النوبة والدولة: أزمة ثقة
شاركت 44 قرية نوبية من محافظة أسوان في قافلة سلمية سُمّيت "قافلة العودة النوبية"، وقد اختار المتظاهرون هذا المُسمَّى الذي يحمل مغزىً هاماً يرتبط بالحلم النوبي بالعودة إلى الأراضي التي تمّ تهجيرهم منها، وقد تقنّن حلم العودة مؤخراً في المادة 236 من الدستور الحالي الذي أقرّ بأن "تعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية، وتنميتها خلال عشر سنوات وذلك على النحو الذي ينظمه القانون". وكان تخصيص الحكومة لعدد كبير من الفدادين الواقعة ضمن الأراضي النوبية للبيع بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير، فهذه المساحة تقع ضمن أراضي القرى التي هُجِّر منها النوبيون في السابق، ولذا فإنهم يرون أحقّيتهم بها تاريخياً ودستورياً، ولذا فقد نظموا قافلة تتجه نحو تلك الأراضي، على أن تكون سلمية كاملاً. ضمّت القافلة الشباب والنساء والأطفال، إلا أن قوات الأمن اعترضت مسيرتهم ورفضت مرورهم، بل قامت بإطلاق الأعيرة النارية من أجل توقيفهم وتفريقهم بالقوة، ما نتج منه إصابة عدد من المتظاهرين، ما صعّد الموقف ودفع المتظاهرين لبدء الاعتصام على طريق أبو سمبل ـ أسوان.
يتعامل أهل النوبة مع الحكومة والبرلمان والأجهزة التنفيذية بنوعٍ من الحيطة وعدم الثقة، خاصةً بعد مرور عامين على إقرار الدستور دون أن تكون هناك إرادة حقيقية لتنفيذ العودة النوبية، وكذلك بعد موافقة البرلمان مطلع هذا العام على القرار الجمهوري رقم (444) الصادر في أواخر عام 2014 والقاضي باعتبار مساحات كبيرة من الأراضي النوبية أراضي عسكرية حدودية، وتلك الأراضي تقع ضمن الأربع والأربعين قرية التي يطالب النوبيون بالعودة إليها. وإثر دخولهم في اعتصام مفتوح هرول وفد برلماني إلى أسوان للتباحث وأهل النوبة في الحلول التي تنهي اعتصامهم، وكذلك فإن وزير الدفاع الأسبق (المشير حسين طنطاوي، وهو من قرية أبو سمبل)، توجَّه إلى أسوان واجتمع مع المحافظ وبعض نواب المحافظة في البرلمان من أجل وضع حلول لمشكلة اعتصام النوبيين.
وبالفعل اجتمع وفد من "قافلة العودة النوبية" مع وفد من مجلس النواب. وفي بادئ الأمر رفض الوفد النوبي فضّ الاعتصام لحين صدور قرار جمهوري بإعادة توطينهم، وأعلنوا بشكل صريح أنهم لا يثقون بأي تفاوض وأنهم يخشون التلاعب بهم وعدم تحقيق مطالبهم التي تتضمن تفعيل المادة الدستورية القاضية بعودتهم وتعديل القرار الجمهوري رقم (444) بالإضافة إلى عدم المساس بالأراضي النوبية وسرعة البتّ في إصدار مشروع قانون "هيئة تنمية وإعادة توطين النوبة" دون أيّ إخلال بحقوقهم المشروعة والدستورية.
وبعد محادثات طويلة ووعود صريحة من قِبل الوفد البرلماني وخصوصاً وعدَ عدم تضمن أي حلول مستقبلية إخلالا بحقوق أهل النوبة، بالإضافة إلى عدم ملاحقة المعتصمين منهم أمنياً، فضَّ المعتصمون تجمهرهم.
هل من مَخرَج؟
تعتبر محافظة أسوان من أعلى المحافظات في معدلات البطالة بمصر، حيث إن نسبتها بلغت نحو 31 في المئة بالمحافظة وفقا لتصريحات رسمية، وهي نسبة كبيرة خاصةً في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية الأخيرة. كما أن تحرك أهل النوبة ينطلق من رفضهم تجاوز مادة دستورية شديدة الوضوح أو تبديد حقوقهم التاريخية المعلنة والمقبول بها رسمياً وشعبياً. ومعطيات المسألة تتشابك مع اعتبارات جغرافية واقتصادية تجعلهم أحق بأراضيهم القريبة منهم التي كانت ملكاً لهم بالأساس، من مشترين خارجيين، وكذلك فإن تلك الأراضي تمثل بالضرورة حلولاً لمشكلاتهم المعيشية إذا ما تم استغلالها تنموياً.
والملفت أن البرلمان لا يفترض به أن يكون مجرد وسيط بين الأهالي والسلطات، بل فاعل رئيسي يملك سلطة تنفيذ موادّ الدستور وتحويلها إلى قوانين، وكذلك يملك تعديل القرار الجمهوري السابق الذي وافق عليه، ويملك أيضاً محاسبة الحكومة عن أيّ تقصير أو سوء إدارة تجاه الأزمة الحالية بل يملك إقالتها أيضاً.
وختاماً، فإن الموقف يتطلب تدخلاً سريعاً وناجزاً لتجاوز استمرار المظالم التاريخية القديمة وعلاج الأزمة الحالية بالحلول الواقعية، لا بتعميق الجروح في الجسد النوبيّ، وخاصةً أن تلك المطالب جميعها غير ذات تكلفة سواء مادية، فيما أن سيناريو تسويف تلك المطالب وعدم تحقيقها خطر وكلفته عالية، لأنه يترتب عليه، بجانب الغضب الشعبي في الجنوب، وقوع الدولة في خطأ عدم تنفيذ مادة دستورية هي بالضرورة فوق القانون وأقوى منه!