الشعر هو الشكل التعبيري الأقرب إلى ذائقة الموريتانيين، ويندر أن نجد شاعراً موريتانيّاً لا يحتضن قصيدة عن القضية الفلسطينية التي يراها الأهم بالنسبة لشعبه. ومن يزور موريتانيا يلاحظ في تسميات الأماكن والشوارع الارتباط الوثيق بفلسطين. خاض الموريتانيون نضالات مضنية لمدة عقد من الزمن، هي فترة العلاقات المشينة مع دولة الاحتلال (استمرت العلاقات الموريتانية الإسرائيلية، ما بين عامي 1999و2009) ، حتى فرض قطع العلاقات سنة 2009.
مِنْ قلْبِ غزَّةَ: يا "أقْصى".. لكَ المَدَدُ!
تفاعل الشارع الموريتاني بعامته ونخبته مع عملية "طوفان الأقصى"منذ اللحظة الأولى لوقوعها. ومع قيام دولة الاحتلال بقصف غزة، بدأت المسيرات والمظاهرات التضامنية، وكعادته كان الشاعر الموريتاني حاضراً في المشهد، فبدأت القصائد بالفصحى والأشعار العامية تظهر معلنة غضب ضمائر أصحابها. ومن بينها قصيدة للشاعر والدكتور أدي ولد آدب، بعنوان "ملحمة طوفان الأقصى"، قال فيها:
توضَّأوا.. سَحَراً.. بالنُّور.. واعْتَقدُوا
أنَّ السُّجودَ صُعُودٌ.. فارْتَقَوْا.. سَجَدُوا
قد رتَّلوا "النصْر".. أولى الرَّكْعَتَيْنِ.. وفي
أُخْراهما اصْطَرَعَ "الإخْلاصُ" و"البَلَدُ"
و"العاديات" بهمْ "ضبْحا".. مُغِيرَتُها
صُبْحاً، وقدْحا.. لِلَيْلِ المُسْبِتِينَ.. غَدُ
فما تَرَاءى لهمْ- بعْدَ السلامِ- سِوى
قِبَاب "أقْصاهمُ" الداني.. وإنْ بَعُدُوا
تفاعَلَ الغضَبُ الغَزِّيُّ.. مذْ أَمَدٍ
وحِينما بَلَغَ "الأقْصى" انْتَهى الأمَدُ
ففارَ "تَنُّورُ" "طوفانِ" الفِدى.. مَدَداً
مِنْ قلْبِ غزَّةَ: يا "أقْصى".. لكَ المَدَدُ!
ها "فِتْيَةٌ آمَنوا بربهمْ".. وأبَوْا
أنْ يَسْتَنِيموا.. ببَهْو "الكهْف".. ما رَقَدُوا
غَطَّ العِدى في سُبَاتِ "السَّبْتِ" مِنْ خَوَرٍ
ودَهْرُ غَزَّةَ.. لا سَبْتٌ.. ولا أحَدُ
أتوْهمُ شُرَّعاً في يوْم سبْتهمُ
جاسوا خِلالَ الديارِ.. الفجْرَ.. لا رَصَدُ
الأرْضُ.. والدُّورُ.. شَمَّا ريحَ أهْلِهما
فلا الحُدودُ.. ولا الأبوابُ.. تَتِّصِدُ
في أرْضهمْ طالما القُطْعانُ قد نَفَشَتْ
في الحقْل، في الأهْلِ عاثتْ! ما لهمْ شرَدُوا؟
يا خالد ابْن الوليد.. انظرْ بَنِيكَ.. هُنا
في ظُلْمَةِ الغَسَقِ الداجي قَدِ اتَّقَدُوا
تأبَّطُوا صخْرةَ العزْمِ التي انْقَدَحَتْ
من صخْرةِ المسْجد الأقْصى.. هُمُ الجَلَدُ!
