهم إلى هناك، وتتحول ذمائهم (2) بعد تجميعها إلى روح قوية، لا تعرف الخطأ والصواب، لكنها تنصاع الى أوامر الأب، وقد شهدتُ بنفسي جزءاً من السماء أسعفني في رؤيته تمزق وسادة الرماد التي تغطيها، وكان حفيدي جناحاً لتنِّين بوجه طفولي، يرفرف محيياً إياي. منذ ذلك الحين وأنا أعرف أن الأرض ليست لنا، بل السماء. هذه الأرض سجون منفصلة مثل هذا المخيم، والحياة اختبار: إن كنا سنموت حتى بعد قتلنا، أم أننا سنستمر إلى حين استدعائنا، كي نتحول كل على طريقته إلى جزء من السماء.

لا سماء تخفق فيها أجنحة ملائكة مطرودة من الأرض، لا أرض تحط عليها، لا عش لها. أنّى لها استيعاب العالم؟ أنْ لا عالم سوى العالم، وأن لا موت سوى الموت، وأن لا فضاء سوى صدورنا؟ أنّى لها استيعاب أن السماء كلها حاضرة في صدورنا، وأن لا سماء تحلق فيها عصافير قلوبنا؟

يقول لي عجوز تشاركنا السجائر: يقال أن الكتابة اختُرعت في العراق، ومنها انطلقت أولى الكلمات والحروف، أرجح أن الكلمة الأولى كانت تعبّر عن الموت، لأننا نعرف الموت مذ ولدنا ومذ تكون العالم، لكننا لا نعرف الحياة.

لا أرباب في مخيم تحيطه سلسلة جبال، وحدها ظلال موتى تقطع الشوارع جيئة ورواحاً، والريح بأسلحة لا مرئية تهز الخيام كما لو أنّها مهود، الصبيان فيها أشبه بالمقبورين، لا نأمة تصدر عنهم، لا نأمة. ويبدأ العالم في كل صباح عند خاتمة كل خريف، متعباً منذ ولادته، وسينتهي في آخر كل ليلة شتائية إما مسحوقاً تحت بساطيل رجال السلطة، أو جوعاً للشمس التي لا تشرق على المخيم، التي يحملها شمش العالي متجهاً نحو حقول فان كوخ، مقفِلاً على نفسه أُطر اللوحات، ومنعزلاً في عتمة كوخه.

والأطفال الذين تراقبهم السماء يرتعشون برداً، ويُجرَّدون من ألفة محفورة في دمائهم، لا يعرفون عن الحرب سوى دموع أمهاتهم التي يقتاتون منها عند تأخر مساعدات المنظمات الإنسانية. أطفال المخيم زهور الحياة الميتة، التي قتلها البرد، حيث يقرر رجال السلطة أي سور حديدي يناسب المخيم لإسكات أفواه الجوعى والمشردين الذين هُجِّروا من قراهم ومدنهم بسبب صفقاتهم، أو هداياهم التي يهدونها إلى بعضهم البعض. لكن ما يجهلونه هو أن الأفواه الجائعة لا تلفظ سوى "طعام، سنموت جوعاً وبرداً!"

يا مَن تسيّرون العالم على هواكم، يا أيها الذين ولدوا والحبال الملفوفة حول أعناقنا في أيديهم، مَن أوكلنا لكم؟ أهذا عقاب سماوي؟ أي سماء تلقي بأطفالها الملائكة لقطيع من الذئاب الجائعة في ليل المخيم البارد؟ لا أحد يجيب، لا أحد يسمع، وكأن أصواتنا قطعان تخلّى عنها دليلها السماوي والأرضي، واتجهت كل كلمة نحو أفق تخنقه يد الضباب الشتوي. لا قلب ينبض خوفاً من لهاث كلاب السلطة وصور رجالاتها ببذلاتهم الأنيقة المعلّقة على أعمدة المخيم، ولا أحد يدري كيف نعطيهم أصواتنا في الانتخابات، إن كنا جوعى وعطشى، وشفاهنا ترتعش برداً، وألسنتنا مقابر حرية؟ كيف نصنع منهم وزراء ومدراء ونواب إن كنا نحن أنفسنا مشردين، ولا سلطة بيدنا؟ نعرف أنَّهم ليسوا بحاجة إلى أصواتنا، لأنَّهم هم أنفسهم الذين ماتوا وعادوا الى السلطة بأجساد أخرى، والنفق الذي يمرون منه إلى عرش السلطة نتن ومقرف، ولكي تكسب كرسياً في مجالسهم وجلساتهم التي تقرر مصيرنا، لا بد لك من الاغتسال بمياههم المقدسة، وأنْ تتحول إلى واحد منهم.

