انحلال التعليم في لبنان: عين الفساد ترعاه

المشكلة المالية بدأها اختلال هيكليّ بالطاقم التعليمي، بسبب فائض من المتعاقدين دخلوا المهنة من باب الزبائنية السياسية. انفتح الباب على مصراعيه منذ تطبيق المناهج الجديدة في 1998، بذريعة الحاجة إلى أساتذة في مواد التربية المدنية والتكنولوجيا والفنون، فلجأت وزارة التربية إلى التعاقد مع 9300 معلّم. تستند هذه التوظيفات إلى بدعة "التعاقد النوعي" التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، والتي يعتبر البعض أنّها نقطة بداية انحدار المدرسة الرسمية.
2023-11-25

جودي الأسمر

كاتبة صحافية وباحثة من لبنان


شارك
| en
مظاهرات أساتذة التعليم الرسمي في لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

ناداني باسمي وقبله "مِسْ". التفتُ خلفي: 8 سنوات مرّت على تدريسي لـ"صلاح" في مخيّم صيفيّ بإحدى مدارس "باب الرمل" الرسمية - وهي منطقة شديدة الفقر في طرابلس، لبنان - ولكن عرفته بدون اشتباه. الابتسامة المنفرجة عن أسنان فوضوية، والعُود الرقيق هوَ هوَ. كان يسهل على أستاذه في مدرسته النظامية أن يحمله من أذنيه لينقله من المقعد ويلقّنه عقاباً. نسيتُ العقاب، ولم أنسَ ذلك الابتكار في العنف. لفتني أنّه كان يحمل "نرجيلة"، فأخبرني أنّه ترك المدرسة، ويعمل "ديليفري" للنراجيل.

عادت ذاكرتي إلى اليوم الأوّل. كان الأطفال يحضرون إلى الملعب بملابس مبالغ في أناقتها. بدا الصبيان كرجال صغار، بالقميص والحذاء الرسمي، والبنات بالفساتين، كأنّهم أعادوا ارتداء ثياب العيد الأخير. أدرتُ ظهري لذلك "العيد"، وبَكيت.

ثمّ جمعتني طاولة التدريس بـ"أمل" البالغة 9 سنوات، في مركز تعليمي داخل "باب التبانة"، المعروف بأنّه المنطقة الأكثر فقراً في لبنان. حين توقّعتُ أنّها ستقرأ نصّ القراءة العربية، أجابتني "نحن نحفظ النص غيباً لنقرأه".

كانت أمل مع أقرانها ممّن شملهم "الترفيع الآلي" في الصفوف الأول والثاني والثالث ابتدائي منذ عام 1998، بموجب اعتماد "المناهج الجديدة" حينذاك. وينطبق على هؤلاء "فقر التعليم"، الذي يؤشِّر إلى تلامذة لا يستطيعون قراءة نص بسيط في سن العاشرة. ثم ألغى وزير التربية الإجراء عام 2010، ولكن بعد اختبار 13 سنة أنتج جيلاً لا يجيد بديهيات الكتابة والقراءة.

هذه عيّنة عن انحلال جودة التعليم وتلك أخرى عن التسرب المدرسي تسبقان سنوات "الأزمة اللبنانية" التي يؤرّخ لها بخريف 2019، ويحملها النقاش العام اليوم إلى خلفية تفكّك النظام التعليمي - خصوصاً الرسمي، الذي يتصدّره شعار "4 سنوات للتعويض" بسبب استتباب "الفاقد التعليمي"[1].

انحلال بطيئ ولكنه متوقَّع بالتراكم الكمي والتغير النوعي الملازمين له منذ نحو 25 سنة، وله أسبابه ومؤشراته ونتائجه، وجاءت "الأزمة" لتسرّع ما يمكن تسميته بالارتطام. وسيضْحى لوم الأزمة المبرّرَ الشائع، وستكتفي به الرواية الرسمية اللبنانية لتسطيح المشكلة، وصرف الاهتمام عن تحليلها، وبالتالي التنصل عن مسؤوليتها في نجدة هذا الميدان.

