ملح تونس سريع الذوبان..

أقر الفصل 13 من الدستور التونسي الجديد 2014 أن الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي وتمارس الدولة السيادة عليها باسمه. لكن ذلك لا يطبق فعلياً
2016-11-23

شارك
شط الجريد في تونس

على الرغم من الأسطورة التي تقول إنّ جنرالات روما أمروا برش أراضي قرطاج بالملح (لتصبح عاقراً) في آخر الحروب البونيقية (حروب ثلاث دارت بين روما وقرطاج بدءاً من 265 ق.م.)، فإن علاقة التونسيين بهذه المادة ترقى إلى مرتبة العشق. يحب التونسيون الملح كما لا يحبه أحد، ولا يتخيلون الطعام والحياة من دونه. يكفي أن ينصح الطبيب مواطناً تونسياً بإنقاص الملح أو التخلي عنه تماماً حتى تصيبه موجة اكتئاب حادة ويحظى بتعاطف واسع وصادق، فالمصاب جلل. التونسي الأصيل لا يخون أبدا "الماء والملح" اللذين اقتسمهما مع الآخرين. أغلب التونسيين لا يعرفون عن الملح إلّا تلك الأكياس الزرقاء (ملح طبخ ناعم) والبيضاء (ملح طبخ خشن) عبوة كيلوغرام واحد التي يشترونها منذ عقود. أغلبهم لا يعلم أن تونس تنتج وتصدّر كميات كبيرة من الملح ذي الجودة العالية. أغلبهم لا يعلمون أيضاً أنّ هناك شركة فرنسية تحتكر الجزء الأكبر من الإنتاج منذ أكثر من ستين عاماً. أسعار الملح المنخفضة نسبياً قد تجعل أغلب الناس لا يعيرون اهتماماً لهذا الملف فالأمر لا يتعلق بالبترول أو الغاز. لكن الواقع يؤكد، وبالأرقام، أن المداخيل مهمة جداً خصوصاً عندما يكون "السوق" حكرا على بضعة مستغلين. ظل ملف الملح مسكوتاً عنه طيلة عقود طويلة إلى أن اندلعت الانتفاضة التونسية وحررت الألسن فطرحت أسئلة كثيرة عن شبهات الفساد وسوء الاستغلال.

 

إنتاج كبير ومتنوع وجيّد

استخراج الملح غير مكلف مقارنة بأنشطة أخرى، كما أنّه لا يتطلّب تقنيات متطورة جداً. فالمادة الخام موجودةٌ في البحر وأشعة الشمس اللازمة لتجفيف المياه متوفرة بكميات غير محدودة، كذلك السباخ (أراض منخفضة ومستوية تتعرض لمعدلٍ عالٍ من تبخر المياه) والشواطئ الممتدة على 2290 كلم. يبلغ إنتاج تونس من الملح قرابة المليوني طن سنوياً، يخصص منه أقل من 10 في المئة للاستهلاك المحلي ويتم تصدير البقية إلى الخارج (بالأساس أوروبا وخصوصاً فرنسا). بالنسبة للأرباح فإنه لا توجد أرقام رسميّة ولا حتى غير رسمية. كلّ ما هو معروف أنّ كبرى الشركات المستغلة للملاحات صرّحت بأنّ أرباحها سنة 2013 تجاوزت الثلاثين مليون دينار. وبما أنها تسيطر على أكثر من نصف الإنتاج، فحسابياً تكون المداخيل الإجمالية في حدود الخمسين مليون دينار، وهذا ما يعتبره أغلب الخبراء بعيداً من الواقع خصوصاً أنّ أغلب الإنتاج يذهب إلى الخارج ويباع بأضعاف الأسعار المعمول بها في تونس وبالعملة الصعبة.
يتم استخراج الملح في تونس عبر طريقتين أساسيتين:
- تجميع مياه البحر في أحواض وبحيرات صناعية تتمركز في السواحل القريبة وينتظر تبخرها بمفعول الشمس ثم تسحب الترسبات ويتم معالجتها وتنقيتها.
- تجميع كتل الملح الصخري الموجود في السباخ الساحلية والداخلية ونقلها إلى مصانع ومصاف خاصة لتفتيتها ومعالجتها قبل تسويقها.
تنتج الملّاحات التونسية كمية كبيرة من أملاح الصوديوم والبوتاسيوم والمغنيزيوم، وبدرجة أقل أملاح الليتيوم (تستعمل خصوصا في صناعة بطاريات الهواتف المحمولة وخزانات الطاقة الشمسية). وبالإضافة إلى الطبخ، فإن للملح المستخرج في تونس عدة استعمالات في الصناعات الغذائية، وتمليح وتصبير منتجات البحر، والصناعات الكيميائية، وإذابة الثلوج إلخ...
تتوزع السباخ أساسا في مناطق الساحل وصفاقس (وسط تونس) والجنوب وتمتد على مساحة عشرات آلاف الهكتارات التي تعتبر أراضي دولة (ميري). تتميز هذه السباخ بنسبة الملوحة العالية (330 غراماً من الملح في الليتر الواحد) أي عشرة أضعاف النسبة الموجودة في مياه البحر، ما يعطي إنتاجاً أكبر بتكلفة أقل. ونظراً للمناخ المتوسطي الذي تمتاز به تونس ووجود عدد كبير من الأراضي السباخ، فإنّ للملح التونسي جودة عالية ويحظى بسمعة جيدة في الخارج وخصوصاً أنّ تكلفة استخراجه متدنّية وأسعار بيعه منخفضة. توجد في تونس ست شركات تمتاز برخص استخراج الملح واستغلاله، ثلاث منها يمتلكها تونسيون والبقية ملك أجانب. لكنّ هناك شركة واحدة تحتكر قرابة ثلاثة أرباع الإنتاج وبعقود ترجع إلى زمن الاستعمار الفرنسي: "الشركة العامة للملاحات التونسية" ("كوتيزال")

