تقول الأسطورة إن فئراناً حمراء عملاقة، ذات مخالب نحاسية هي التي خرَّبت سدّ مأرب، وسبَّبت السيل العارم، تلك الكارثة اليمنية القديمة.. كما تقول الأسطورة أيضاً إن السيل العارم الذي سببه تفجُّر السدّ، هو الذي أدّى إلى تدمير دولة سبأ وتمزيق شعبها وتهجيرهم أشتاتاً إلى مناطق متفرقة في الجزيرة العربية..
لكن الشاعر والباحث الأكاديمي صادق القاضي يقول إن الفأر لا يمكنه تفجير سدّ ولو كان بحجم بغلٍ وأظافره من نحاس، ومجرّد تفجُّر سدّ لا يمكنه جرف أكثر من وادٍ، ولو كان بضعف حجم سدّ مأرب.
ويضيف: كعادة الأساطير الكبيرة، تحمل هذه الأسطورة شيئاً من الحقيقة التاريخية، وإن عبَّرت عنها بطريقة جانحة في الرمزية والكناية الخيالية، مرجّحاً غرق مملكة سبأ بأزمات سياسية استفحلت وسببت أزمات اقتصادية واجتماعية طاردة مزقت بمجملها شعباً ودمرت وطناً وحضارة كانت ملء سمع وبصر الزمان والمكان. ولفت إلى أن الأسطورة عبرت بطريقتها عن الدولة بالسدّ، كما عبرت بالفئران عن قادة مراكز القوى الفئوية الذين ينخرون في بنية الدولة من الخارج والداخل.. قصد تدميرها. وعندما تدمَّر يغرق الجميع بسيلٍ جارفٍ من الصراعات والأزمات الطاحنة. وهذا الأمر يحدث اليوم.
"تفرقت أيادي سبأ" وانهارت واحدة من أقدم الحضارات البشرية. لكن المناجذ تجتاح اليمن اليوم وكأنها لعنة أزلية، حاملة معها بكتيريا "الطاعون" التي يقول عنها ألبير كامو إنها "لا تموت ولا تزول أبدا، وأنها يمكن أن تبقى عشرات السنين نائمة في قطع الأثاث والغسيل، تنتظر بطول أناة في الغرف والأقبية وصناديق الأمتعة والمناديل والورق، وقد يجيء يوم، لبلية البشر وعبرتهم، يوقظ فيه الطاعون مناجذه ويرسلهم كي يموتوا في مدينة هانئة".
انتشار وباء الكوليرا
ليس الطاعون عند ألبير كامو حقيقياً، فمدينة وهران الجزائرية لم تعرف الطاعون في أواخر أربعينيات القرن الماضي زمن صدور الرواية.
لكن الطاعون أو الكوليرا تفشى حقيقة في اليمن.. وناشدت منظمة الصحة العالمية منتصف تشرين الأول/ أكتوبر المجتمع الدولي توفير دعم عاجل للحيلولة دون انتشار الوباء. وقالت المنظمة في بيان لها إن خطة مكافحة الكوليرا تتطلب توفير 22.35 مليون دولار، بعد أن سُجّلت 340 حالة مشتبهاً بإصابتها به، منها 18 حالة مؤكدة في محافظات تعز والحديدة وصنعاء والبيضاء وعدن ولحج. وذكر البيان أن أكثر من 7.6 ملايين شخص يعيش في مناطق متأثرة بمرض الكوليرا، كما أن أكثر من 3 ملايين نازح معرّضون تعرضاً خاصاً لخطر الإصابة. ولفت إلى أنه إذا لم يواجه الوباء سريعاً، فمن المحتمل أن ترتفع حالات الكوليرا، مع ظهور أكثر من 76,000 حالة إضافية مشتبه بها في 15 محافظة، بما فيها أكثر من 15,200 حالة بحاجة إلى تلقي العلاج في مراكز متخصصة.
وبحسب البيان، فإن استمرار الصراع في اليمن أدى إلى عدم تمكّن نحو ثلثي السكان من الحصول على المياه النظيفة وخدمات الصحة البيئية، خصوصاً في المدن، ما أدى إلى ازدياد خطر الإصابة بالكوليرا.
وذكر أن الوضع الصحي أصبح أكثر تعقيداً بسبب شحّ الموارد، ونتيجة لنقص الكوادر الطبية والأدوية والمستلزمات الطبية، إذ إن 45 في المئة فقط من المرافق الصحية في اليمن لا تزال تعمل بشكل كلّي.
كارثة كاملة الأركان
حوّلت الحرب الوضع في اليمن من أزمة إنسانية قبيل اندلاعها في آذار/ مارس 2015، إلى ما يشبه كارثة كاملة الأركان. تقول الأمم المتحدة إن أكثر من نصف سكان اليمن البالغ عددهم 26 مليون نسمة يعانون انعدام الأمن الغذائي، وقد نزح 2.8 مليون شخص من ديارهم بسبب القتال.
وصار سكّان محافظة الحُديدة التي عرفت بـ "سلة اليمن الغذائية " لاحتضانها سهول تهامة الزراعية، يواجهون اليوم خطر الموت جوعاً. ووصف وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية مناظر المجاعة التي شاهدها في اليمن بعد زيارة له إلى الحديدة مطلع تشرين الأول/ أكتوبر بالمروّعة: "شاهدتُ أطفالاً رُضَّعاً في المستشفيات شديدي النحافة ولديهم سوء تغذية حادّ، الأمر مروّع للغاية ومرعب جداً".
