التبرك بزيارة الوليات الصالحات بالمغرب

شاع عن المغرب أنّه بلد ألوف الأضرحة والمزارات، وعرف عنه أنّه بلاد الصالحات، واشتهر بضمه لقبور وأضرحة متصوفات اشتهرن بالزهد والصلاح والعلم والفلاح، وتحظى قبورهن بتنظيم مواسم وزيارات احتفاء بهن وطلبا لتحقيق أمنيات وأحلام وأغراض.
2016-11-30

صالح بن الهوري

صحافي من المغرب


شارك
عصام السيد - العراق

شاع عن المغرب أنّه بلد ألوف الأضرحة والمزارات، وعرف عنه أنّه بلاد الصالحات، واشتهر بضمه لقبور وأضرحة متصوفات اشتهرن بالزهد والصلاح والعلم والفلاح، وتحظى قبورهن بتنظيم مواسم وزيارات احتفاء بهن وطلبا لتحقيق أمنيات وأحلام وأغراض. تعتقد المخيلة الشعبية المغربية أنّ لزيارة أضرحة وقبور الصالحات بركة فعالة ومؤثرة، نظراً لاتصافهن بالتقوى وشيوع كرائم وخوارق عنهن. فيروي العلّامة محمد المختار السوسي، عن صالحة فالحة تدعى فاطمة بنت سليمان تكرامت، أن "من كراماتها أنها كانت تخترق الهواء وتسيح في الليل وتزور الصالحين ولا يراها أحد"..

كان هذا الفكر الشعبي سائداً إبّان القرون الخوالي، بيد أنّ هذا الاعتقاد ما زال قائماً اليوم، لدى كل الطبقات: المخملية والمتوسّطة والفقيرة والمسحوقة، ولدى المتعلمين والأميين من شرائح المجتمع. لذا تحث عجائز بلغن من الكبر عتيّا، ونساء بارت بناتهن، وعوانس ممن لم يطرق بابهن فارس أحلام مرتجىً، على تلك الزيارت. وينصح كل مريض يئس من شفائه، أن يقدّم حسن النيّة لبلوغ المراد وقرابين وهدايا للضريح. ويبدو أنّ الاعتقاد بالشفاء مباشرة بعد الخروج من الضّريح أضحى أفضل وسيلة للشفاء، نظراً لقلًة عدد الأطباء والممرضين والمستشفيات بالمغرب.

صالحات جالبات للحظ

ورد في كتب المناقب تراجم لعابدات قوامات شاعت عنهن كرائم وخوارق، الأمر الذي جعل الأهالي يطلقون عليهن ألقاباً من قبيل ولية الله، الزاهدة، صاحبة الكرامة، "مبيضة السعد" " مولاة الروضة".. تزار صالحات المغرب من قبل الرجّال والنّساء على السّواء، وتقدّم النساء شموعا وحناء وأموالاً وسكراً ودجاجاً وبيضاً وديكة، ويقدم الرجال ذبائح للمشرفين على الضريح وحبوباً وتموراً وأكباشاً وبقراً وعجولاً.. ويردد الزائرون بالجنوب الشرقي للبلد لازمة أثناء الطواف بالضريح، بلسان دارج أقرب إلى الفصحى: "يا عظيم الجود، يا مولانا تبلغ المقصود".

وبعد أن ينتهي الزائرون للضريح من أكل لحم الذبيحة وطعام "البركوكش" (كسكس محلي صحراوي وأمازيغي)، يُردّد أثناء دعاء ختم الزيارة باللغة الأمازيغية الدعاء: "أيقبل ربي، أيخلف ربي، أيبلغ ربي المقصود". ويردّد الحضور من وراء قارئ (ة) الدعاء كلمة آمين.

في العقد الأخير، بدأت ظاهرة الطواف على الأضرحة في الانحسار، لكنّ زيارتها ما زالت مستمرة في بعض القرى والمدن، رغم انتشار الغزو السلفي والوهابي الذي يُحرّم زيارة الأضرحة والتبرك بها، وأخونة المجتمع من قبل حركات الإسلام السياسي، التي انتشرت في الجنوب الشرقي والغربي للبلد وعمت أغلب المدن، الداخلية والساحلية على السواء.

زيارة قبر عارفة بالله في الصحراء

هنا الجنوب الشرقي للبلد، حيث يقع ضريح الولية الصالحة " إمي فاضمة" على جبل باني. (يرجع تكوين جبل باني إلى حوالي 460 مليون سنة) وعنه ـ الضريح ـ كتب الأركيولوجي مصطفى أتق والباحث محمد بلعتيق في دراسة لهما: "يقع هذا الضريح الذي شيد على قاعدة برج كان يعلو قصبة للمراقبة ما زالت أطلال أسوارها تنتشر على طول الجرف الصخري الذي يمتد إلى الشمال الشرقي من دوار أديس. هذا الضريح المبني من الحجارة عبارة عن غرفة لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أمتار مربعة. وتعلوه قبة مزينة في واجهتها الداخلية بزخارف هندسية مصبوغة بألوان مختلفة". ويردف الباحثان أن "من الطقوس المرتبطة بهذا الضريح تحضير الفتيات لوجبات الطعام وتناولها بجواره بغية تحقيق أملهن في الزواج".