المعاشات وبنية المعلّمين

نضج التفاعل حول معاشات الأساتذة في التعليم الرسمي حتى احترق. وهكذا يتمنّع ترميم المشكلة بمحوريّتها التي تعني الأساتذة، أي العمود الفقري للتعليم.

وآخر التفاعلات، أعلنتها وزارة التربية في السنة 2023-2024، بتعديل الرواتب إلى 7 أضعاف. ولكنها مضاعَفة بلا طائل، بسبب تدهور قيمة الليرة بنسبة 90 في المئة، فيساوي راتب المعلّم الشهري 140 دولارا أمريكيا، وهذا إنْ تقاضاه. فقد انطلقت صفارة العام في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بمعلّمين فقدوا الثقة في حصولهم على المعاشات، بعد أن لفّت الإضرابات المدارس الرسمية بمجموع ثلاثة أشهر خلال العام السابق 2022-2023، لأسباب عديدة أهمها تأخر الرواتب وهزالتها والنكث بوعود حول حوافز ماليّة. كان استئناف التعليم رهن انقسام بين الروابط التعليمية، فاعتمد على القرار الشخصي للمعلم.

اعتُمِد "الترفيع الآلي" في الصفوف الابتدائية منذ عام 1998، بموجب إقرار "المناهج الجديدة" حينذاك. وينطبق على هؤلاء "فقر التعليم"، الذي يؤشِّر إلى تلامذة لا يستطيعون قراءة نص بسيط في سن العاشرة. ثم ألغى وزير التربية الإجراء عام 2010، ولكن بعد اختبار 13 سنة أنتج جيلاً لا يجيد بديهيات الكتابة والقراءة.

أفادت اليونيسف (تقرير 2022) أنَّ "3 من بين كلّ 10 شبّان وشابّات في لبنان أوقفوا تعليمهم"، وأنّ نسبة الالتحاق بالمدرسة انخفضت إلى 43 في المئة في العام المذكور. وتستقطب بيروت النسبة الأقل من المدارس الرسمية بمعدّل 5.82 في المئة منها فقط، وتضمّ نحو نصف سكان لبنان.

وترتفع شكاوى أساتذة الرسمي وطعنهم بنزاهة وزارة التربية، بعدما تبيّن أنّ اليونيسيف والبنك الدولي قدّما في العام 2022 وحده 64 مليون دولار كمساعدات طارئة للأساتذة، لم يطلهم منها سوى النذر اليسير، ويسألون - بدون إجابة - لماذا يتقاضون معاشاتهم بالليرة وهي تصلهم من الجهات المانحة بالدولار؟

غير أنّ المشكلة المالية بدأها اختلال هيكليّ في الطاقم التعليمي، بسبب فائض من المتعاقدين دخلوا المهنة من باب الزبائنية السياسية. انفتح الباب على مصراعيه منذ تطبيق المناهج الجديدة في 1998، بذريعة الحاجة إلى أساتذة في مواد التربية المدنية والتكنولوجيا والفنون، فلجأت وزارة التربية إلى التعاقد مع 9300 معلّم. تستند هذه التوظيفات إلى بدعة "التعاقد النوعي" التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، والتي يعتبر البعض أنّها نقطة بداية انحدار المدرسة الرسمية. استمرت التعاقدات على الرغم من صدور القانون رقم 442/2002، والذي يحدد أصول التعيين في التدريس وإجراء مباراة للمتعاقدين لتعيين المؤهلين منهم في الملاك... والتي لم تجرِ على الإطلاق.

ولا يتأثر الأساتذة المتعاقدون بالرقابة الإدارية، ولا يتمتعون بالحد الأدنى من الاستقرار الوظيفي. وانعكس ذلك تدنياً مستمراً في مستوى التعليم الرسمي.

التعليم عن بعد

خسر تلامذة الرسمي سنة ونصف السنة (2020-2021) بسبب الحجر المنزلي واللجوء إلى "التعليم عن بعد" الذي أثبت فشله في بيئة التلامذة وضمن المدارس الرسمية.

