لقد بدأت أعراض الانهيار المناخي تظهر في المنطقة العربية، في صورة تقويض الأسس الإيكولوجية والاجتماعية-الاقتصادية للحياة. تعاني دول مثل الجزائر وتونس والمغرب والسعودية والعراق والأردن ومصر من موجات حر متكررة وحادة، وفترات جفاف مطولة، وهي ظواهر لها آثار كارثية على الزراعة وصغار المزارعين..
ليست الأزمة المناخية واقعاً حتمياً لا مفر منه: لقد كانت، ولا زالت، مُحفَّزَة بقرار الاستمرار في حرق الوقود الأحفوري، وهو اختيار تتحمل القدر الأعظم من المسؤولية عنه الشركات والحكومات في شمال الكوكب، بالتعاون مع الطبقات الحاكمة في مختلف الدول بما يشمل المنطقة العربية. تضع النظم خطط الطاقة والمناخ في هذا الجزء من العالم بمساعدة داعميها في الرياض وبروكسل وواشنطن. تتعاون النُخب المحلية الثرية مع الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية. وعلى الرغم وعودها، فإن تصرفات هذه المؤسسات تُظهر أنها معادية للعدالة المناخية وبقاء الجنس البشري ذاته.
في كل عام، يجتمع قادة العالم السياسيون والمستشارون والإعلام ولوبيات الشركات في قمم المناخ (COP – كوب) لمناقشة قضية التغير المناخي. لكن على الرغم من التهديد الذي يواجه الكوكب، تستمر الحكومات في السماح بتصاعد الانبعاثات الكربونية وبتفاقم الأزمة. بعد ثلاثة عقود مما وصفته الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ بأنه "كلام فارغ" (blah blah blah)، أصبح من الواضح أن المحادثات المناخية مفلسة وفاشلة. إذ سطت عليها الشركات والمصالح الخاصة التي تروج لحلول زائفة هدفها جني الأرباح، مثل أفكار تجارة الكربون وما يُسمى بـ "الصفر الصافي" و"الحلول المستندة إلى الطبيعة"، بدلاً من إجبار الأمم الصناعية والشركات متعددة الجنسيات على تقليل الانبعاثات الكربونية وترك الوقود الأحفوري حيث ينتمي، في باطن الأرض.
____________
من دفاتر السفير العربي
هل مخططات مواجهة التغير المناخي صحيحة وكافية؟
____________
مع قمة كوب 28 في دبي بالإمارات، في عام 2023، تستضيف المنطقة العربية المحادثات المناخية للمرة الخامسة منذ بدأت في 1995: كوب 7 (2001) في مراكش بالمغرب، وكوب 18 (2012) في الدوحة، قطر، وكوب 22 (2016) مرة أخرى في مراكش، المغرب، وكوب27 (2022) شرم الشيخ، مصر. وبالنسبة إلى قمة كوب 28، فقد بدا للنشطاء والمراقبين أن تعيين الإمارات لسلطان الجابر، المدير التنفيذي لشركة أبو ظبي الوطنية للنفط لترؤس المحادثات، يرمز إلى الالتزام العميق بالاستمرار في استخراج النفط، بغض النظر عن التكلفة، وهي السمة التي اتسمت بها المفاوضات حتى الآن.
مثلما قوّض الإخضاع الاقتصادي والهيمنة الإمبريالية الاستقلال السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية، فإن إنتاج المعرفة حول الشعوب العربية وتمثيلاتها وبيئاتها يُستخدم بالمثل من قبل القوى الاستعمارية لشرعنة مشروعها الكولونيالي وأهدافها الإمبريالية. تستمر استراتيجيات الهيمنة تلك حالياً، حيث تجري (مرة أخرى) إعادة صياغة تصورات حول دول المنطقة بصفتها أشياء ستتم تنميتها (باستدامة أو بدونها)، بما يدعم مرة أخرى أفكار "رسالة التحضر الأوروبية" من العهود الكولونيالية.
تسعى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جاهدة، بشركاتها الوطنية للنفط والغاز، جنباً إلى جنب مع شركات النفط الكبرى، للحفاظ على عملياتها، وحتى التوسع والاستفادة من الوقود الأحفوري المتبقي الذي تمتلكه. تطمح مصر في عهد السيسي إلى أن تصبح مركزاً رئيسياً للطاقة في المنطقة، إذ تودّ تصدير فائض الكهرباء وتعبئة مصادر الطاقة المختلفة، مثل الغاز والنفط البحريين والطاقات المتجددة والهيدروجين، لتلبية احتياجات الاتحاد الأوروبي.