في هذا البلد القابع في الركن الجنوبي - الغربي للجزيرة العربية، الذي يحتلّ المرتبة 151 من بين 177 بلدا في تقرير التنمية البشرية، يعيش الملايين من البشر "فصلا في الجحيم": حربا وفقرا وحصارا ومقاتلين مهووسين بالموت وضحايا تتوالى أعدادهم.. ملامح الحزن تكسو وجوه اليمنيين، والأنين والشكاوى صارت لغة الناس الطبيعية.. وانتزعت الحرب من الجميع القدرة على الحب بل حتى على الصداقة.
رفعت الأمم المتحدة تقديراتها لعدد قتلى الحرب في اليمن خلال الأشهر الـ19 الماضية إلى 10,000. لكن بالنظر إلى حجم القتال ومشاهد النعوش اليومية وعدد المقابر المستحدثة فإن هذا الرقم قد لا يُطابق الواقع.
لا صليب ولا شمعدان
لقد مزّقت الحرب النسيج المجتمعي وفقد اليمنيون روح التعايش وفكّك الرصاص اليمن إلى إقطاعيات طائفية ومناطقية.. شمال زيدي وساحة حرب مفتوحة للسعودية ضد إيران، ووسط سني ومسحوق تحت نار الحرب الأهلية، وجنوب صار منطقة محرّمة على كل شمالي وعلى كل جنوبي من أصول شمالية، ومع ذلك فهو مقسم بين حراك يريد الانفصال وتشكيلات للقاعدة وداعش.
في اليمن لا تُسمع أجراس الكنائس ولا وجود لصور يسوع ولا لمريم العذراء على الرغم من قدم المسيحية هناك وتجذّرها إلى أكثر من ألفي عام مضت. كذلك بنى البريطانيون الذين احتلّوا جنوب اليمن 129 عاماً 13 كنيسة. وبعد الاستقلال وخروجهم من عدن عام 1967 طال الإهمال تلك الكنائس وتقلص عددها إلى اثنتين.. واحدة بروتستانتية في حي التواهي كانت تقدم خدمات للمسنين واقتحمها قبل أشهر تنظيم القاعدة وقتل العشرات.. والثانية كاثوليكية في البريقة تم تحويلها إلى مسجد.. واليوم لا صليب ولا شمعدان ولا إنجيل ولا توراة.. سعيد الناعطي وزوجته مزال وهما يهوديان في مدينة ريدة بمحافظة عمران آخر ما بقي من يهود اليمن.
كانت اليمن إلى ما قبل الإسلام يطلَق عليها "بلاد العربية السعيدة" و "البلدة الطيبة " و "أرض الجنتين"، وطوع أهلها شامخات الجبال واتّخذوا منها مساكن ومدرجات، وشيّدوا فيها حضارات سبأ وذو ريدان وحمير ومعين وأوسان وقتبان. وكانت الملكة بلقيس تتربع على العرش مكشوفة الساقين محاطة بـ "الأقيال والأذواء". لكن حفيداتها اليوم متشحات بالسواد بعد غزو الوهابية اليمن من صحارى نجد. مستبدلات الحرير واللبان والبخور بـ "الحجاب والنقاب".
وفي القرن الثالث الهجري قدم الإمام يحي ابن الحسين الرسي الملقب بـ "الهادي" من الحجاز إلى صعدة ليزرع بذرة التشيع بعد انقراض "دودة القز" في اليمن. نشر الهادوية كمذهب أوصله إلى السلطة التي صارت كـ "حقّ إلهي" له ولأحفاده وصولا إلى السيد عبد الملك الحوثي.
وفي ثمانينيات القرن الميلادي الماضي عاد مقبل ابن هادي الوادعي من السعودية كتلميذ نجيب لمشايخ الوهابية ليؤسس "مركز دماج السلفي " في صعدة على مسافة 15 كلم من مسجد الهادي، لتشتعل فتنة التطرف المذهبي وتتصاعد الحروب الكلامية بين السنة والشيعة وبينهما الشيخ عبد المجيد الزنداني ومعاهد الإخوان المسلمين.
ومثلما "مسكينة هي المكسيك لبعدها عن الله وقربها من أميركا"، كذلك هو اليمن مسكين فلو لم تكن السعودية جارته و "الشقيقة الكبرى" لتجاوز الكثير منذ زمن.
الحلّ يبتكر
لا مخلِّص لليمنيين من مستنقع الحرب الأهلية والطائفية وشبح الموت جوعاً. فـ"من يشترك في الحرب لا يكَد يعرف ما عسى أن يعنيه رجل ميت". الرئيس السابق علي عبد الله صالح لا يزال مسكوناً بشهوة الانتقام، والسيد الحوثي لن يكون "الإمام الثاني عشر"، والرئيس هادي ليس "مانديلا اليمن " كما وصفه الصحافي الشهير توماس فريدمان في زيارة له إلى صنعاء منتصف عام 2013... بل هو نسخة رديئة من الجنرال "سانتانا" دفعه الحظّ ليكون رئيساً للمكسيك في عام 1833، وكتب القدر أن تعاني على يديه الانتكاسة تلو الأخرى بسبب جهله السياسي وضيق أفقه.
ولكن ألبير كامو خلص في نهاية روايته إلى أن الطاعون الذي أصاب وهران صنع مقاومة داخلية للوباء، غيَّر من سلوكيات أناس كانوا حتى تلك اللحظة لاهين ومنغمسين في شؤون حياتهم الخاصة. كما أن التحدي الذي طرحته عليهم الجثث الملقاة في الشوارع، والمناجذ التي احتلّت المدينة، أعادت تشغيل آليات مقاوِمة، تضامن وعمل جماعي، كانت معطلة أو غير مختبَرة. كان على وهران التي حوصرت وراء سياج الطاعون ألا تنتظر العون الخارجي. كان عليها أن تبتكر الحلّ من الداخل.