ترتفع شكاوى أساتذة الرسمي بعدما تبيّن أنّ اليونيسيف والبنك الدولي قدّما في العام 2022 وحده 64 مليون دولار كمساعدات طارئة للأساتذة، لم يطلهم منها سوى النذر اليسير، ويسألون لماذا يتقاضون معاشاتهم بالليرة اللبنانية وهي تصلهم من الجهات المانحة بالدولار؟ وتشير التقارير الدولية إلى أنّ وزارة التربية تلقّت قروضاً وهبات توازي قيمتها 200 مليون دولار أمريكي، من المفترض صرفها بين 2014 و2022.

دخل لبنان منذ 2010 من المنظمات الدولية تراكمياً نحو 2.5 مليار دولار لدعم التعليم الرسمي، ويقدّر البنك الدولي كلفة بناء مدرسة بمليوني دولار، والترميم بكلفة تتراوح بين 300 و700 ألف دولار، وهذا يعني أنّ المبالغ التي تلقاها لبنان كفيلة ببناء أكثر من 100 مدرسة وتوسعة 200 أخرى، وترميم كل مدارس لبنان.

وبحسب شهادة خبيرة تربوية[2]، انصرف اهتمام الأهالي إلى الأولاد الأكبر سنّاً وتلامذة الشهادات، فكانت لهم الأفضلية في استخدام الهاتف الخلوي أو اللابتوب، إنْ وُجد هذا الأخير، وإنْ توفّرت الكهرباء التي تغيب باستمرار عن البيوت ما لم تشترك في المولدات الخاصة المرتفعة التكلفة. وإنْ تأمّنت كلّ هذه الوسائل قد ينقطع الانترنت، ما يعني أنّ غالبية تلامذة الرسمي لم يحصلوا على تعليم لائق ومنتظم وجدّي.

وعلى مستوى مهارات التعليم الافتراضي، تلاحظ الخبيرة أنّ أساتذة الرسمي أبدوا التزاماً محدوداً بالدورات التدريبية التي نظمتها "دار المعلمين". ورصدت استجابة خجولة بمعدل 25 في المئة من المعلمين تعاطوا مع منصة "تيمز"، فتساهَل الغالبية في إعطاء الدروس عن طريق "واتساب". وبقيت هذه الثغرة في تقنيات التعليم الحديث ماثلة خلال التعليم الحضوري وخصوصاً لدى الأساتذة الأكبر سنّاً. ويكرّس هذا التّأخر غياب الرقابة، ونقص كادر المنسّقين المشرفين على المناهج وأداء الأساتذة.

خريطة التعليم

نتيجةً للأزمة الاقتصادية، انتقلَ حوالي 55 ألف تلميذ من المدارس الخاصّة إلى المدارس الرسمية في العام 2020-2021 وحده، ممّا زادَ الضغط على المدارس الرسمية، بحسب تقرير البنك الدولي (2021).

ولا تتوافر إحصاءات دقيقة حول التسرب المدرسي في لبنان. فنسبة 50 في المئة التي أعلنتها "مؤسسة إنقاذ الطفل" خلال تقرير مصوّر نشرته في أيلول/سبتمبر 2022، تشمل التلامذة اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين. ولكن الواضح في النسبة المذكورة ارتفاع التسرب خلال السنوات التي محقتها الأزمة. وأفادت اليونيسف (تقرير 2022) أنَّ "3 من بين كلّ 10 شبّان وشابّات في لبنان أوقفوا تعليمهم"، وأنّ نسبة الالتحاق بالمدرسة انخفضت إلى 43 في المئة في العام المذكور، ولم تُنشر إحصاءات عن العام 2022-2023، علماً أنّ الانطباع العام يعكس تأقلم اللبنانيين مع أزمتهم الاقتصادية وبالتالي ارتفاع نسبة الالتحاق في المدارس عام 2023-2024 بالتزامن مع استقرار الاقتصاد اللبناني على الدولرة الشاملة واستقرار نسبي لصرف الليرة.