"كوتيزال" أو مختصر تاريخ تونس الحديث

"كوتيزال التي أنشئت سنة 1949 هي مثال حقيقي للتعاون الفرنسي ـ التونسي".. هكذا تقدم الشركة نفسها في موقع الإنترنت الخاص بها (باللغة الفرنسية). الشخص الذي كتب هذا التقديم يمتاز بروح دعابة عالية، ففي سنة 1949 كانت تونس ترزح تحت الاستعمار الفرنسي. في حقيقة الأمر، لم تؤسس هذه الشركة الفرنسية سنة 1949 بل هي حصيلة انصهار أربع شركات فرنسية أخرى بدأت باستخراج الملح التونسي منذ مطلع القرن العشرين. الذين أسسوا الشركة فرنسيون، والذين منحوها حق استغلال السباخ بفرنك واحد للهكتار فرنسيون، والذين وقعوا الاتفاقية فرنسيون. وحدهم العمال والأرض والملح تونسيون. خروج المستعمر الفرنسي لم يغير الأمور ولم تسعَ "الدولة الوطنية" إلى تأميم الملاحات أو على الأقل إعادة صياغة عقود الاستغلال وفق شروط معقولة تضمن المصلحة العامة والسيادة الوطنية. وحتى بعض التنقيحات التي أدخلت على الاتفاقيات لم تمسّ جوهر الأمور وبقيت شكلية. يتم تجديد رخصة الاستغلال آلياً كل 15 سنة.

 

الأشهر الأولى التي تلت سقوط بن علي طبعها الصراع الأيديولوجي/ الهوياتي (علماني/ إسلامي) والجانب الحقوقي (تصفية تركة عقود الديكتاتورية)، فيما لم يحظَ الملف الاقتصادي باهتمام كبير، على الرغم من أن البطالة وغياب التنمية واستشراء الفساد هي التي كانت المحركات الأساسية للانتفاضة

 

