إلا أن تهاوي "المشروع المؤسساتي" للدولة الوطنية منذ ثمانينيات القرن العشرين، وتآكل العقد الاجتماعي كشف المستور. وقد أظهرت "ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011 ''زيف إحصائيات التجميل" التي قدمها نظام بن علي حول النظام الصحي مؤكدة حجم اللامساواة الكبير بين الفئات الاجتماعية بما يتعلق بالولوج إلى الخدمات الصحية، فصارت المنظومة الصحية العمومية أحد عناوين غياب العدالة الصحية، ما تبينه الوفيات المتكررة لنساء أثناء الولادة في المناطق الداخلية، حيث يغيب أطباء الاختصاص وتنعدم التقنيات الطبية اللازمة وترتفع وتيرة العنف بين أهالي المرضى والإطار الطبي، وتتكاثر الأخطاء الطبية رغم الكفاءة العالية لجزء كبير من الأطباء التونسيين الذين صاروا يدخرون جهودهم للعمل في المصحات الخاصة مما جعلهم ضمن الصفوف الأولى للشرائح الثرية.
نماذج من المنطقة السوداء للنظام الصحي
وعلى الرغم من التقدم الحاصل في تونس في المجال الصحي مقارنة بدول المنطقة، إلا أنه يتبين أن الواقع الصحي في البلاد يتسم بفجوات حادة بين الفئات والجهات. فقد أظهرت دراسة لـ "البنك الأفريقي للتنمية" أن معدل أمل الحياة مثلا في سنة 2009 يصل إلى 74.5 سنة على المستوى الوطني لكنه لا يتجاوز 70 سنة في مدن داخلية ومهمشة مثل القصرين وقفصة وسيدي بوزيد وتطاوين وجندوبة والقيروان، في حين يتجاوز 77 سنة في تونس العاصمة وصفاقس وسوسة والمنستير، وهي مدن متاخمة للسواحل حيث تتوفر إلى حد ما البنية التحتية الصحية وتتمركز كبرى المستشفيات الجامعية. وتمثل وفيات الأطفال عند الولادة أحد مؤشرات اللامساواة، إذ على الرغم من انخفاض نسبها العامة إلا أنها تخفي تمايزات بين الجهات والمجموعات السوسيو- اقتصادية، حيث لم تستفد جميع المناطق والفئات من هذا الانخفاض وبلغ مجموع معدل وفيات الأطفال سنة 2009 نسبة 17.8 في المئة على مستوى وطني إلا أنه يرتفع إلى 21 في المئة في ولايات الجنوب و23.6 في المئة في الوسط الشرقي للبلاد. وتتجسد اللامساواة في صيغها الأكثر مأساوية في الولوج إلى الخدمات الصحية، إذ نجد مثلا أن نسبة النساء اللواتي يلدن أطفالهن دون أية مساعدة طبية (أي في منازلهن بالاعتماد على وسائل تقليدية) تصل إلى قرابة 40 في المئة في ولايات زغوان والقصرين وتنخفض إلى أقل من 1 في المئة في ولايات تونس العاصمة. وبالمقابل وصلت نسبة النساء اللواتي يلدن أطفالهن في المصحات الخاصة سنة 2010 إلى حدود 40 في المئة في ولايات تونس الكبرى وإلى حدود 30 بالمئة في ولايات صفاقس ونابل في حين هي صفر في المئة في ولاية تطاوين الموجودة في أقصى الجنوب. وتبقى الولادة في المستشفيات العمومية هي المهيمنة حيث تصل على المستوى الوطني إلى حدود 67.5 في المئة. وبالمقابل تتواتر وفيات النساء أثناء الولادة في المناطق الداخلية والتي سجلت نسبة 67 في المئة في ولايات الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقيروان والقصرين). ولا تفسَّر هذه التفاوتات بغياب البنية التحتية وحدها، بل تتعلق بارتفاع نسب الفقر وعدم تجذر الوعي الصحي..