قدْ صبَّحُوا الشَّبَحَ المنْفوخَ منْ زَبَدٍ
أسْطورَةُ الرعْبِ ذابتْ.. إنَّهُ الزَّبَدُ!
طوفانُ مَسْجدِنا الأقصى.. به انْجَرَفَتْ
هَزائمُ الروحِ.. واسْتَقْوى به الجَسَدُ.
***
وبدوره تفاعل الشاعر الموريتاني المرابط ولد الدياه مع عملية طوفان الأقصى:
جرَّت كتائب عز الدين في الطين في عز تشرينَ إخوانَ الشياطين
وحطمت جبروت الظلم وانتزعت في غفلة الدهر أوهام الأساطين
قتلاً وأسراً إذا بالموت صبّحهمْ ومرِّغت منهمِ الأجسام في الطين
الغرقد اليوم يأبى أن يخبِّئهمْ من خلفه فتواروا خلف يقطين
كأن عهد صلاح الدين عاد وقد أضحت فلسطين حطيناً بحطين
إن الزمان الذي قد كان يمنعني قالت فلسطين أضحى اليوم يعطيني
قد وطَّنوا بفلسطينٍ نفوسَهمُ واستوطنوا بعد تهجير وتوطين
فالويل للظالمين الغاشمين إذاً والعز والنصر لشعب فلسطين.
لم تقتصر المناصرة الموريتانية للقضية الفلسطينية على شعراء البلد، بل ظلت دوماً قضية جامعة، والمشهد المناهض للاحتلال الإسرائيلي ليس مجرد حال موسمي. ويذكر أن عملية طوفان الأقصى حدثت وسط سيطرة الأنباء المتداوَلة حول سعي بعض الدول العربية السير في مسار التطبيع مع إسرائيل، وتمّ ذكر موريتانيا من بين تلك الدول في آذار/مارس المنصرم، وهو ما نفته الحكومة الموريتانية حينها.
حوّلت عملية طوفان الأقصى وما تلاها من مجازر وإبادة للفلسطينيين في قطاع غزة، النقاش إلى ما هو أبعد من التحذير من العودة إلى العلاقات المشينة، نحو ضرورة قطع العلاقات مع أمريكا لدعمها الجيش الإسرائيلي. وهو مطلب رفعه مَنْ تظاهر أمام السفارة الأمريكية في نواكشوط في أكثر من وقفة.
***
"في الجماهير تكمن المعجزات"
البعد الجغرافي وضعف الاتصالات في الأيام الأولى من التغريبة الفلسطينية، قبل التطورات اللاحقة، لم يمنعا الشاعر والإنسان الموريتاني من التفاعل مع القضية الفلسطينية منذ إرهاصاتها الأولى، وأيام نكبة 1948. على الرغم من أن البعد الجغرافي كان له أثره في النتاج الشعري... ومن القصائد المسجلة تعليقاً على النكبة قصيدة للشاعر المختار بن أحمد محمود، وهو شاعر موريتانيّ مهاجر، عاش في الحجاز والأردن وقد توفي 1959، وقال في قصيدته:
ذي فلسطينُ بالبكاء تنادي لبَنيها وبالشّجا والشجونِ
يا ملوكَ العُرْب الكرام الحقوني ثم جدّوا في الأمر كي تنقذوني
إنّني أمُّكمْ! أترضوْن لي ما أنا فيه من امتهاني وهُوني؟!
أما الحال بعد هزيمة 1967، فنجد الشاعر الموريتاني الراحل كابر هاشم، يعبر عنه قائلاً:
آه... وَوَاه... وواحرباه... وا أسفي قريظة الذلّ تستشري مطامعها
يا لَلْعروبةِ دِيسَ المجدُ واغتُصبتْ مآذنُ القدس واستُبيحُ جامعُها.