ظل الفرنسيون يستخرجون الملح التونسي بدون أي منافس إلى حدود سنة 1994 حيث وافقت الدولة التونسية على دخول مستثمرين جدد للقطاع ومنحت رخصاً لخمس شركات جديدة محلية وأجنبية. المنافسون الجدد لا يمثّلون أيّ خطر على كوتيزال التي ظلت تستغل أفضل السباخ والملاحات بمقابل بخس. بقيت الشركة تحقق الأرباح الطائلة كل سنة بعيداً من أعين الحساد إلى أن تغيّرت الأمور في تونس بعد 2011. استغل خبراء وناشطون في مجال الطاقة والثروات الطبيعية الفرصة لفضح التاريخ الاستعماري للشركة وتواطؤ الدولة التونسية المستقلة معها. أثار الأمر جدلاً واسعاً (يمكن الحديث عن "صدمة") في الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام قبل أن تتفاعل بعض الأحزاب والشخصيات الوطنية مع الموضوع ويتم التباحث فيه في المجلس التأسيسي. ونظراً لشدة الحملة التي استهدفتها، اختارت الشركة المهادنة ذلك عبر إصدار بيان صحافي أكدت فيه استعدادها للقبول بشروط جديدة إذا ما أرادت الحكومة التونسية ذلك. لكن الحكومة التونسية لا تريد ذلك..

سوء إدارة وتفريط بالثروات الطبيعية

الأشهر الأولى التي تلت سقوط بن علي طبعها الصراع الأيديولوجي/ الهوياتي (علماني/ إسلامي) والجانب الحقوقي (تصفية تركة عقود الديكتاتورية)، فيما لم يحظَ الملف الاقتصادي باهتمام كبير على الرغم من البطالة وغياب التنمية واستشراء الفساد التي كانت المحركات الأساسية للانتفاضة. تفطّن العديد من المثقفين والناشطين إلى هذا الانحراف في المسار وحاولوا تصويب الأمور وإعادة الجانب الاقتصادي إلى الواجهة عبر نقد المنوال التنموي والسياسات الاقتصادية التي اعتمدتها تونس منذ الاستقلال. من بين أهم الملفات التي فُتحت، نجدُ مسألة التصرف في الموارد والثروات الطبيعية. لم يكن من السهل تناول مسائل حرصت الدولة التونسية طيلة عقود على التعتيم عليها وحجب المعلومات والمعطيات المتعلقة بها. طالب العديد من الأحزاب اليسارية والجمعيات البيئية التنموية بدسترة سيادة الشعب على ثرواته الطبيعية. وعلى الرغم من أن القوة المسيطرة على المجلس التأسيسي حينها حاولت المراوغة والتملص من مسألة يمكن أن تضرّ بعلاقاتها مع الدول الغربية والشركات المتعددة الجنسيات، رضخت في آخر الأمر وأقرت الفصل 13 من الدستور التونسي الجديد (كانون الثاني/ يناير 2014) : "الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي تمارس الدولة السيادة عليها باسمه. تعرض عقود الاستثمار المتعلقة بها على اللجنة المتخصصة بمجلس نواب الشعب. وتعرض الاتفاقيات التي تبرم في شأنها على المجلس للموافقة".

 

من أحواض الملح في تونس

 

عندما أثيرت قضية شركة كوتيزال ورخص استخراج الملح عموماً، حاولت حكومة "المهدي جمعة" امتصاص الأزمة عبر التعهد بإعادة التفاوض مع الشركات المعنية. لكن بعد أشهر تراجعت عن تعهداتها وواصلت تدليل شركة كوتيزال عبر إسنادها امتياز استغلال "سبخة الغرّة" في شهر آذار/ مارس 2014 إليها. مدة صلاحية العقد ثلاثون عاما ومساحة السبخة 11200 هكتار. لم يتم عرض الاتفاقية على مجلس النواب كما ينص عليه الفصل 13 بحجة أنّ العقد تمت صياغته في أواخر 2013 أي قبيل دخول أحكام الدستور الجديد حيز التنفيذ.
مشكلة ملف الملح في تونس لا تكمن فقط في التفريط بحقوق الشعب وسيادته على ثرواته، ولا في شبهات الفساد المتعلقة بالعقود، بل إنّها تتمثل أيضا في ضبابية النصوص المنظّمة لاستخراج هذه المادة واستغلالها. فالقانون المنجمي توجد فيه عدة ثغرات والكثير من فصوله قابلة للتأويل على أكثر من وجه. كما أنّ الملف تتقاسمه عدة جهات لكلٍّ منها صلاحيات ووجهات نظر مختلفة: وزارة أملاك الدولة التي تتصرف بالأراضي "الميري"، ووزارة الصناعة، ووزارة الطاقة، والديوان الوطني للمناجم.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه