تتدحرج العملية التربوية التعليمية في العراق بسرعة مخيفة نحو هاويات الفشل، تدفعها الأزمات العامة التي وصلت إلى مرحلة غياب الكتب عن حقائب الطلاب والتلاميذ. صار على الفرد العراقي الاهتمام بمختلف شؤون حياته معتمداً على قدراته الذاتية بعد أن وقفت "الدولة الجديدة" عاجزة أمام المشكلات الكبيرة والصغيرة لانشغال المستحوذين عليها بملء بطونهم وبطون السائرين معهم في قافلة النهب المبرمج.
عقود، عقود..
تقوم وزارة التربية بمنح عقود طباعة الكتب لشركات غير معروفة الأسماء والجنسيات، وقد كثرت الأقاويل حول مدى نظافة تلك العقود من لوثة الفساد، وتحدثت مواقع الحروب السرية عن أسماء وأرقام تفيد بأن الفائدة الأساسية من تلك العقود حشر الدولارات في خزائن أطرافها وليس ملء مخازن المدارس بالكتب. ومع أن تسريبات كهذه قد تكون منبعثة من وراء مكاتب مساومين كذابين، إلا أن كلمة "عقود" بحدّ ذاتها صارت مصطلحاً موازياً للسرقة في ذهن العراقيين الذين ظلوا طوال ثماني سنوات يطربون على أنغام عقود الإعمار والاستثمار والازدهار في النشرات الإخبارية ثم يخرجون إلى الشوارع لتشتبك أعينهم وذاكرتهم بملامح الخراب المتسع.
بطريقة غامضة، تسرّبت كميات كبيرة من الكتب المطبوعة حديثاً إلى الأسواق، وصار على الطلاب وأولياء أمورهم دفع أموال مكلفة من أجل مواصلة مسيرة طلب العلم، مع تعذّر الاعتماد على الكتب القديمة إثر تغيير المناهج. ثم أصدرت الحكومة أوامر باعتقال كلّ من يبيع الكتب المدرسية في الأسواق، فاعشوشب الارتياب في أرض التكهنات لتزدهر نظرية تواطؤ جهات حكومية مع جهات مافيوية لاصطياد الأوراق النقدية من جيوب الشعب، ومن أجل دفن السر جاء قرار ملاحقة بائعي مناهج الدراسة.
وزير التربية هرول إلى الملعب الرحب الذي رُميت فيه كرات كثيرة من قبل لتبرير الفشل والتقصير، وهو ملعب "الأزمة المالية"، فرمى كرته هناك ملقياً معها اللائمة على مجلسي الوزراء والنواب، حيث اتهمهما بتخفيض موازنة طباعة الكتب إلى النصف. بعد ذلك أقر الوزير في مؤتمر صحافي بحرمان أكثر من 5 ملايين و400 ألف طالب من تسلّم الكتب بطبعتها الجديدة، لكنه أصر في الوقت ذاته على أنه خارج أقواس هذه الأزمة المفزعة بعد أن "تمّ تخفيض المبلغ المقدَّر لطبع الكتب من الموازنة العامة التخمينية للوزارة للعام الحالي من 213 مليار دينار الى 66.75 مليار دينار"، (ما يعادل نحو 56.5 مليون دولار). وبحسب الوزير، اتفق مجلس الوزراء بكل أعضائه على هذا التخفيض، وبالتالي فإن الجميع شاركوا في حفل توديع مجانية التعليم في العراق التي كفلها الدستور المهمل دائماً.
وُجّهت إلى الوزير اتهامات من بعض النواب بتعمده تغيير المناهج الدراسية كل عام من أجل إبقاء المطابع المحظوظة مشتغلة، كما اتُهم بمخالفة توجيهات لمجلس الوزراء تقضي بطباعة الكتب داخل العراق وإصراره على طباعتها في العاصمة الأردنية عمان بكلفة أعلى. كل هذه المعطيات استلهمها الشارع العراقي المنكوب في ندب الحظ وذم المرحلة عبر تدوينات وهاشتاغات على مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت منابر فسيحة ومتاحة لمن يريد التنفيس عن غضبه وشتم التعاسة المستفحلة في جسد المجتمع المنهك.
"وزير الـPDF"، أحد أبرز الهاشتاغات التي أطلقها عراقيون في مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن اقترحت وزارة التربية على الطلاب تحميل الكتب من الإنترنت بصيغة (PDF) وطباعتها ورقياً على حسابهم الشخصي. وتضمّن الهاشتاغ مطالبات واسعة بإقالة الوزير وحل الأزمة، كما وردت هذه المطالبات في تظاهرات عدة نظمت في بغداد ومحافظات أخرى لهذه الغاية، لكن الاستجابة للمطالب ظلت قابعة خلف جدران الصمت، فلم يأت أحد على سيرة إقالة الوزير، ولم تتوفر الكتب في المدارس. في خضم ذلك خرج الوزير بمعلومات مغايرة، فقال إن الكتب موجودة ولكن وزارة التربية لا تملك الأموال الكافية لنقلها إلى المدارس في بغداد وبقية المحافظات، والسبب هو أن وزارة المالية التي لم تصرف مخصّصات النقل.
من أجل مجابهة هجمات الـ"سوشيال ميديا"، ظلّت وزارة التربية تبث طيلة أيام تقارير مصوّرة عبر موقعها في الفيسبوك عن عمليات تجهيز مديرياتها بالكتب، لتثار التساؤلات مرة أخرى عن سبب عدم ظهور هذه الكتب إلا بعد تعالي صراخ الناس، وما إذا كانت الكميات الظاهرة في الصور كافية لجميع الطلاب أم أنها مجرد تمويه إعلامي لكسب الوقت الكفيل بخفض منسوب غضب الناس المصابة بملل كبير جراء اقتياد آمالهم يومياً إلى محرقة الفوضى التي يحرسها لصوص محترفون.