في مصر، الجبال والأمطار لا تغضب ولكنها.. تتعجب!

مدينة رأس غارب المصرية عاشت تجربة صعبة مع انحدار الأمطار من فوق الجبل النائم شرق المدينة على مدار يومين كاملين انتهتا بمصرع 12 شخصاً و إصابة آخرين وغرق مئات البيوت والأراضي.
2016-11-27

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
ماحي بينبين - المغرب

لم يضرب السيل المدينة منذ 70 عاماً، والجميع قد نسيه كأنّه لم يمر يوماً من هناك، فتجاوزوا حدودهم. لم يتم احترام الطريق الذي حفره السيل لنفسه منذ مئات السنين في مسافة التماس بين الوادي والجبل، ففوق مجراه انتشرت البيوت الصغيرة والكبيرة، ولم يراعِه كذلك القائمون على إنشاء الطرق العامة. فكيف لا يتعجب السيل ولا يغضب حين يأتي ولا يجد له مكاناً؟

مدينة رأس غارب المصرية عاشت تجربة صعبة مع انحدار الأمطار من فوق الجبل النائم شرق المدينة على مدار يومين كاملين انتهتا بمصرع 12 شخصاً و إصابة آخرين وغرق مئات البيوت والأراضي.

ليست المرة الأولى، ولكنها الرابعة عشر على مدار ما يقارب السبعين عاماً شهدت فيها مدن مصر سيولاً جارفة حصدت في طريقها مئات الأرواح وهدمت المنازل وأكلت الأراضي. والسبب واحد: الطريق لهذه السيول غير ممهد، ما حوّلها من نعمة إلى نقمة. ولا عزاء لمئات الدراسات الجيولوجية والتقارير الرسمية والأكاديمية التى أوصت بإزالة البيوت التي تم إنشاؤها بمجاري السيول وتنظيفها ووضع شبكة مجاري واسعة. لكن شيئاً من هذا لم يحدث على الأرض، منذ واقعة الغرق الأكبر في مدينة درنكة بمحافظة أسيوط في صعيد مصر عام 1994 حيث راح ضحيتها ما يزيد عن 600 شخص، وحتى الحادثة الأخيرة بالمدينة الجميلة الصغيرة "رأس غارب". ولا يوجد في الأفق ما يُحدِث أملاً في إنجاز المطلوب بينما الشتاء لم تبدأ أيامه الصعبة بعد.

السيول فى مصر.. أرقام و تواريخ

في تقرير حديث صادر عن البنك الدولي منتصف هذا الشهر بعنوان "بناء قدرات الفقراء في مواجهة الكوارث الطبيعية"، جاءت مصر ضمن أكثر من 10 دول في العالم يتعرض فقراؤها لمخاطر السيول، وأنّها ضمن 6 دول يظهر فيها "تحيّز كبير" ضد الفقراء فيما يخص التضرر من السيول، حيث يتأثرون بشكل أعنف مقارنة بغيرهم. كما أكّد البنك أنّ مصر تستطيع توفير 318 مليون دولار حال تطبيق حزمة من الإجراءات الهادفة إلى زيادة قدرات المواطنين على مواجهة الكوارث الطبيعية.

أما الخبرة المتراكمة للناس فلا تترك لهم أملاً في رؤية السلطات تنفذ صوت العقل هذا، وقد صار البنك الدولي أكثر حرصاً عليهم منها!

ففي عام 1947، تعرضت منطقة وادي العريش إلى سيل مدمر، استمر ثلاثة أيام، بلغ حجمه أكثر من 21 مليون متر مكعب من المياه المتراكمة ونتج عنه تدمير السدود المنشأة عليه وإتلاف آلاف الأفدنة الزراعية، وتدمير مئات البيوت السكنية. وفي عام 1975، ضرب سيل جارف وادي العريش وقطاع الصعيد، ما أسفر عن تدمير 200 منزل ومصرع 17 شخصاً، وتشريد آلاف الأسر.

لم يتم احترام الطريق الذي حفره السيل لنفسه منذ مئات السنين في مسافة التماس بين الوادي والجبل، ففوق مجراه انتشرت البيوت الصغيرة والكبيرة، ولم يراعِه كذلك القائمون على إنشاء الطرق العامة.

أمّا الكارثة الكبرى فقد جاءت عام 1984، حيث اقتحمت مياه السيول عشرات القرى في صعيد مصر بمحافظات أسيوط والمنيا وأدّت إلى غرق مئات الأفدنة وموت ما يزيد عن 500 شخص وانهيار ما يقارب 3200 منزل، ووصل الأمر إلى محو ملامح قرية كاملة بأسيوط تًدعى "الدرنكة"، تم بناؤها قبل ذلك بعشرات السنوات داخل مجرى السّيل نفسه، فابتلع أرواحهم.

