عام 1935 زارت سيدة الطرب العربي أم كلثوم العراق للمرة الأولى، يومها افتتنت فاطمة البلتاجي (اسم أم كلثوم الاصلي) بأداء المطربة الشابة الجملية سليمة مراد، التي تصغرها بنحو عقد من الزمن. اعتلت سليمة خشبة مسرح الهلال وأطربت الحاضرين بقصيدة "قلبك صخر جلمود"، التي لحنها أحد أبرز أعلام الموسيقى العراقية آنذاك صالح يعقوب عزرا المعروف بصالح الكويتي. لم تهدأ سيدة الطرب حينها إلا بعد أن حفظت كلمات الأغنية وسجلتها، ولم يشكل هذا الموضوع حرجاً للمطربتين، ففن ذلك الزمان لم يرتبط بالأشخاص وحقوق النشر والاحتكار، بل بالقيمة الثقافية والتبادل الفني والجمالي.
بخلاف أنماط الغناء في العراق، من البغدادي والريفي الجنوبي والبصراوي والكردي والبدوي والكاولي، عُرف عن بغداد التزامها بأداء المقامات الموسيقية كأساس فني. فهي وريثة أعلام الموسيقى والغناء في العصر العباسي من إبراهيم وإسحاق إلى زرياب المصلاوي، الذي انتدبه الخليفة هارون الرشيد إلى بغداد، مهاجراً منها إلى الأندلس، واضعاً فيها أسس الموشح الأندلسي معدِّلاً أوتار العود.
في بغداد، كان الشيخ جلال الحنفي أبرز الحريصين على الالتزام بتعاليم المقام، فعارض أعلام الطرب في تلك الحقبة: رشيد القندرجي ومحمد القبانجي وحسن خيوكة وعباس كمبير وطاهر توفيق وعلي مردان وإسماعيل الفحام.. متهماً إياهم إما بالارتزاق أو بالتملّص من قواعد وأدبيات المقام الموسيقي.
أما سليمة مراد فكانت لها قيمة فنية وتاريخية ونسوية. الشابة اليهودية البغدادية ابنة محلة طاطران، تعرفت مبكرا إلى"الجالغي الطقسمي"، الذي كان منتشراً في ملاهي بغداد، ويشتهر بآلات السنطور والرق والطبلة والجوزة والقانون، وكان العازفون يرتدون الزي العراقي الشعبي مع السِدارة الفيصلية على الرأس.
اقتحمت سليمة عالم الغناء الذي كان حكراً على الرجال، بكل ما كانت تملكه من ثقة وموهبة ودراية. فكتب لها الشاعر عبد الكريم العلاف أجمل أغاني تلك الحقبة، منها: على شواطئ دجلة مر، خدر الشاي، قلبك صخر جلمود، نوبة مخمرة نوبة مغشاية، يا نبعة الريحان.. فنالت شهرة تستحقها وكانت أولى المطربات اللواتي دخلن إذاعة بغداد.
كانت سليمة أولى النساء، اللواتي نلن لقب باشا في عهد نوري السعيد. وقد مثلت امتداداً لتاريخ طويل وعميق للحركة النسوية العراقية. فالمرأة العراقية هي أول من تعلمت ووُزّرت من نساء المشرق: نعمة سلطان حمودة، أسماء الزهراوي، حسيبة جعفر وبولينا حسون اللواتي أسسن نادي النهضة النسائية عام 1923، والدكتورة آناستيان وسانحة أمين زكي أول طبيبتين عراقيتين في ثلاثينيات القرن المنصرم..
كان لسليمة مراد بصمتها في الغناء العراقي، كما للمرأة في الحياة السياسية الناشطة والمتقلبة في العراق، فكانت على مستوى من التأثير في الذاكرة العراقية الحديثة، لا يقل عن مستوى تأثير صبيحة الشيخ داوود أول حقوقية وقاضية عراقية، التي تخرجت في كلية الحقوق عام 1940. وكان دورها لا يقل أهمية عن دور نساء جمعية "المرأة العراقية" المناهضة للفاشية والنازية، التي تأسست في عام 1945 برئاسة عفيفة رؤوف، وعضوية نزيهة الدليمي أول وزيرة عراقية، التي شاركت في وضع قانون الأحوال الشخصية عام 1959 القانون الأكثر تقدماً في الشرق الأوسط من حيث الحقوق التي منحها للمرأة. وروز خدوري وعفيفة البستاني وأمينة رحال وسعدية رحال ونظيمة وهبي بالإضافة إلى الشابة البصراوية اللامعة فكتوريا النعمان، التي كانت تدرس الحقوق وتعمل مذيعة في راديو بغداد، والتي شاركت مع الوفد العراقي في أول مؤتمر للمحامين العرب في دمشق في 1945.
إبان تحالف الحكم الملكي العراقي والحركة النازية ونشاط الحركة الصهيونية، وبدعم من الانتداب البريطاني، اختبر العراق مرغماً أو غافلاً أولى مكائد قضم الهوية الوطنية والتقسيم والتهجير، الذي أصبح تقليداً في يومنا هذا، لتفريغ هذه البقاع من تنوعها القومي والعرقي الإثني واللغوي. وكان يهود العراق أولى ضحايا لعنة النفط من فرهود بغداد إلى قانون إسقاط الجنسية وإجبارهم على مغادرة البلاد انتقاماً لنشوء الكيان الصهيوني. رفض معظم اليهود العراقيين الذهاب إلى ما سمي دولة إسرائيل، أما البعض الآخر الذي وصلها مرغما، فقد عاش منعزلاً يسكنه الحنين إلى العراق. ويروي يهود الشتات أنه يوم استهدفت صواريخ صدام حسين إسرائيل، شم الصاروخ العراقي رائحة العمبة (المخلل العراقي) في بيوت اليهود العراقيين ونزل "خطار على ربعهم" (أي ضيفاً).
في تلك الأيام، رفضت سليمة مراد مثل كثيرين من يهود العراق مغادرة بغدادها، وعاشت حتى آخر حياتها في المدينة التي عرفت فيها العلم والفن وحب الموسيقى والأدب والشعر والقفز بين المقامات والتلذذ بهتاف السكارى والعاشقين. اقترنت بالفنان المشهور ناظم الغزالي وعاشا تجربة استثنائية في الحب والطرب البغدادي الأصيل، إلى أن فرقهما الموت، ناظم أولا ثم تلته سليمة.