بدأ الناس لا يتذكّرون شكله منذ أسبوعين ونصف، بل منذ بداية موسم الأمطار. لم يعد يظهر إلّا وهو عبارة عن كرتونة تتدلى منها ساقان قصيرتان تركوازيتان. من الآخر.. صاروا يسمّونه "حلزون المخيم"، لأنه لا يخرج من هذه القوقعة، وأصبحت أمهات بعض الأولاد ورهط غير قليل من آبائهم يصرحون بوضوح لأبنائهم: لن نترككم برفقة شخص "لم يرَ وجهه أحد"، وهذا صحيح تقريباً، فالكلمة تصحّ عليه هذه الأيام.
يشاغب الآخرون ويكتبون على كرتونته ذكريات وأشعاراً وكلمات نابية، مقاطع غزلية وكنايات شائعة وكلمات عابرة أو اخترعتها ألسن الناس حديثاً. في المخيم يخترعون الكلمات أيضاً.
يسجّلون على كرتونته أشياء للذكرى، جملاً غير ضرورية أو جملاً لا داعي لها، يكتبونها بالقلم الجاف ويثقبون رؤوس الحروف. حينما يحدثون ثقباً أو خدشاً في الكرتونة يصيح آخ. يشعر بالألم . يحس بوخزة في رأسه.
يستغرب أن لا يقبل الناس شكايته، لا أحد يفهم بأنهم ثقبوا رأسه، وأنهم كتبوا على جبينه وليس على جدار من الورق المقوى، لا أحد يتفهّم دعواه.
ما يهمّ بأنه أقنع الجميع بكرتونته، هي على الأقل صَدَفته، المَحَارة التي تحتويه، ينام فيها ويستيقظ داخلها ويتكلّم من تحتها.
حينما قرّر ذات ليلة أن يكون مريضاً، مثلما اعتاد أن يفعل أقرانه، مثلما يدعون المرض للتغيّب عن العمل أو الدراسة أو أية مهمة أخرى يكسلون عنها، حينما قرّر ذلك، اختفى داخل كرتونته لأيام. لم يتبقّ من وجوده غير محارته، يتحرك بها ويقيم داخلها ويقضي كل شؤونه الاعتيادية فيها.
ذات يوم، طلبوا منه أن يخفض من صوت الراديو الصغير داخل كرتونته، إنه معتاد على الإصغاء للأخبار من مذياعه الخاص، يسمع الأخبار ويطرب من حوله أحياناً بتلك الباقات الغنائية المختارة التي يطلقها من تحت صدفته.
لم يستجب لهم. كانت ليلة حالكة ومطيرة وباردة، إنه يجلس وسطهم وهو داخل كرتونته، ضوء الراديو الأحمر يتخلل ثقوب الكرتونة وينفذ إلى الخارج. إنه يبدو تماماً مثل ضريح. مكعب محاط بالفتحات يشع منه ضوء أحمر خافت وبهي.
يطلبون منه تخفيض صوت الراديو ولا يستجيب، "إنه ضريح حقاً" صاح المعمّر والعجوز الكبير في مخيم اللاجئين..