سياسة كي تحيا عليك أن تدفع؟
بغض النظر عن التأويلات والقراءات الديموغرافية والسوسيولوجية المتعددة للأرقام المقدمة حول الواقع الصحي في تونس عامة، ولمؤشرات اللاعدالة الصحية خاصة، إلا أن المنظومة الصحية العمومية في تونس في طريقها للتآكل وبدأت في التحول إلى جهاز يكرس اللامساواة بين الفئات والجهات. فانسحاب الدولة التدريجي من التكفل بالمسألة الصحية قد حول المؤسسة الصحية إلى سوق قائمة على العرض والطلب، حيث أصبح البقاء على قيد الحياة هو لمن يقدر على الدفع، إذ يتمدد القطاع الخاص بجشع لا يراعي ''الحق في الصحة" للفئات الهشة والفقيرة التي تكون في الغالب مجبرة على اللجوء إلى قطاع صحي عمومي تتعاظم رثاثته، ويتعمق الأمر بتزايد البطالة وأشكال التشغيل الهشة، حيث يجد آلاف الأفراد أنفسهم خارج منظومة التغطية الاجتماعية التي تمكنهم من الوصول إلى الحد الأدنى من الخدمات الصحية المجانية. وعلى الرغم من وجود سياسة اجتماعية حكومية (غير واضحة المعايير) للتكفل بالفئات الهشة، إلا أن الكثيرين يجبرون في ظل بيروقراطية بطيئة ومعقدة على الانتظار طويلا كي يحصلوا على ''دفتر صحة مجاني"، حتى أن البعض منهم يدفع بعض ''الرشى الصغيرة" للحصول عليه. وتتعامل المؤسسات الصحية مع زبائنها من الفقراء والمهمشين بكثير من الازدراء، ولا توجد سياسة للإحاطة النفسية بالمرضى، مثلما تغيب استراتيجية للاستقبال بـ "وجه إنساني'' للمؤسسة الصحية العمومية التي أصبحت أشبه "بالمؤسسة القمعية"، تمارس جل أنواع العنف المادي والرمزي وهذا يقابله عنف من المرضى وذويهم، وأصبح الأطباء يشعرون أن مهنتهم داخل المستشفيات العمومية هي ''تجربة معاناة" لعدم وجود استراتيجية جذرية لحل المشكلات الهيكلية لمنظومة الصحة العمومية.
وتتعمق الأزمة بالإفلاس المعلن لصناديق الضمان الاجتماعي، حيث باتت عبئا على ''المالية العمومية" عبر عجزها عن تسديد التعويضات للأجراء الذي يذهبون للتداوي في القطاع الطبي الخاص. حتى أن نقابة الصيادلة قطعت علاقتها التعاقدية مع "الصندوق الوطني للتأمين على المرض"، حيث بات هذا الأخير ـ بسبب الفساد المستشري ـ عاجزا عن الإيفاء بتعهداته. يضاف إلى ذلك تحولات ديموغرافية تحف بالمجتمع التونسي الذي يسير نحو "التهرم"، وهو ما سيخلق في السنوات المقبلة مشكلات أخرى تتعلق بالرعاية الصحية والاجتماعية لفئة الشيوخ، إذ وصلت نسبة من هم فوق الـ65 إلى حدود 10 في المئة من السكان ومن المتوقع أن تصل إلى 19 في المئة في 2039.
منظومة صحية مضادة لحقوق الإنسان
أصبح سكان المناطق الداخلية يضطرون للانتقال إلى المدن الساحلية للتداوي على الرغم من "الحق في الصحة" الذي يتضمنه الدستور التونسي المنجز بعد الثورة. والتمعن في واقع المنظومة الصحية يبين أنها أصبحت، بفعل الانهيار الحاصل، تتعارض مع منظومة حقوق الإنسان، إذ تتعمق رداءة الاستقبال ويصعب الولوج إلى المعلومات المفيدة، كما تنعدم ضمانات سرية المعلومات الطبية الشخصية، ولا يتم التعامل مع المريض بوصفه ذاتاً إنسانية فاعلة بل كمجرد ''زبون'' لا يشكل طرفاً في العملية العلاجية.
ولا تتعلق مسألة "اللاعدالة الصحية" بالمنظومة الصحية ومنطق اشتغالها الداخلي فحسب، بل بالخيارات التنموية الأساسية.