لكن وبشكل مناقض لوطأة وتأثير الفقر، يُحصى الثلث فقط (31.34 في المئة) من تلامذة لبنان في التعليم الرسمي، فيما 52.93 في المئة يشملهم التعليم الخاص[3]، ما يدل على أنّ اللبنانيين لا يثقون في المدرسة الرسمية، ففضلوا التعليم الخاص رغم أعبائه المالية.

ويتوزّع هؤلاء التلامذة بمجموع 336,301 تلميذ/ة على المراحل التعليمية كالآتي:

-الروضة: 51,907 تلامذة

-التعليم الأساسي الابتدائي: 148,717 تلامذة

-التعليم الأساسي المتوسط: 69.741 تلميذ

-المرحلة الثانوية: 65,936 تلامذة

وبالعدد البالغ 1232 مدرسة وثانوية، يُعدّ التعليم الرسمي الأكثر انتشاراً في لبنان، مشكّلاً 44.28 في المئة من مجمل المدارس.

يحفّز انهيار معاشات " الجامعة اللبنانية" نزيف الطاقم التعليمي بعدما اتّجه نحو 600 أستاذ متفرغ لترك الملاك خلال 2022-2023 و2022-2021، وأكثرهم من الاختصاصات العلمية في الهندسة والرياضيات والمعلوماتية، وأعلنت كليات عديدة منها الطب والصحة والاعلام عن شواغر في مرحلتي الإجازة والماستر.

والملاحظ تركّز انتشار المدارس الرسمية في المحافظات المهمشة والطرفية، بحيث تتصدّر ضواحي بيروت الجنوبية الصورة بنسبة 16.89 في المئة، يليها لبنان الشمالي بنسبة 15.06 في المئة، ثم جبل لبنان القروي (13.26 في المئة)، وعكار (11.18 في المئة)، والجنوب (10.78 في المئة)، والبقاع (9.35 في المئة)، وتتقارب النبطية وبعلبك-الهرمل (8.95 في المئة و8.7 في المئة)، بينما تستقطب بيروت النسبة الأقل من المدارس الرسمية بمعدّل 5.82 في المئة فقط، وتضمّ نحو نصف سكان لبنان.

ولا تشمل هذه الأرقام التعليم المهني والتقني. لهذا التعليم مؤسساته (الرسمية بغالبها) واعتباراته الثقافية التي تجعله "أبغض الحلول" للتلامذة المتعثرين دراسياً أو الراسبين في الشهادات. لم تتطوّر النظرة إلى التعليم المهني والتقني في لبنان، ومشاكله رديفة للتي يعانيها التعليم الرسمي خصوصاً لجهة الأساتذة المتعاقدين، ولم يتقدّم مستوى هذا القطاع بالقدر المستحق لتلبية حاجة الأسواق إلى المهارات التقنية، وتفضيل البلدان الصناعية والتي تستقطب الهجرات الاقتصادية (ألمانيا وكندا مثالاً) أصحاب الشهادات المهنيّة. ويشكّل هؤلاء في لبنان ضمن مراحل BP، BT وTS (ما يعادل تباعاً التعليم الأكاديمي المتوسط والثانوي والجامعي) ما مجموعه فقط 40 ألف طالب.

اللاجئون السوريون

أيّ تشخيص مبهم وشعبويّ لأي أزمة يُلصَق بملف اللاجئين السوريين. ويُعتبر التعليم في مقدّم المجالات الّتي يُدان فيها اللجوء السوريّ، وتُكال إليه المسؤولية في انتزاع فرص التعليم من اللبنانيين الفقراء.

وبحسب الباحث التربوي نعمة نعمة، تسعى الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ الحرب في سوريا في 2011 إلى إيهام الرأي العام بأنّ المساعدات الدولية مخصصة حصراً لتعليم اللاجئين، بينما في الحقيقة لم يتجاوز عددهم خلال ذروة اللجوء 210 آلاف تلميذ، وهم اليوم أقلّ من 100 ألف يلتحقون بالدوام المسائي، في مقابل 342 ألفاً و304 تلامذة لبنانيين في العام 2022- 2023، وفق "الدولية للمعلومات".