وهذا بالطبع لا ينفصم عن الجهود الجارية للتطبيع السياسي والاقتصادي مع دولة إسرائيل الاستعمارية. يستفيد النظام الجزائري بدوره من ارتفاع أسعار النفط ويرى أن تزاحم الاتحاد الأوروبي بحثاً عن بدائل للغاز الروسي فرصة لتوسيع عملياته وخططه المتعلقة بالوقود الأحفوري. لا يختلف الأمر بالنسبة لدول الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر. تتحدث الطبقات الحاكمة في جميع أنحاء المنطقة عن حقبة "ما بعد النفط" لعقود، وقد تشدَّقت الحكومات المتعاقبة بالتحول إلى الطاقات المتجددة لسنوات دون اتخاذ إجراءات ملموسة، باستثناء بعض الخطط والمشاريع الضخمة وغير الواقعية، كمدينة نيوم المستقبلية الضخمة المقترحة والمثيرة للجدل في المملكة العربية السعودية. بالنسبة إلى هذه الطبقات الحاكمة، يمثل توالي مؤتمرات الأطراف فرصة ذهبية للنهوض بأجندة الغسيل الأخضر، فضلاً عن جهودهم لجذب رؤوس الأموال والتمويلات والاستحواذ عليها لمشاريع الطاقة المختلفة والخطط "الخضراء" المزعومة.
شمال أفريقيا وغرب آسيا بصفتهما محوراً أساسياً في رأس المال الأحفوري العالمي
لا بد من فهم طبيعة منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا، أو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في سياق السوق الرأسمالية العالمية الأوسع، وهي تتسم بالصعود المتزامن لمناطق جديدة للتراكم والنمو في بعض المناطق من العالم، والانحسار النسبي لمراكز السلطة الراسخة في أمريكا الشمالية وأوروبا. لا يقتصر الأمر على أن المنطقة تلعب اليوم دوراً مهماً في حركة الشبكات العالمية الجديدة للتجارة والنقل والبنى التحتية ورؤوس الأموال، بل هي أيضاً منطقة في غاية الأهمية لنظام الوقود الأحفوري العالمي وتلعب دوراً محورياً في الحفاظ على رأس المال الأحفوري عبر إمداداتها المهمة من النفط والغاز.
إسرائيل تمد أوروبا بسرقاتها من الغاز العربي
09-08-2022
يعني الواقع التاريخي والسياسي والجيوفيزيائي للمنطقة العربية أن كِلا الآثار والحلول الخاصة بالأزمة المناخية ستكون مختلفة في المنطقة عن وضعها في أية سياقات أخرى. منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، أُجبِرت المنطقة على الاندماج بالاقتصاد الرأسمالي العالمي من موقع التابع: أُثَّرت القوى الاستعمارية والإمبريالية على دول المنطقة أو أجبرتها على قبول بناء اقتصاداتها بالأساس حول استخراج وتصدير الموارد – عادة ما تُقدم رخيصة في صورة خام – اقتراناً باستيراد السلع الصناعية عالية القيمة. كانت النتيجة هي نقل واسع النطاق للثروة إلى المراكز الإمبريالية، على حساب التنمية والنظم البيئية المحلية.
لا بد من فهم طبيعة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في سياق السوق الرأسمالية العالمية الأوسع، وهي تتسم بالصعود المتزامن لمناطق جديدة للتراكم، والانحسار النسبي لمراكز السلطة الراسخة في أمريكا الشمالية وأوروبا. لا يقتصر الأمر على أن المنطقة تلعب اليوم دوراً مهماً في حركة الشبكات العالمية الجديدة للتجارة ورؤوس الأموال، بل هي أيضاً في غاية الأهمية لنظام الوقود الأحفوري العالمي
يحافظ استمرار هذه العلاقات غير المتكافئة أو المتعادلة حتى اليوم (ويصفها البعض بمسمى التبادل الاقتصادي/الإيكولوجي غير المتكافئ أو الإمبريالية الإيكولوجية) على دور الدول العربية كجهات تصدير للموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز والسلع الأساسية المعتمدة بشكل مكثف على المياه والأرض، مثل الزراعة الكثيفة للمحاصيل النقدية. يفاقم تجذر النمط الاقتصادي الاستخراجي التصديري، التبعية الغذائية والأزمة الإيكولوجية مع الاحتفاظ بعلاقات هيمنة استعمارية وتراتبيات استعمارية جديدة. إلا أنه من المهم تجنب النزوع إلى رؤية المنطقة بصفتها كياناً واحداً غير متمايز في ما يرتبط بهذا التحليل، إنما يجب الوعي باللاتكافؤ واللامساواة العميقة في المنطقة. تكشف النظرة الأكثر إمعاناً عن دور الخليج الرئيسي في التشكيلة العالمية، بصفته منطقة شبه مركز – أو حتى قوة شبه إمبريالية (أو إمبريالية بالوكالة). لا يقتصر الأمر على أن الخليج أكثر ثراء من دول الجوار العربية، إنما يشارك أيضاً في الهيمنة على فائض القيمة ومصادرته على المستوى الإقليمي، مع إعادة إنتاج علاقات الاستخراج بين المركز والهامش وعلاقات التهميش والتراكم عبر السلب.
