الخمر يسري في عروق بلاد الرافدين منذ آلاف السنين. به ترطّبت الرُقُم المسمارية، وعلى إيقاع قرع كؤوسه غنّى أبطال أساطير سومر وبابل وأكد وآشور، وطُرزت مذابح الآلهة القديمة بآنيته الذهبية. في أحلك الليالي وأقسى النهارات، ظلّ العراقيون أوفياء لنشوة الثمالة، درعهم الواقي من صروف الزمان. وفي ذروة مجد بغداد العباسيين، حفلت الحانات بأعذب ما تصنعه مخيّلة الشعراء وهم يذيبون حُسن القيان في دنانهم، ليرتشفوا الزهو الدنيوي وظهورهم محمية من سياط الناهين عن الحياة. من تلك الأيام المتلألئة يطلّ أبو نواس على وجدان العراقيين بخمرياته الخالدة التي صاغها إسماعيل فتاح الترك كأساً في القبضة اليسرى لتمثال الشاعر الذي يتوسط ــ منذ سبعينيات القرن الماضي ـ واحداً من أشهر وأجمل شوارع بغداد: شارع "أبو نؤاس" (هكذا يُلفظ اسم الشاعر/الشارع في اللهجة العراقية).
كأن الكأس التي يحملها تمثال الشاعر تريد مشاكسة ناظرها وإخباره بأن هذه المدينة تفقد طعمها ورائحتها إذا ما شُفط الخمر من أحشائها. الشارع لم يخذل الشاعر، فقد عُرف منذ إنشائه في ثلاثينيات القرن الماضي بأنه موطن الحانات ودفتر حكايات السكارى، إلى جانب كونه ملاذاً للعشاق ومقصداً لمتذوّقي السمك "المسگوف". من يخبر أصحابه بأنه كان يتسكع في "أبو نؤاس"، سيحصل منهم على ابتسامات ماكرة ونظرات خبيثة تبحث في سلوكياته عن بقايا الخدر الروحي حتى وإن كان من غير الشاربين. يجاور الشارع نهر دجلة من جهة، وشارع السعدون ومنطقة الكرّادة من الجهة الثانية، وتشكل هذه الرقعة المتكئة على دجلة (شارع أبي نواس وشارع السعدون والكرادة) مستودعاً رئيساً لزجاجات الخمر في بغداد، ففي خواصر أزقّتها تنتشر غالبية حانات المدينة ونواديها الليلية المغلفة بالـ "الكوبوند" خشية على الآداب العامة. الليل في تلك الخواصر ذكوري بامتياز، ولا تحضر الأنثى فيه إلا بصفتها غانية أو متّهمة بذلك. تنطلق قهقهات الرجال وأصوات أسمارهم من كل صوب هناك بعدما يكونون قد أنهوا جولة احتساء وتوجهوا إلى أحد مطاعم الشواء و"الباچة" التي تتخذ من الأرصفة مرابض لطاولاتها المتناثرة تحت بياض ضوء المصابيح.
تلك المشاهد، على بساطتها ونواقصها وعلاتها، تخفف شيئاً من عبء الظلام وخفافيشه في بغداد الباحثة عن ذاتها التي ضللتها بوصلة الأيام. تلك المشاهد رفسة أمل في جسد المدنية المشلول كلياً في العراق، وهي رفسة ظلت ملاحَقة طيلة سنوات مضت، وجرت محاولات عديدة للإجهاز عليها، كانت آخرها قبل أيام، حين تم تمرير فقرة ضمن قانون صوت عليه مجلس النواب يُحظر بموجبها استيراد وتصنيع وبيع الخمور في العراق.
طمأنينة قلقة
أحزاب الإسلام السياسي وتنظيمات التطرّف لم تسمح، منذ 2003 لغاية الآن، بالظهور العلَني للخمر في جميع محافظات العراق ــ باستثناء محافظات كردستان ــ لكنها سمحت بظهوره في بغداد، ولا يُعرف بالتحديد ما الذي ــ أو من الذي ـ خلّص بغداد من زنزانة الكبت. ربما كبر بغداد وتعدد ثقافات وتوجّهات سكّانها جعل غضّ النظر عن بعض "المنكرات" فيها أمراً ممكناً، خلافاً لبقية المحافظات التي تقترب من كونها مجتمعات صغيرة محافظة متدينة عشائرية شبه مغلقة لا تتقبل وجود "مظاهر الفساد". وفضلاً عن ذلك، فربما كانت هناك ضغوط خارجية تهدف إلى فكّ القيود عن الحريات العامة، في العاصمة على الأقلّ. بقي التساؤل يحوم حول الحانات ومحال بيع الخمور والنوادي الليلية في بغداد: لماذا لا تتعرّض لهجمات؟ واكتفى طارحو هذا السؤال بالإجابة المتداولة عنه: "الأحزاب تقبض من هذه الأماكن مقابل توفير الحماية لها". هذه الإجابة ظلت كلام شارع إلى أن أكدها أحد أعضاء مجلس النواب لاحقاً.