وتجربة مدينة صغيرة شهيرة بالتعدين والسياحة كرأس غارب ليست الأولى هذا العام، فقد غرقت بالمياه مدينة شرم الشيخ الشهيرة مما أدى إلى تعطيل عودة الوفود المشاركة في "مؤتمر الشباب" الذي عقده الرئيس المصري نهاية الشهر الماضي. وسبق أن تكرّر المشهد عام 1990 لكن بخسائر أكبر داخل مدينة مرسي العلم، والمدن الثلاث جميعها هي مدن حديثة ومخططة مما يجعل غرقها صدمة واسعة تكشف وجود خلل يطول المناحي كافة.

لم يقتصر الأمر على التعدين والسياحة ولكنّه طال الآثار نفسها، ففي العام ذاته، كانت نكبة بانتظار قرية "القرنة" الشهيرة بالأقصر والتى تدخّلت جهات دولية ثقافية من أجل نقلها كاملة إلى غرب الوادي بدلاً من شرقه للابتعاد عن مجرى السيل وعدم تكرار ابتلاع الآثار وتهشيمها.

الكوارث تنذر ولا يستمع أحد

عند غرق مركز التعدين بـ "مرسي علم" عام 1990 شكّلت لجنة من كبار خبراء الجيولوجيا والهندسة والبيئة لدراسة أسباب وقوع الكارثة وكيفية تلافيها مستقبلاً. وما كشفت عنه كان معبراً، فقد اتخذت الإدارة المحلية قبل عامين فقط من نزول السّيل قراراً بإنشاء طريق دولي حديث لتسهيل الحركة من وإلى مركز التعدين، ولكنّ الخطط التنفيذية لم تلتفت للدّراسات المسبقة عن جيولوجيا المكان ما أدى إلى انهيار سريع بالطريق فور نزول السيل واحتجاز المياه خلفه لمدى مترين فوق الأرض. المشهد تكرر هذا العام فى مدينة "رأس غارب" حيث كشفت الخرائط انتشار ما يزيد عن نصف منازلها داخل مجرى السيل مباشرة. أحد القيادات المحلّيّة بالمدينة تحدث عن سوء التخطيط الذي أصاب المدينة القديمة التى أنشأتها شركة "شل" العالمية للمواد البترولية لتقديم الخدمات لعمالها، حكى أنّ المدينة ظلت على حالها لما يقارب الخمسين عاماً، وبعد تولّي الهيئة المصرية للبترول ـ خلال الفترة الناصرية ـ مسؤولية الإشراف على الطرق والخدمات العامة فيها، من تنسيق والتزام بالخرائط التي تحذر من البناء أسفل الجبل على مدى مسافة 1500 متر. لكن تغيرت الصورة بعد تولي وزارة الحكم المحلي إدارة الأمر.

شهادات السكان القدامى تشير إلى أنّ خضوع المدينة للإدارة المحلية أصابها بكل أمراض عجز وفساد المحليات في مصر، حيث انتشر البناء العشوائي من دون ترخيص، ثم تقنن تلك الأوضاع بمدها بخدمات المياه والكهرباء.

على مدار ما يقارب السبعين عاماً، شهدت مدن مصر سيولاً جارفة حصدت في طريقها مئات الأرواح وهدمت المنازل وأكلت الأراضي.

الحلول غير المفعّلة.. و تكلفة الغياب

حسب إحصاءات رسمية فإن عدد مجاري السيول في مصر (المجرى الطبيعي الذي تمهده المياه باندفاعها على مدار السنين) هو 692 مجرى، إلّا أنّ ما يزيد عن 90 في المئة منها غير صالح لاستقبال المياه سواء بسبب البناء فوقها أو لتحولها إلى مقالب قمامة واسعة، كذلك المتواجد في مدينة حلوان بالقاهرة ويصل امتداده إلى 4 كيلومتر.

التكلفة المتوقعة ـ حسب خبراء ـ من أجل تهيئة تلك المجاري وإعادة تأهيلها تصل إلى ما لا يقل عن 16 مليار جنيه وهو الرقم الذي يتوقف عنده عمل اللجان المشكّلة الواحدة تلو الأخرى بينما تؤدي الكوارث البشرية والبيئية الناتجة عن غمر السيول للوادي إلى خسائر اقتصادية أخرى باهظة، بسبب غرق الأراضي الزراعية أو مراكز التعدين وطرق المشروعات السياحية وغيرها.

تلجأ الإدارات المحلية لاعتماد مخططات ماليّة أقلّ كلفة كزيادة عدّة البالوعات وتنظيفها وانتشار سيارات شفط المياه.. لكنّها عدا كونها حلولاً جزئية، إلّا أنّه لا يتم تفعيلها بالشكل المطلوب. والمثال على ذلك هو غرق مدينة الإسكندرية التاريخية بعد هطول الأمطار فيها العام الماضي، التي انتهت بإقالة المحافظ وزيارة من رئيس الجمهورية للمحافظة وعد خلالها بملاحقة الفساد والفشل بالمحليّات حتى لا تتكرر مثل تلك الكوارث بينما وجّهت وزارة الداخلية اتهامات لأعضاء بجماعة الإخوان المسلمين بتعمدهم إفساد البالوعات من أجل إغراق المدينة.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...