النظرة الاستعمارية والاستشراق البيئي
مثلما قوّض الإخضاع الاقتصادي والهيمنة الإمبريالية الاستقلال السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية، فإن إنتاج المعرفة حول الشعوب العربية وتمثيلاتها وبيئاتها يُستخدم بالمثل من قبل القوى الاستعمارية لشرعنة مشروعها الكولونيالي وأهدافها الإمبريالية. تستمر استراتيجيات الهيمنة تلك حالياً، حيث تجري (مرة أخرى) إعادة صياغة تصورات حول دول المنطقة بصفتها أشياء ستتم تنميتها (باستدامة أو بدونها)، بما يدعم مرة أخرى أفكار "رسالة التحضر الأوروبية" من العهود الكولونيالية.
انطلاقاً من رفض هذه السرديات التاريخية الفرنسية الكولونيالية حول "التخلف التاريخي" المفترض و"حالة التجمد في الزمن" للبربر/الأمازيغ، والعرب والمسلمين وحضاراتهم، يقول المؤرخ والفيلسوف المغربي عبد الله العروي بأن واقع الشعوب الأصلية في المنطقة المغاربية بتجسداته العديدة (السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية، إلخ) وفي مختلف المراحل التاريخية، قد جرى تشويه صورته عمداً للدفع بسردية مزيفة واختزالية تخدم أجندة كولونيالية للإخضاع والهيمنة والتوسع الاستعماري.
دائماً ما تكون السرديات نتاجاً للحظة تاريخية، وهي ليست بريئة من المقاصد، ولذا يطرح السؤال: لمصلحة من يتم إنتاج المعرفة والتمثيلات والسرديات؟ ثمة مثال معاصر واضح، هو التمثيل الحالي لصحراء شمال أفريقيا، التي توصف بأنها أرض فسيحة وخالية وميتة ونادرةُ السكان، فتصبح وكأنها فرصة ذهبية لتقديم الطاقة الرخيصة لأوروبا حتى تستمر في نمط حياتها الاستهلاكي الباذخ وفي استهلاك الطاقة المفرط.
من الأهمية بمكان تحليل الآليات التي يتم بموجبها "نزع إنسانية" الآخر، وكيف تُستخدم سلطة التمثيل وبناء التخيلات حوله وحول بيئته في تعميق بنى السلطة والهيمنة والسلب. وما يوصف في منظور "الاستشراق" التحليلي بأنه "اللامبالاة بالإنسانية واختزالها ونزع الطابع الإنساني عنها" في الثقافات الأخرى أو لدى الشعوب أو المناطق الجغرافية الأخرى، مستمر حالياً في تبرير العنف الموجه ضد الآخر وضد الطبيعة.
تؤيد هذه الفكرة الجغرافية الأمريكية ديانا كيه ديفيز، التي تحاجج بأن التخييلات البيئية الأنجلو-أوروبية في القرن التاسع عشر صوَّرت البيئة بالعالم العربي في الأغلب الأعمّ بصفتها "غريبة ومختلفة وفانتازية وغير طبيعية، ومتدهورة كثيراً بشكل من الأشكال". استخدمت ديفيز بدقة ومهارة مفهوم "الاستشراق" الذي صكه إدوارد سعيد، كإطار مفاهيمي لتفسير التمثيلات الغربية المبكرة للبيئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كشكل من أشكال "الاستشراق البيئي". تم سرد البيئة من قِبل من أصبحوا أصحاب سلطة إمبريالية – بالأساس من بريطانيا وفرنسا – بصفتها "غريبة وناقصة"، مقارنة بالبيئة الأوروبية "الطبيعية والمثمرة". يعني هذا الحاجة إلى تدخل ما "من أجل تحسين واستعادة وتطبيع وإصلاح" هذه البيئة.