ويقول أنّ وزارة التربية تنفّذ مشاريع عدة من جهات مانحة منذ عام 2011، أهمها مشروعا1 Race و2 Race [4]، وهما غير محدودين بتعليم اللاجئين السوريين، والمستفيد منهما التعليم الرسمي فقط.

ويستكمل المقارنة على الصعيد المالي حيث دخل لبنان منذ2010 [5] من المنظمات الدولية تراكمياً نحو 2.5 مليار دولار لدعم التعليم الرسمي، بينما يُقَدَّر التمويل الخارجي المخصص لتعليم السوريين بـ600 مليون دولار فقط، وباقي التمويل خُصّصَ لتطوير المناهج وتعزيز البنية التحتية للمدرسة الرسمية.

انهيار حتى الموت

هزّت المشهد التربوي اللبناني في 2022 فاجعة موت التلميذة ماغي حمّود عن 16 عاماً بسبب انهيار سقف غرفة صفّها على رأسها داخل مدرسة شارع الأمريكان الرسمية في منطقة القبة بطرابلس. وأيقظت الواقعة أسئلة عن جدية وزارة التربية في الكشف عن المدارس قبل فتحها، ونقاشاً حول مشاريع ترميم وتوسعة البنى التحتية للمدارس الرسمية، والتصرف بالأموال المرصودة لهذه المشاريع.

في ذلك الوقت، أوصدت وزارة التربية أبوابها أمام أسئلة الصحافيين والباحثين، الأمر الذي وطّد الشكوك حول وعي الوزارة بتقصيرها (بالحد الأدنى). وبعد الاطلاع على تقارير دولية، تبيّن أنّ وزارة التربية تلقّت قروضاً وهبات توازي قيمتها 200 مليون دولار أمريكي[6]، وكان من المفترض صرفها بين 2014 و2022.

ويقدّر البنك الدولي كلفة بناء مدرسة بمليوني دولار، والتوسعة بنحو 235 ألف دولار، بينما يستلزم الترميم كلفة تراوح بين 300 و700 ألف دولار، وهذا يعني أنّ المبالغ التي تلقاها لبنان كفيلة ببناء أكثر من 100 مدرسة وتوسعة 200 أخرى، وترميم كل مدارس لبنان. لكنّ أسقف المدارس لا تزال تنهار على رؤوس التلامذة.

ولا شكّ بأنّ انهيار أسقف المدارس يرتّب مآسي إنسانية - يذوي وقعها عموماً وللأسف خلال يومين - ولكن ثمّة اختلالات في البنى التحتية تشكّل معاناة يومية، خصوصاً في مدارس القرى والضواحي التي تعاني غياب التدفئة شتاءً وغياب التهوئة والتبريد. وبعضها غير ممدود بشبكة المياه، كما تشهد انقطاعاً تاماً للتيار الكهربائي. لفّت مواقع التواصل الاجتماعي صورة لصف مظلم من مدرسة رسمية شمالية في شتاء 2020، حيث أشعلت شموع والتلامذة يتابعون الشرح، ولا التفاتة من وزارة التربية. كانت الوزارة حينذاك منشغلة بـ"تطوير المناهج الدراسية"، والتي لم تلحظ سوى تعديلات هامشية منذ 1998.