كان شمش العالي حاضراً يوم الحرب، كان الوقت صيفاً وأطل بنوره نافضاً الغيوم كي ينال رؤية أفضل، ويرى "داعش" يدخل المدينة، يغتال رجالاً وقفوا بصدورٍ مفتوحة مقابل الرصاص، عرّضوا أرواحهم المتحولة إلى عصافير معتقلة في أقفاص صدورهم للموت، صارخين: أيها الموت، يا كلباً يعوي منذ فجر العالم، لا نهابك، ولك أن تقضم قلوبنا، خذ منها ما تشاء، لكن لن تقترب ممن نحبهم ونحن أحياء. أيها الموت: لك الحياة كلها، لك سعادتنا المنتظرة، والمدن المهجومة، ولنا رغيف خبز تطبخه أم شنگالية على تنور طيني. لك السيادة، ولنا الجوع، وإن جعنا أكثر، سنأكلك حياً أيها الموت!

وقُتِلوا. عكس ما ظنّوا، لم تحلِّق أرواحهم إلى الجنة، فهي محجوزة سلفاً للقتلة والمتغصِبين، وآكلي قلوب الأمهات. بل ظلت أرواحهم بعد تحررها من أجسادهم تحوم في المدينة مشردةً، لا نوم بعد الموت، بل صحوٌ أبدي. إن الجحيم صحو، والجنة غفوة قصيرة لا ننالها نحن.

الأطفال الذين تراقبهم السماء يرتعشون برداً، ويُجرَّدون من ألفة محفورة في دمائهم، لا يعرفون عن الحرب سوى دموع أمهاتهم التي يقتاتون منها عند تأخر مساعدات المنظمات الإنسانية. أطفال المخيم زهور الحياة الميتة التي قتلها البرد.

أبْصر عند كل زاوية بقايا أطفال يلعب رجل الثلج بهم، ونسوة ثُكلن بأطفالهن، يبكين عظامهم التي تمّ جمعها من المقابر الجماعية في أكياس صغيرة، كما لو أنها اجزاء تالفة من كائنات منقرِضة، لا عالِم يبحث فيها عن بقايا روح، وعن سبب قتلهم.

كان شمش العالي يراقب اسواق النخاسة التي نظّمها عناصر "داعش" في سوريا. اللواتي كُبلت أيديهن وكُتبت أسعارهن عليهن، ألبَسوهن تيجان الشوك على رؤوسهن، وهي مدَّت جذورها الى الداخل، وساقوهن نحو بيوت أصحابهم، الذين دفعوا مقابل أجسادهن، كانوا يعتبرونهم درجاً يُفضي الى الجنة، محطات لتكملة الرحلة. أو كافرات أضلّنَ طريق الحق وبحاجة إلى من يغيرهن بيده أو بقلبه أو بلسانه، أو بسلاح كلاشنكوف واغتصاب واعتقال وقتل عائلاتهن وتهجيرهن وقتلهن.

مقالات ذات صلة

أخرج من الخيمة، فاتحاً جناحيّ كملاكٍ ساقط من الجنة، وأطير دون أن تفارق قدماي الأرض، لا أنفِّذ مهمة إلهية، لا أرباب في المخيمات. أبصر عند كل زاوية بقايا أطفال يلعب رجل الثلج بهم، ونسوة ثُكلن بأطفالهن، يبكين عظامهم التي تمّ جمعها من المقابر الجماعية في أكياس صغيرة، كما لو أنها اجزاء تالفة من كائنات منقرِضة، لا عالِم يبحث فيها عن بقايا روح، وعن سبب قتلهم. الجميع يعرف السبب، حتّى رجال السلطة يعرفون أن السبب هو ولادتهم هنا، على أرض الموت.