تعلن شابة حسناء من عزباوات إحدى القرى عن تنظيم "المعروف" أو "الزيارة" ( يقصد بهما الوليمة) بضريح " إمي فاضمة" وتحدد يوما معلوماً لتنظيم الزيارة وتعيين وقت ومكان انطلاق الموكب.

يشيع الخبر في القرى المجاورة، تقدم كل فتاة عزباء مساهمتها من مستلزمات "المعروف" (خضر، لحم، خبز، بيض، ديك أو دجاجة، شاي ، سكر...). ينطلق موكب العزباوات فجراً، يمشين سبع كيلومترات أو ما يزيد. يذبح أحد الذكور المرافقين للموكب ديكاً أسود كأنه ظلمة الليل كقربان، تلج الحسناوات إلى الضريح، وتتضرعن على قبر الولية ويطلبن منها أمنية حلوة، تسألها الصغيرات أن يرزقن زوجاً صالحاً حنوناً، وفياً عطوفاً، يحبهن في الفقر والمرض والغنى والفقر، وأن يظل مخلصا لهن في السراء والضراء. وتأمل من فاتهن قطار الزواج من الزائرات، أن يطرق بابهن يوما.

والزواج هو إذن للفتاة بممارسة الجنس في المغرب، أما الذكر فيحق له ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، عن طريق شراء الجواري والإماء، كان هذا الأمر سائدا إلى أن منعت فرنسا تجارة العبيد في المغرب.

تشارك في طقس الزيارة، نساء تقدمت بهن السن، وتؤكدن للعازبات أن للولية كرائم خارقة إن هن قدمن النية. ويضربن لهن أمثلة بفتيات تزوجهن بعد زيارة الضريح مباشرة. النية شرط ضروري وأساسي أثناء الزيارة.

وتتفشى ظاهرة هجرة الأزواج في الريف والصحراء، إلى الساحل أو الداخل أو الغرب قصد العمل، ولا يعودون إلّا في عطلة عيد الأضحى، الأمر الذي جعل حياة النساء صعبة وشاقة. لكنّهن تتميزن بتحمل المشاق والصعاب، لكونهن صبورات قويات. تحافظن على أنفسهن وعلى البيت والحقل والأولاد. لذا تشارك بعضهن في زيارة ضريح العابدة، بغية عودة زوجها الغائب، أو ابنها. و تنظمن "معروف" العصيدة و"قلية القمح" ( قلي القمح في إناء من طين أشبه بالقصعة) بضريح العابدة.

لضريح الولية " إمي فاضمة" نافذة تقع جهة القبلة، لها خاصية فريدة، تطل منها كل امرأة غاب زوجها أو عجوزا غاب ابنها، وتنادي عليه بأعلى صوتها، صائحة: يا فلان. تمر بضعة أيّام، ثم يحلّ الابن الغائب أو الزّوج الذي اشتاقت له زوجته بالبلد.

وفي هذا القبر يسود الفرح والحبور والسرور، يعد الشاي على جمر حطب شجرة "الطلح" (شجر صحراوي المنبت) وتحضر أمهر العازبات الفطور والغذاء واللمجة بمطبخ الضريح. وتقدمن نذراً بذبح كبش أملح أقرن إن طرق بابهن عريسا أو ذبح ديك إن عاد غائبا، أو ذبح شاة إن حصلت معطّلة في العائلة على منصب شغل.. للولية دور مهم في محاربة البطالة بالمغرب، لذا تلجأ أمهات العاطلين، والعاطلين أنفسهم للزيارة.

خاتمة

على الرغم من طغيان العقلية الذكورية على فكر كتاب تراجم ومناقب الأولياء بالمغرب، وإقصائهم لصالحات وليّات عابدات، ولدورهن في نشر التصوف والعلم وإطعام المساكين، فإنّ المخيلة الشعبية والرواية الشفوية ردت إليهن بعض الاعتبار، من خلال سرد مناقبهن وكرائمهن، وحث الزوار على زيارة أضرحتهن والتضرع إليهن وتقديم قرابين ونذر لهن.

وهكذا تحافظ الثقافة الشعبية على ذكراهن، من خلال نسج أساطير خارقة عنهن وتخليد أشعار الشاعرات العظيمات من النساء ومدح فطاحل الشعراء من الرجال لهن، واحتفاء العازبات بهنّ، ويرد الفكر الوهابي الأصولي خائباً كئيباً، بعد أن دحرته المخيلة الشعبية التي تعتقد أنّ للصالحات بركات وكرائم، ويمنّى الإسلام السياسي بهزيمة بعد أن عجز عن فرض ثقافة مستوردة من الخارج على المجتمع المغربي لمحو الثقافة الشعبية المحلية، التي يعتبرها حراماً وغير شرعية..

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه

مهربو الصحراء في المغرب العميق

يطالب أبناء المغرب العميق السلطات أن تغادر السياسة التي وضعها الجنرال الفرنسي ليوطي(*) للمغرب بتوزيعه إلى مناطق نافعة وأخرى غير نافعة، وأن تنجز مشاريع تعود بالنفع على الناس وتحميهم من...