استخدمت السلطات الاستعمارية هذا التمثيل/التجسيد المخادع للتدهور البيئي والكارثة البيئية المفترضين لتبرير جميع أشكال السلب التي أقدمت عليها، فضلاً عن السياسات التي صممتها للسيطرة على السكان بالمنطقة وعلى بيئتهم الطبيعية. في شمال أفريقيا (وفي المشرق في ما بعد)، شيد الاستعمار الفرنسي سردية بيئية انطوت على مقولات التحلل والتفسخ والتدهور من أجل تنفيذ "تغيرات دراماتيكية، اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية". انطلاقاً من هذا المنظور، فإن السكان المحليين وبيئاتهم احتاجوا معاً إلى مباركة "رسالة التحضر الأوروبية" وعناية الرجل الأبيض.
دائماً ما تكون السرديات نتاجاً للحظة تاريخية، وهي لا تكون بريئة من المقاصد أبداً، ومن ثم على المرء أن يطرح السؤال: لمصلحة من يتم إنتاج المعرفة والتمثيلات والسرديات؟ ثمة مثال معاصر واضح، هو التمثيل الحالي لصحراء شمال أفريقيا، التي عادة ما توصف بأنها أرض فسيحة وخالية وميتة ونادرةُ السكان، ومن ثم تصبح وكأنها فرصة ذهبية لتقديم الطاقة الرخيصة لأوروبا حتى تستمر في نمط حياتها الاستهلاكي الباذخ وفي استهلاك الطاقة المفرط. هذه السردية الكاذبة تتجاهل أسئلة الملكية والسيادة بينما هي تخفي ورائها علاقات الهيمنة التي تيسر استنزاف الموارد وخصخصة المشاع وسلب المجتمعات. كما هو الحال في مناطق عديدة حيث حياة الناس وسبل معاشهم خفية أو "مخفية" لصالح الدول المُستعمِرة، "لا توجد أراضٍ خالية" في شمال أفريقيا. حتى عندما تكون الأراضي قليلة السكان، فإن البيئات التقليدية والأراضي لا تزال مغروسة في القلب من ثقافات ومجتمعات قائمة، ولابد من احترام حقوق الناس وسيادتهم في سياق أي تحول اجتماعي-إيكولوجي.
يفاقم تجذر النمط الاقتصادي الاستخراجي التصديري، التبعية الغذائية والأزمة الإيكولوجية مع الاحتفاظ بعلاقات هيمنة استعمارية وتراتبيات استعمارية جديدة.
من الأهمية بمكان تحليل الآليات التي يتم بموجبها "نزع إنسانية" الآخر، وكيف تُستخدم سلطة التمثيل وبناء التخيلات حوله (وحول بيئته) في تعميق بنى السلطة والهيمنة والسلب. في هذا الصدد، ما يوصف في منظور "الاستشراق" التحليلي بأنه "اللامبالاة بالإنسانية واختزالها ونزع الطابع الإنساني عنها" في الثقافات الأخرى أو لدى الشعوب أو المناطق الجغرافية الأخرى، مستمر حالياً في تبرير العنف الموجه ضد الآخر وضد الطبيعة. يتخذ هذا العنف صورة تهجير السكان والاستيلاء على أراضيهم ومواردهم، وجعلهم يدفعون الكُلفة الاجتماعية والبيئية للمشروعات الاستخراجية ومشروعات الطاقة المتجددة، مع قصف الشعوب وارتكاب المذابح بحقها وترك المهاجرين يغرقون في البحار وتدمير الكوكب تحت لواء التقدم. إن مقاومة وتفكيك الاستشراق والسردية البيئية النيوكولونيالية عن المنطقة العربية سوف تمكّن من وتتطلب بناء رؤى بحراك جماعي ضد آثار التغير المناخي، ومن أجل العدالة البيئية والتحول الاجتماعي-الإيكولوجي الذي تضرب جذوره في تجارب وتحليلات ورؤى مناطق أفريقيا والعالم العربي وغيرها من المناطق.
*الكتاب من تحریر حمزة حموشان وكایتي ساندویل، عن دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، 2023
• رابط النسخة العربية : https://shorturl.at/beopD
• رابط النسخة الانجليزية : https://shorturl.at/cgAS4
• رابط النسخة الفرنسية : https://shorturl.at/gwEMT