وتعد قصيدة "في الجماهير تكمن المعجزات"، للشاعر الموريتاني الشهير أحمدو لد عبد القادر، إحدى أشهر القصائد الموريتانية الممجدة للفعل المقاوِم في أرض فلسطين. يقول فيها:
في الجماهيرِ تكمنُ المعجزاتُ ومن الظلمِ تولدُ الحريّاتُ (...)
ومن العسفِ في فلسطين قامت ثورةُ الفتحِ يفتديها الأُباةُ
مكثتْ في النفوسِ عشرين عاماً تتعاطى لهيبَها الكلماتُ
ثمّ صارت على صعيدِ الليالي ضرباتٍ تشدُّها ضرباتُ
ورصاصاً يجول ضرباً وقصفاً وتلاشى النحيبُ والزفراتُ
دير ياسين ما نسينا دمانا في حِمانا تدوسُها النظراتُ
دير ياسين ما نسينا عظاماً نسفتْها الرياحُ والهبواتُ
جرحتْنا مخالبُ الدهرِ يوماً وتلاقى على رُبانا الغزاةُ
واعتمدنا على سوانا زماناً وألهتْنا الدموعُ والحسراتُ
غير أنّا قد انتفضْنا وثُرْنا ثورةً لا تردُّها الفتكاتُ (...)
نحن شعبٌ قد صلّبتْه المآسي صهرته الآلامُ والنكباتُ
نسكنُ النارَ لا نُبالي لظاها زادُنا العزمُ والإبا والثباتُ
نتلقّى الشهيدَ عِزّاً ونصراً والضحايا تودّعُهم حفلاتُ
ونغنّي للموت، بل ونراه في سبيل الحياةِ هي الحياةُ
ونغنّي، حتّى الجراحُ تغنّي في الجماهيرِ تكمن المعجزاتُ.
ومن القصائد التي تفاعلت مع القدس بالتحديد، قصيدة للشاعر الموريتاني الراحل فاضل أمين يقول فيها:
يا أيّها الباكون في أعطافها والحاملون إلى الصلاة زمامَها
القدسُ أكبرُ من حكاية ناكص ومن العجائز نمقتْ أحلامها
القدس ليست خيمةً عربيّةً ضاعت فردّد شاعرٌ أنغامَها
القدس ليست قصّةً وهميّةً تذرو الرياحُ الذارياتُ كلامَها
القدس تولد من هنا: من شمسنا، ومن الروابي يحتسين ضرامَها.
***
ليس الشعراء وحدهم
لم تقتصر حالة المناصرة الموريتانية للقضية الفلسطينية على شعراء البلد، بل ظلت دوماً قضية جامعة للطيف السياسي الموريتاني، والمشهد المناهض للاحتلال الإسرائيلي ليس مجرد حال موسمي. ويذكر أن عملية طوفان الأقصى حدثت وسط سيطرة الأنباء المتداوَلة حول سعي بعض الدول العربية السير في مسار التطبيع مع إسرائيل، وتم ذكر موريتانيا من بين تلك الدول في آذار/مارس المنصرم، وهو ما نفته الحكومة الموريتانية حينها. ولكن تلك الأحاديث أقلقت النخبة الموريتانية المناهضة للتطبيع والمتوجسة من أن يفعلها النظام الموريتاني ويعيد البلد إلى زمرة الدولة المطبِّعة. فحوّلت عملية طوفان الأقصى وما تلاها من مجازر وإبادة للفلسطينيين في قطاع غزة، النقاش إلى ما هو أبعد من التحذير من العودة إلى العلاقات المشينة، نحو ضرورة قطع العلاقات مع أمريكا لدعمها الجيش الإسرائيلي. وهو مطلب رفعه مَن تظاهر أمام السفارة الأمريكية في نواكشوط في أكثر من وقفة، وهو يذكِّر بما حدث بعد هزيمة 1967، حيث قطعتْ موريتانيا علاقاتِها بالولايات المتّحدة وبريطانيا، تحت ضغط المظاهرات الشعبيّة.