الحذر والتوجس لم يغيبا كلياً عن طاولات الشراب، والجالسون إليها لا يشعرون بطمأنينة كاملة، لأن بعضها يتعرّض بين مدة وأخرى إلى إطلاق نار أو إلقاء قنبلة يدوية أو اقتحام يتضمن ضرب الزبائن بالهراوات والأرجل، كل ذلك يحدث بشكل مباغت ولأسباب لا يمكن العثور عليها إلا كتكهنات. هذه الملاحقات غير القانونية المتكررة، لطالما أريد تغطيتها بالقانون من بعض الأطراف السياسية، لكنها كلما تحركت نحو هذا الهدف، تعثرت بمطبّات الرفض الشعبي والضجّة الإعلامية المناهِضة. قبل أيّام صوت مجلس النواب على قانون "واردات البلديات"، وقد تضمن فقرة تحظر الخمور، وما إن خرج الخبر إلى العلن حتى بدأت ردود الأفعال الغاضبة والراضية تمتزج داخل صندوق الأزمات العراقي. قال النواب "العلمانيون" إن هذه الفقرة لم تكن موجودة عند إتمام القراءتين الأولى والثانية للقانون، وإنها "دسّت" فيه يوم طرح للتصويت. وقال النواب "الإسلاميون" إن الفقرة لا تعارض الدستور ولا أسس الديمقراطية القائمة على مبدأ "حكم الأغلبية"، والأغلبية مسلمة في العراق، وعندما سئلوا عن المسيحيين والصابئة والأيزيديين، قال أحد نواب كتلة المالكي إن "الفقرة لم تنصّ على منع شرب الخمر، وإنما نصت على منع استيراده وتصنيعه وبيعه فقط"!
محاولات الصدّ
لم يقتنع أحد بأن الغاية من هذه الخطوة نيل رضا الله، فكثرت الشكوك والاتهامات بأن الأحزاب الإسلامية تريد رفع سعر الخمور لتحقيق مكاسب أكبر عن طريق هذه التجارة التي تسيطر عليها. وذهب البعض إلى أن الهدف خلق سوق مستهلكة للمخدرات القادمة من إيران، فيما رأى آخرون أن تزامن إثارة هذا الموضوع مع انطلاق معركة تحرير الموصل ينطوي على غايات سياسية تآمرية. تجسّدت تلك الرؤى في منشورات الناشطين المدنيين ورسامي الكاريكاتير وكتاب الأعمدة والناس في الشارع، إلى أن ظهر نائب عن "التحالف المدني" في مؤتمر صحافي بمجلس النواب ليفتح نيراناً كثيفة على الأحزاب الإسلامية والتي خص منها الشيعية تحديداً. اتهم تلك الأحزاب بالهيمنة على تجارة الخمور في بغداد ومحافظات الجنوب التي تتسلل زجاجات الجعة والعرق والويسكي سراً إلى أزقتها، كما اتّهمها باستحصال أتاوات من الحانات والنوادي الليلة، وكل ضمن منطقة نفوذه. ثم صدم الرأي العام بوجود مزارع مخدرات في بعض محافظات الجنوب، وهذه المزارع بدأت تؤتي ثمارها، ولذلك صار لزاماً منع الخمر لتحلّ المخدرات بديلاً. هذه الجعجعة دفعت رئيس الجمهورية فؤاد معصوم (وهو كردي من حزب جلال طالباني العلماني) إلى إصدار بيان تضمن رفض المصادقة على القانون وإعادته إلى مجلس النواب من أجل مراجعته و "تصويبه مما طرأ عليه وبما يحترم الحريات وحقوق المواطنين من مختلف الديانات والمذاهب"، في إشارة واضحة إلى ضرورة تخليص القانون من فقرة حظر الخمور. كما تعهّد عدد من النواب بالطعن بالقانون لدى المحكمة الاتحادية، بينما أشار مقرر مجلس النواب إلى إمكانية حذف فقرة حظر الخمور من القانون عبر تقديم مقترح قانون لتعديله، على أن يتمّ ذلك بالتوافق السياسي بين الكتل النيابية.
هدأت الفورة بعد ذلك، وانشغل الناس بالمكاسب التي تحرزها القوات الأمنية في الموصل. أبواب الحانات ومحال بيع الخمور التي أوصدت مع بداية شهر محرم ما زالت تنتظر "فرحة الزَهرة"، موعد انتهاء مراسم الحزن الحسيني. وأبو نواس ينظر إلى بغداده التي هاجم بعض ساكنيها تمثاله ذات يوم.. ينظر إليها وهو يريد رؤيتها تتبدّى في القميص القريب اللون من شفق الغروب الذي أهدته الشمس لها، والكرخية المعتقة تحيي نفوس أكفائها بين ورد يضحك وأوتار تصطخب.