الجامعة والمدارس الرسمية: تقاطعات وفوارق

بدأت محاولات إنشاء التعليم الرسمي في لبنان عام 1838، والهدف كان إعداد جهاز إداري مدرّب يكون أداة للإصلاح الإداري في السلطنة العثمانية[7]. وبحلول نحو 150 عاماً على تأسيس المدرسة الرسمية، لا تحيد الحكومات اللبنانية عن الإفلاس الإداري والرؤيوي وغياب الشفافية والفساد وشبهات الفساد في تولّيها التعليم الرسمي، فما ينطبق على المدارس يُستنسخ تقريباً على الجامعة اللبنانية، وهي الجامعة الوطنيّة التي تأسست في 1951. إلّا أنّ نتائج هذا الأداء تحمل فوارق:

انهيار التعليم الرسمي شامل وفادح، ما خلا بعض المدارس التي تبذل مجهوداً ذاتياً للنهوض، ومن أهمّ مدلولاته، تلامذتها الذين يتصدرون الشهادات الرسمية، ويعود حيّز من الأمر إلى انتماء معظمهم إلى قرى وبلدات أطراف خصوصاً في الجنوب، فيتخذون العلم سبيلاً للتميز وقهر الظروف الصعبة. كما تسيطر على هذه المناطق مجموعات حزبية تجد التعليم سلّماً للارتقاء الاجتماعي بمواجهة رواية ذاتية مسيطِرة عن الحرمان والمظلومية القائمين على أساس طائفي، ويمكن القول أنّها تطلق يداً صارمة وفعّالة على هذه المدارس.

من ناحية أخرى، تحافظ الجامعة اللبنانية على مستوى لائق في الشهادات التي لا تزال مرغوبة في الجامعات ومراكز البحوث العريقة في أوروبا وأمريكا والملفت أنّه وفق تصنيف QS 2024[8] بمؤشر السمعة الأكاديمية، والذي يعطي الوزن الأعلى بين المؤشرات، حلّت الجامعة اللبنانية بالمرتبة 364 عالمياً في 2023، متقدمة 74 درجة عن تصنيف العام السابق.

أستاذ متفرغ في كلية الاعلام يعلّق قائلاً "هناك أساتذة يعتبرون أنّ قضية الجامعة هي قضيّتهم لمنع انهيارها بشكل كليّ، مع الإدراك أنّ البلد منهار وعاجز عن تقديم المزيد".

من المؤكّد أنّ التعليم الرسمي هو المعيار والمدماك لكل الميدان التعليمي، حيث أضرّ تهاوي المدرسة الرسمية بالمدرسة الخاصة. فتراجع جودة التعليم الرسمي أدى إلى تكاثر مدارس خاصة كالفطريات بين عامي 2000 و2010، مستغلة سمعة التعليم الخاص في لبنان. ومستوى هذه المدارس الطارئة رديء بطابع تجاري استقطب أبناء الطبقة الوسطى.

يحصي لبنان نحو 48 جامعة ومعهداً خاصاً، وعددها ضخم بالنسبة لحجم البلد، والجادّ والمطابق منها للمعايير العالمية لا يتخطى عدده أصابع اليد، والبقية استفادت من تسلل الأزمات إلى الجامعة اللبنانيّة التي نخرتها التوظيفات الطائفية مثل مختلف المؤسسات الرسمية، وسلكت مساراً تجارياً يصبّ في مصلحة رجال أعمال وقوى سياسية.  

وهنا يُطرح السؤال عن استمرار التعليم الرصين في الجامعة اللبنانية، إزاء كلّ التحديات التي تواجهها وتخصّ بشكل مباشر الأساتذة الذين تدهورت معاشاتهم الشهرية[9] إلى معدل 150 دولارا أمريكيا، ويتقاضى الأستاذ المتفرغ حديثاً حوالي 100 دولار. في حين كان التفرغ في الجامعة اللبنانية طُموحاً ينشده حملة الدكتوراه، براتب شهري يقارب 3 آلاف دولار قبل 1983 والازمة الاقتصادية الطاحنة التي اعقبت خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ومعها ميزانياتها الكبيرة المودعة في البنوك والتي تصرف يومياً في البلاد..

ويحفّز انهيار معاشات "اللبنانية" نزيف الطاقم التعليمي بعدما اتّجه نحو 600 أستاذ متفرغ لترك الملاك خلال 2022-2023 و2022-2021، وأكثرهم من الاختصاصات العلمية في الهندسة والرياضيات والمعلوماتية، وأعلنت كليات عديدة منها الطب والصحة والاعلام عن شواغر في مرحلتي الإجازة والماستر.

الخاص أيضاً معنيّ

تنطبع الحقبة الحالية للتعليم في لبنان بالانحلال العام، ويعتري المجهول ديمومة المؤسسات التعليمية التي تحافظ على مستوى جيّد، في ظلّ تمسّك السياسات الحكوميّة بانعدام السياسة والرؤية والحلول، والاعتماديّة على المانحين الخارجيين، معطوفة على إعفاء النّفس من تطوير المناهج التي أكل عليها الدهر وشرب، وبقيت رهن التجاذبات السياسية، خصوصاً في برنامج التربية الوطنية وكتاب التاريخ الذي لم يُتّفق عليه فبقي حبيس حقبة استقلال لبنان (1943) وما قبلها.

مقالات ذات صلة

ومن المؤكّد أنّ التعليم الرسمي هو المعيار والمدماك لكل الميدان التعليمي، حيث أضرّ تهاوي المدرسة الرسمية بالمدرسة الخاصة. فتراجع جودة التعليم الرسمي أدى إلى تكاثر مدارس خاصة كالفطريات بين عامي 2000 و2010، مستغلة سمعة التعليم الخاص في لبنان. ومستوى هذه المدارس الطارئة رديء بطابع تجاري استقطب أبناء الطبقة الوسطى.

الاعتبار الطائفي في لبنان نقل نفسه من المنافسة في التعليم إلى استنزاف التعليم بالمحاصصات ذات الطابع الطائفي، وفق اتفاق ضمني على فساد مشترك أطاح تدريجياً بهذا القطاع.

كما يحصي لبنان نحو 48 جامعة ومعهداً خاصاً، وعددها ضخم بالنسبة لحجم البلد، والجادّ والمطابق منها للمعايير العالمية لا يتخطى عدده أصابع اليد، والبقية استفادت من تسلل الأزمات إلى الجامعة اللبنانيّة التي نخرتها التوظيفات الطائفية مثل مختلف المؤسسات الرسمية، وسلكت مساراً تجارياً يصبّ في مصلحة رجال أعمال وقوى سياسية.

دور الطوائف

لا تنحصر تبعات انحلال التعليم في لبنان في التعليم بذاته وغاياته القابلة للقياس، بل تركتْ أعطاباً في تراث من التقدّمية التعليمية اللامعة، وهذا امتياز غير مجاني راكمه لبنان وبدأه مع عودة الرهبان ممن تعلموا في المدرسة المارونية في روما وأسسوا أول مدرسة مارونية في جبة بشري عام1624 [10]. وحافظ لبنان على سيرورة التطور حتى شكّل التعليم مرفقاً تأسيسياً لعلّه الوحيد في البلاد.

ويصحّ مطالعة الواقع المنحلّ في ضوء ارتداد رجعيّ للتعددية الدينية في لبنان، فهي كانت محفّزاً لنشوء أولى المدارس في لبنان على صعيد المنطقة العربيّة، في خضم تنافس عالمي بين الدول الكبرى، وتنافس محلي بين الطوائف اللبنانية وزعمائها، الذين استقطبوا مؤسسات حلفائهم الأجانب: فرنسا وإيطاليا وأمريكا وبريطانيا وروسيا، فتلاحقت البعثات التبشيرية الكاثوليكية والبروتستانتية والكبوشية واليسوعية والعازارية، ودخل الأرثوذكس لاحقاً المشهد، وهي حركة ميزت القرن التاسع عشر في لبنان، الذي منه تفرّعت هذه الارساليات إلى سوريا وفلسطين، وشجعت اللبنانيين على إنشاء الارساليات الوطنية. وفي مدار هذه الوثبة التعليمية تبلورت النهضة العربية الحديثة، وأهمّ روادها من لبنان، وازدهرت الآداب، وتوهّج النشر والصحافة.