للإنسانية عين تراقب المخيم، خيمة بعد أخرى، عين أعْمتها أصابع وحش البرد الشتائي، فراحت نحو الغرب. لا شرق في العالم كي تُشرق منه الشمس.

5600 خيمة في مخيم واحد، عشرات المخيمات، آلاف الأطفال، عشرات آلاف النساء، آلاف الرجال، كلهم يرقدون تحت خيام نايلونية فيما ينهشهم البرد. عالم كامل من الخيام، يرقد مريضاً وتذيب قلبه ليالي الشتاء، وإنْ ضحك أحدنا، وإنْ فرح أحدنا، وإنْ رقص، فإن العالم الذي يراقب معاناتنا كما فعل شمش العالي، يوهم نفسه ويوهمنا أننا بخير.

المخيم شتاءً يصير ثلاجة موتى لا أحد يعرف الموتى من الاحياء فيها، وما تبقّى من البلد جحيم ناره التاريخية لا تَخمد، ولا تحرق سوى نفسها. يقول لي عجوز تشاركنا السجائر: يقال أن الكتابة اختُرعت في العراق، ومنها انطلقت أولى الكلمات والحروف، أرجح أن الكلمة الأولى كانت تعبّر عن الموت، لأننا نعرف الموت مذ ولدنا ومذ تكون العالم، لكننا لا نعرف الحياة.

كان شمش العالي يراقب اسواق النخاسة التي نظّمها عناصر "داعش" في سوريا. اللواتي كُبلت أيديهن وكُتبت أسعارهن عليهن، ألبَسوهن تيجان الشوك على رؤوسهن، وهي مدَّت جذورها الى الداخل، وساقوهن نحو بيوت أصحابهم، الذين دفعوا مقابل أجسادهن، كانوا يعتبرونهم درجاً يُفضي الى الجنة، محطات لتكملة الرحلة.

للسماء عيون، تبكي لكنها لا ترى، ولي عيون ترى لكنها لا تبكي، هل تبكي أنت؟ هل تعرف كم طفلاً مات واحترق في المخيم؟ أحادث الكبار منكم، أتعرفون المخيم؟ أعرف رجالاً لا ينامون الليل كيلا تحترق خيامهم وهم نيام. أتعرفون نساء المخيم؟ أعرف نساء انتحرن في المخيم لأن الحياة كانت خارج أسوار المخيم، خارج حديقة الحيوانات التي يعتقلوننا فيها. أتعرفون فتيات المخيم؟ أعرف فتيات انتحرن لأن الحب مات برداً في المخيم. أتعرفون أطفال المخيم؟ ولا أنا أعرف، لأنَّهم يموتون قبل أن نعرفهم، لأن البرد أقوى من الحياة، من حياتهم في المخيم.

للسماء أيادٍ تقبض على أعناق الناس وتنتزع أرواحها، ولي يد تستحضرهم مرة أخيرة كي يعرفوا أنّ السماء لا تعرف الأرض، كي يعرفوا أنهم لا يعرفون ماذا يعني أن تكون من المخيم. وأحمل أطفال المخيم في دمي، أبث في قلوبهم الأشبه بثمار متعفة دفئاً سرقته من شمس أشرقت قبل تسع سنوات على "شنگال"، وأقول لأمهاتهم أن لا تخفن، فلا نار في صدري ولا مخيم كي يحترقوا، وأن لا مدينة في صدري مثل "شنگال" موتاها يموتون وقوفاً على أقدامهم ولا يُدفنون إلا بعد عقود. بل أن صدري حديقة مهجورة، وفيها دموعهن كلها ستسقي أطفال المخيم، الورود التي قتلها الشتاء. وإن كان العالم ثلاجة موتى، فنحن نار أبدية، ولا بد لنا من حياة قبل الموت.  

______________________

1 - شمش هي التسمية الأكدية لإله الشمس، الذي يلفظ سومرياً "أوتو".   
2 - ذماء: بقية الروح في المذبوح وغيره.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...