ومن المهمّ التذكير بفضل هذه المؤسسات ذات الجذور التبشيرية في صقل المهارات اللغوية الفرنسية والانجليزية والتي تشكل رأسمالاً قيّماً للبنانيين. ولا تزال هذه المؤسسات إلى جانب مدارس البعثات العلمانية تُخرّج نخبة المتعلمين.

غير أنّ الاعتبار الطائفي في لبنان نقل نفسه من المنافسة في التعليم إلى استنزاف التعليم بالمحاصصات ذات الطابع الطائفي، وفق اتفاق ضمني على فساد مشترك أطاح تدريجياً بهذا القطاع.

مقالات ذات صلة

هل يمكن ترميم ما يفسده الانهيار؟ لا ضوء في نهاية النفق، طالما أنّ التعليم ترعاه منظومة سياسية راسخة في جذورها وفسادها. والمنتظر أنّ تكون السنوات القادمة حقلاً لارتدادات الانهيار المدرسي على الصعد الاجتماعية والثقافية والقيميّة في لبنان (دون تجاهل البعدين العملي والاقتصادي). يحضر هنا دوركهايم[11] كي لا ننسى أنّ المدرسة ليست مكاناً أو "مقرّاً" فحسب، بل إنّها أيضاً "وسط أخلاقي" بامتياز.

اقرأ أيضا: "التعليم قضية"

______________________

*النص الأول من دفتر "انهيار التعليم العام في منطقتنا يرهن المستقبل" بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- الفاقد التعليمي هو عدم تمكن الطلاب من تحصيل المعارف أو اكتساب المهارات التي كان يفترض عليهم إتقانها والإلمام بها خلال فترة تعليمية ما.
2- جودي عتيق وأسماء حموي، "الأزمات تفكك التعليم الرسمي في لبنان: أطفال بلا تعليم"، جريدة "نداء الوطن"، 12 أيلول/سبتمبر 2023.
3- "النّشرة الإحصائية 2021-2022"، المركز التربوي للبحوث والانماء، 2023.
4- إيمان العبد، "ظاهرة فقدان التعليم في لبنان تكبر... من المسؤول عن رمي الطلاب في المجهول؟"، موقع "رصيف 22"، 12 أيار/مايو 2023.
5- جنى الدهيبي، "واقع التعليم في لبنان يترنح على وقع الإضرابات مع انهيار الليرة"، موقع "الجزيرة"، 4 شباط/فبراير 2023.
6- فاتن الحاج، "ترميم المدارس: أين أُنْفِقت الـ200 مليون دولار؟"، جريدة "الأخبار"، 29 كانون الأول/ديسمبر 2022.
7- كرستين عوض، "لبنان وما يقدمه في تطوير النظام التعليمي (الجزء السابع)"، موقع "أهرام كندا"، 14 حزيران/يونيو 2019.
8- شادي خوندي، "تصنيف الجامعات: "الأميركية" تتقدم.. و"اللبنانية" تتفوق رغم الاهمال"، جريدة "المدن"، 3 تموز/يوليو 2023.
9- بتول بزّي، "رواتب أساتذة الجامعة اللبنانية "كارثية"... هجرة أو استقالات أو العمل بـ150 دولاراً فقط"، جريدة "النهار"، 29 آذار/مارس 2023.
10- "التعليم في لبنان والمشرق"، برنامج "أجراس المشرق"، قناة "الميادين"، 14 كانون الأول/ديسمبر 2019.
11- مارسيل فورنييه، "إميل دوركهايم (1858-1917)"، ترجمة فاطمة الزهراء أرزويل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021، ص. 998.

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

طرابلس/ لبنان "مدينة الأنوار" في رمضان

أنوار رمضان المضاءة اليوم في طرابلس تبدو ذات دلالة ثانية مستجدة. هي وليدة أدوات الحاضر واحتمالاته، فتظهر كفعل تجاوزيّ لكومٍ من الأزمات والعوائق التي تتراكم في ذهنية المواطنين لتخلق وتوطد...